إشكاليّة غائية الزواج وآثارها الاجتماعية
لمَّا خلق الله -تعالى- آدم -عليه السلام- لعبادته؛ شاء الله أن يجعل له وسيلةً تعينه على عناء الحياة الشاقّة؛ ألا وهي الزواج من نفسٍ خُلقت منه ليسكُن إليها، فيضع عندها ما أثقل ظهره خارج البيت، تمسح عنه علائق الدنيا الكئيبة، وتسمو به في فضاء الحب بينهما؛ فيأخذ عُدَّته لمواجهة يوم آخر في هذه الدنيا المقيتة لولا عبادة الله.
روى السدي في تفسيره بسنده عن ابن عباس -رضي الله عنهما-، قال: أُسكِن آدم الجنة، فكان يمشي فيها وَحْشًا ليس له زوج يسكن إليها، فنام نومة فاستيقظ، وإذا عند رأسه امرأة قاعدةٌ خلقها الله من ضلعه، فسألها: من أنت؟ فقالت: امرأة. قال: ولم خلقت؟ قالت: لتسكن إليّ”.
فكان من حكمة الله -تعالى شأنه- أن فطر الرجل على الحاجة إلى السكنى إلى امرأة تمسح عنه رغام الحياة، وتقول إنما خُلقت لتسكن إليّ ولو كان في الجنة لاستوحش بدونها، كما كان من أبينا آدم -عليه السلام-. وهكذا كان الأولون حتى وصلنا إلي آخر الزمان حين انقلب كل شئ وصارت الوسيلة غاية والغاية وسيلة. وإنا لله وإنا إليه راجعون.
كانوا قديمًا يعلمون غايتهم من الحياة؛ ألا وهي عبادة الله -تعالى شأنه-، ثم يعلمون الوسائل التي توصلهم إلى هذه الغاية العظمى، ويعلمون أن إحدى أعظم هذه الوسائل الموصلة إلى رضا الرب -جل ثناؤه- هي الزواج الناجح الذي يقوم على رجل نبيل يعول بيته ويحوطه من ورائه، وامرأة قانتة رحيمة تحنو على ولدها وترعى حق زوجها. وكلٌّ يتقي الله قدر وُسعه، ويسأل الله العون على ما يشق عليه من مكابدة الحياة.
والكلام عن إشكالية غائية الزواج طويل الذيل جدًا؛ ولكن غرضي هنا في هذا المقال المختصر هو تسليط الضوء علي أحد جوانب هذه الإشكالية، ومدى تأثيرها على ظاهرة التبرج وانتشارها بين نساء المسلمين، وظاهرة اتخاذ الأخدان ومدى انتشارها بين شباب وبنات المسلمين، وظاهرة تأخر الزواج التي تؤرق بيوت المسلمين، وظاهرة نبذ المطلقات في المجتمع المسلم؛ التي كانت ولا تزال غريبة عليه فهو يرسف في أغلالها والمطلقات تئن من شدة وطأتها عليهن. والله المستعان.
لو تكلّمنا عن أسباب تحوُّل الزواج من وسيلة شرعية للوصول لغايةٍ سامقة رفيعة؛ وهي رضا الله عن طريق إحصان النفس وسمو الروح وتربية النشء وعمارة الأرض، إلى صيرورتها غاية عند أغلب الناس وعند النساء أي الأمهات خاصة؛ فمن الممكن أن نقول إن أحد أهم الأسباب لذلك هو قلّة الوعي الديني بأولويات الإنسان في هذا الكون وما عليه تجاه ربه -جَلَّ ثناؤه-، ثم تجاه نفسه التي بين جنبيه وأيهما حقه السابق. ثم ظن كثير من الناس أنه ما جاء لهذه الحياة إلا ليتعلم التعليم النظامي الرديء، لكي يعمل في وظيفة رتيبة، ويتزوج بامرأة ويقضي وطره، ثم ينجب ما شاء الله له، ثم يعمل لإطعامهم وكسوتهم ورفاهيتهم فقط، ثم يموت كما يموت البعير حتف أنفه، في دائرة يدور فيها ثم يسقط هرَمًا، وهكذا أولاده من بعده. وبالتالي صار الزواج غايةً لتمام هذه الدورة المادّيَّة المَقيتة لحياة الإنسان المعاصر.
فقد صارت غائية الزواج الآن إشكالية فكرية غيرت وعي الإنسان المعاصر. ليصير على ضربين: ضربٍ لا يعلم ما غايته أصلًا من الحياة؛ فهو سائر كما الناس سائرون في هذه الحياة، يتزوج مثلهم وينجب مثلهم وسيموت كمثلهم. وهذا النموذج المتهالك ليس محور حديثنا الآن. وضربٍ من الناس صارت غايته في الوجود أن يتزوج لينجب ويربي أولاده، ثم غايته بعدُ أن يزوجهم. فإذا زوجهم فقد أكمل غايته في الحياة. وهذه هي الإشكالية الفكرية التي نتحدث عنها الآن، والتي أثرت في حياة الناس في غالب مناحي حياتهم، حتى كادت تؤثر على المجتمع كله، فتغير معالمه التي كانت تميزه عن باقي المجتمعات التي لا تدين بدين الفطرة.
كيف أثرت على انتشار ظاهرة اتخاذ الأخدان؟
إن اعتقاد الإنسان الخاطيء أن الزواج بالنسبة له غاية يعيش من أجلها، يجعله يجتهد في البحث بكل وسيلة ممكنة عن خِدن للوصول لهذه الغاية، بل قد يجزن إذا لم يستطيع إيجاد خِدن يتخذه ليصل إلى غايته وهي الزواج. فتجد الفتاة في مرحلة الثانوية أو قبلها تريد أن يصاحبها شاب فيعرض عليها ذلك أو تعرض عليه هي لماذا؟ أولًا لأنها تظن أن إشباعها عاطفيًّا هذا بمجرده هدفٌ من أهداف الحياة؛ فهي تعيش من أجله ولا ترى غيره هدفًا لها، وهذا يظهر منها حالًا أكثر منه قولًا. ثانيًا هي تتمنى أن الذي يصاحبها هذا سيكون زوجها وتظن منه أيضًا -جهلًا- أنه سيتزوجها في النهاية، وأن هذا غايته منها؛ فبالتالي تكون وصلت للغاية من حياتها كما تظن!
إذن يكون التعامل من بعض الفتيات مع من لم تصاحب شابًّا في فترة مراهقتها وشبابها؛ أنها غريبة ومنبوذة، لأنها لا ترنو إلى غايتها من الحياة، ولم تسعَ لها السعي الحثيث بأن تتخذ خِدنًا تؤمل -جهلًا منها- أنه سيتزوجها كما صار يظن باقي المجتمع!
إذن، لا بد عند معالجة أو تحصين البنات الصغيرات من ظاهرة “اتخاذ الأخدان” تقويمُ نظرة الفتاة عن الغاية من خلقها ومجيئها إلى هذه الحياة، والتي هي ليست الزواج قطعًا؛ بل عبادة ربها والسعي في رضاه، وهو الذي حرَّم عليها اتخاذ الأخدان. فغايتها الحقيقية في رضاه عنها أن تتقي الله ولا تتخذ خِدنًا تعصي الله معه، وتخون ثقة أبيها وأخيها، ونعلّمها أن زوجها قد كُتب لها من يوم خُلقت في رحم أمها، وسيأتيها ما كُتب لها لا محالة؛ فلا داعي لأن تستنزف روحها وعاطفتها مع الأخدان في الحرام ثم هي لن تتزوج إلا من كُتب لها.
علاقة إشكالية غائية الزواج بتبرج النساء
تلك الفتاة التي لم تجد من ينظر إليها عندما كانت في الثانوية؛ فيصاحبها أو تريد جذب الانتباه أكثر لتكون فرصتها أكبر؛ فهي لم تحقق الغاية من حياتها بعدُ، فتبدأ في سباق جذب الانتباه أكثر بإظهار مفاتنها الجسدية باللباس الضيق أو بالمكياج الخفيف أو حتى الكثيف المخيف، وإظهار مفاتنها الروحية بالخضوع بالقول وتليين الكلام لماذا؟ لأنها لا بد أن تتزوج لأنها وصلت لسِن تعيّرها به أمها أو خالتها أو أم سميرة جارتها، أو لا بد أن تتزوج الآن وهي صغيرة لأنها تخشى أن تصل لسن تعيّرها فيها النساء بأنها لم تحقق غايتها من الحياة. وما فائدتها في الحياة إن لم تتزوج! هكذا فهمت من النساء الكبار.
إذن لابد من الوصول للغاية من حياتها كما وصلت إليها سميرة جارتها. لكن سميرة جميلة ويسارع الخطاب إليها؛ إذن فلنأتِ بمن يحقق لنا هذه الغاية ولو على حساب الدين، لأن الزواج هو غاية تلك الفتاة من الحياة. فهنا تظهر الميكافيلية الشخصية وتكون الغاية مبررة للوسيلة؛ فلا بد أن تتبرج وتذهب للأفراح لعرض نفسها على الذكور لعل أحدهم يحقق لها الغاية من حياتها. أو هي جميلة ولكن لكثرة ما تشبعت بفكرة غائية الزواج تريد الاستعجال لتحقيق تلك الغاية. وهنا لا نوقف أسباب التبرج على التشبع بإشكالية غائية الزواج فقط؛ فله أسباب كثيرة شرعية ونفسية، ولكن غائية جزء أصيل من أسباب انتشار تلك الظاهرة المقيتة في هذا الزمان.
لذلك، لا بد عند معالجة ظاهرة التبرّج تصحيح وجهة نظر الفتاة للزواج وأنه وسيلة إلى ربها وليس الغاية من خلقها. فإذا جاء الزوج الصالح كان بها ونعمت، وإلا فهي سائرة إلى ربها -جلَّ ثناؤه- ترجو رحمته وتخشى عذابه، ولن تطلب رزق الله من الزواج والذرية بمعصيته من تبرج واختلاط وخضوع بالقول، ومن رحمة الله أن ليس في الجنة أعزب. وكل قدر الله خير.
علاقة غائية الزواج بتأخر الزواج في أوساط الشباب
العلاقة هي كون اعتقاد الشاب أن الزواج بالنسبة له هو الغاية من حياته أيضًا؛ جعله يظن أنه قد تعلّم وبحث عن عمل لأجل الزواج فقط؛ فيجعله ذلك على خوف شديد من الاختيار الخاطئ أي يخاف أن يعجّل بالزواج فيختار امرأة لا تصلح له، فيضطر لتطليقها؛ وبالتالي فقد فشل في الغاية من حياته وخسر غايته الوحيدة وهذا إحساس مرعب حقًّا. وهو أن يظن الإنسان أنه قد يخسر الغاية من خلقه بسبب قرار خاطئ.
والناظر في حال الناس قديمًا يجد الرجل يتزوج ويطلق -إنْ اضطر لذلك-. وهو في هذا لا يتعامل مع الزواج على أنه غاية، بل هو وسيلة يتبلّغ بها إلى الجنة. فإذا أخطأ الاختيار أو لم يتوافق مع زوجته وكلاهما صالح فلا بأس، يتفرقان ويُغني الله كُلًّا من سعته. لذلك تجده عند الاختيار لا يتوتر كثيرًا، ولا يتردد ويُفوّت على نفسه فرصًا كثيرة مناسبة خشية الفشل الذي قد يضيع منه غايته. وهذا كثير في سير الصحابة والتابعين والأئمة من بعدهم -رضي الله عنهم-.
وأيضًا لا نقول إن هذا هو السبب الوحيد في تأخر كثير من الشباب، في أخذ الخطوة الأولى في الزواج؛ وهو التقدم لخطبة الفتاة. ولكن هناك أسباب كثيرة، أهمها إشكالية الطفولة الاقتصادية التي نشأت مع طول مدة الدراسة، وقلة تحمل المسؤولية حتى سن متأخر، والأوضاع المادية، ثم الأعراف الجاهلية عند التجهيز والزواج، وغير ذلك من الأسباب التي تضع الحواجز أمام الشباب؛ فتحجزه عن التقدم للخطبة.
ولكن كون غائية الزواج سببًا في تأخر الزواج يجعلنا إذا أردنا تقويم فطرة الشباب بمساعدته على الزواج المبكر نلفت نظره إلى معالجة هذه الإشكالية والتعامل مع فكرة الزواج على أنها وسيلة لغاية عظمى. وبالتالي إذا اختار وقدر الله له عدم التوفيق في الاختيار؛ فالرجوع خطوة للخلف بالطلاق ليس نهاية لغايته ولا ضياعًا لها، فيخف عن كاهله كثير من توتر عدم التوافق بعد الزواج، ويقل كثير من التردد عن الاختيار وما شاء الله كان ما لم يشأ لم يكن.
علاقة غائية الزواج بنبذ المطلقات
ما ظاهرة نبذ المطلقات في المجتمع فلا إخالها إلا بسبب اعتقاد الناس بغائية الزواج. فتلك الفتاة عندما زوَّجها أهلها، كانوا يظنون أنها بهذا قد وصلت للغاية من وجودها في هذه الحياة، ولم يعد بعد ذلك غاية يعدون له عدةً. فلما كان من قدر الله أن طُلقت كانت بالنسبة لهم كأنها أخطأت وِجهتها وصلت طريقها، وفشلت في الغاية من خلقها وخسرت كل شيء فلا تستحق إلا النبذ!
وحتى إذا فكر أحد في الزواج منها أعاد النظر كثيرًا في الزواج من امرأة فشلت في الغاية من حياتها، في زواجها الأول، وانتابه القلق الكبير من الإقدام على الزواج ممن سارت إلى غايتها ثم رجعت القهقرى إلى الصفر فخسرت غايتها فكيف ستحقق له غايته إذن!
لذلك قد تُعيَّر المطلقةُ من أمها وأخواتها لأجل أنها مطلقة. لماذا؟ لأنها كانت قد وصلت للغاية من حياتها في زواجها الأول؛ فلما انتكست عن غايتها كأنها خسرت كل شيء فما فائدة وجودها إذن؟ هي حينئذ كغيرها من الأثاث في البيت بعد ذلك، قد انطفأت جذوة روحها إذ فشلت في تجربتها الوحيدة وغايتها المفردة، فلا تستحق الإكمال بعد ذلك، فلتعش كئيبة تعيسة حتى تموت، بل وتصبح عبرة لغيرها فَيُقَالُ لا تكوني مثل فلانة فشلت في الغاية من زواجها فطُلّقت. وكذلك في حالة بعض الأرامل. ولكن على اختلاف أن هذه خسرت الغاية من حياتها رغمًا عنها، والمطلقة تركت حبل غايتها وطوق نجاتها بنفسها.
هذا وقد كانت الفاضلات من نساء الصحابة؛ تُطلّق المرأة منهن، ثم تتزوج وتكمل حياتها والسير إلى الغاية الحقيقية من حياتها؛ ألا وهي الجنة راضية بقدر الله، صابرة على قضائه -رضي الله عنهن-. وحسبُنا أن غالب أمهاتنا أمهات المؤمنين لسن أبكارًا إما مطلقات أو أرامل. ولم يكن في المجتمع المسلم آنذاك هذا التشنّج المقيت في التعامل مع الطلاق والمطلقات هذا؛ لأن المسلمين إذّاك كانوا يتعاملون مع الزواج على أنه وسيلة من الوسائل لا غاية.
فعند علاج ظاهرة نبذ المطلقات في المجتمع، نحتاج لتصحيح نظرة الناس عن غايتهم الحقيقية من الحياة؛ ألا وهي رضا الله -جلَّ ثناؤه-، والجنة، وأن الزواج وسيلة موصلة إلى هذه الغاية العظمى، مع وسائل أخرى كثيرة من أنواع العبادات والمعاملات والأنشطة الحياتية التي تصير عبادة بالنيّة. فمن لم تُوفَّق في زواجها، وكان الحل الأمثل لها هو الطلاق؛ لم تخسر كل شيء ولم تفقد وِجهتها وتضيّع غايتها، بل هي سائرة إلى ربها بباقي الوسائل الموصلة إليه، من أنواع العبادات والمعاملات والأخلاق والأنشطة. ثم إن قدر الله لها الزواج ثانيةً؛ فهو وسيلة امتن الله بها عليها لعلها تصل بها أسرع إلى غايتها العظمى، وإلا فالحمد لله ليس في الجنة أعزب. وكل قدر الله جميل.
هذا والكلام عن الزواج وتشوهاته في المجتمع ذو شجون. والله المستعان على ما أحدث الناس من عادات جاهلية أفسدوا به خَلقًا كثيرًا. قال أشبه الناس سَمتًا وهَديًا بالنبي ﷺ عَبدِاللَّه بن مَسعُود -رضي الله عنه-: قَالَ لَنَا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: “يَا مَعْشَرَ الشَّبَابِ، مَنِ اسْتَطَاعَ مِنْكُمُ الْبَاءَةَ فَلْيَتَزَوَّجْ، فَإِنَّهُ أَغَضُّ لِلْبَصَرِ، وَأَحْصَنُ لِلْفَرْجِ، وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَعَلَيْهِ بِالصَّوْمِ؛ فَإِنَّهُ لَهُ وِجَاءٌ”. وصلى الله وسلم على نبّينا محمد نبي الفطرة السويّة والمَرحمة العليّة وسلَّم تسليمًا كثيرًا.
مقال جميل جداً جدير بالقراءة والتمعُّن في معانيه جيداً
شكراً جميلاً ???? ????
ماشاء الله
مقال رائع