من دروس نكبة فلسطين: حرية الشرق في مفهوم الغرب-الجزء الأول
تحرير البلاد من أهلها والأملاك من أصحابها
كان شعار الحرية أو التحرير هو التبرير الذي قدمه الغرب دائما كلما أراد العدوان على الشرق منذ الحملة الفرنسية على مصر، فمن تحرير المصريين من استبداد المماليك، إلى تحرير سوريا من نير محمد علي باشا، إلى تحرير المنطقة من تجارة الرقيق، والقضاء على القرصنة في خليج البصرة وساحل شمال إفريقيا، إلى تحرير العرب من استبداد الأتراك، إلى تحريرهم من استبداد حكامهم الذين لا يروقون للغرب، إلى تحرير الكويت، ويدلنا تاريخ الفكر الصهيوني عن معنى هذا التحرير الذي كان الغرب يقصد جلبه للشرق وأنه ليس سوى تحرير البلاد من أهلها ليكون الغربيون أحراراً في استغلالها استغلالاً يختلف حسب اختلاف المصالح سواء بسلب الأرض أو نهب الثروات أو استغلال المواقع، وأن التحرير الحديث لا يختلف عما فعله الفرنجة الصليبيون الذين”حرروا القبر المقدس” ليستولوا بهذا الشعار على بلادنا، وتقدم الصهيونية حالة نموذجية للاستغلال الذي مارسه الغرب في عموم بلادنا بأشكال متباينة تحت ذريعة التحرير، يقول الدكتور بشارة خضر في كتابه أوروبا وفلسطين من الحروب الصليبية حتى اليوم:
عادت فكرة الحرب الصليبية من جديد في بعض الحلقات الأدبية والسياسية مع توطيد الوجود الأوروبي في الشرق بعد حرب القرم (1853-1856) ، إما مباشرة لحساب المسيحيين أو بصورة غير مباشرة لحساب اليهود
ومن أمثلة ذلك رواية دانيال دوروندا (1876) لجورج إليوت والتي يكرس فيها البطل حياته لإعادة تكوين المركز القومي اليهودي، وهي رواية معروفة في الأوساط الأدبية، وفي نفس السنة نشر إدوارد هور كتابا عنوانه “روما، تركيا والقدس”: أطلق فيه العنان لكرهه للمسلمين، مؤكدا أن “دمار المسلمين هو أمل اليهود، وأن فلسطين ستتحرر من النير العثماني وستناط بمالكيها الشرعيين، المتحدرين من إبراهيم“، وكتب جيمس نيل الذي عاش في فلسطين في سبعينيات القرن التاسع عشر في الموضوع نفسه.
وعلى الجانب الأمريكي من المحيط الأطلسي كانت نسبة كبيرة من أمريكيي القرن التاسع عشر تؤمن بأن قيام دولة يهودية في فلسطين شرط لازم لعودة المسيح وحلول العصر الألفي السعيد، وأن القضاء على الدولة العثمانية شرط لعودة اليهود إلى فلسطين، ومن ثم فإن القضاء على كيان المسلمين شرط “لتنوير العالم وتحريره”.
وقد دعت الشاعرة اليهودية إيما لازاروس التي كتبت الشعر المدون على تمثال الحرية إلى عودة اليهود إلى فلسطين (1881) وذلك بتكوين:
“وطن لمن لا وطن لهم، وهدف للحائرين، وملجأ للمضطهدين، ودولة لعديمي الهوية في ذلك القطر العربي”
تماماً كما ارتبط تكوين الملجأ الأمريكي لمضطهدي وحائري أوروبا بإبادة شعوب القارة الأمريكية، وهو ارتباط وثيق بين الحرية المزعومة والاضطهاد الحقيقي ، وكانت لازاروس “من أشد مؤيدي الاستعمار التنويري، وكانت تتطلع إلى اليوم المنتظر الذي تغزو فيه أوروبا الشرق الأوسط، فتزيح بذلك عن الولايات المتحدة عبء تحرير الأرض المقدسة.
وشاطرها إيمانها في نفس الفترة القس الإنجيلي دي ويت تالماج الذي زار فلسطين سنة 1889 وبداخله كراهية للعنة الأمم، هذا العجوز قديم الأزل، أي الإمبراطورية العثمانية، وكان يكن أيضا كراهية للإسلام الذي ندد به بصفته غير أخلاقي بالنسبة للحضارة الغربية كما يقول المؤرخ الأمريكي الصهيوني مايكل أورين: “إن تالماج كان مهتماً بصورة أساسية بالتحرر” وإن “مفهومه للدولة اليهودية كان شبيهاً بمفهوم إيما لازاروس” ولكنه اختلف معها فيمن سيقوم بمهمة “التحرير”، “ففي حين افترضت الشاعرة أن أوروبا ستخلص فلسطين من العثمانيين، آمن القس بأن أمريكا يجب أن تقود العالم في استخلاص الأرض المقدسة من براثن الإسلام”.
وبهذا يكون مفهوم تحرير فلسطين لدى الغرب يعني تخليصها من العرب الفلسطينيين في الوقت الذي يعني تحريرها لدينا أن نخلصها من الصهاينة، وهذا التناقض الذي ينطبق على حرية فلسطين ينطبق أيضا على حرية بقية أقطار الشرق العربي الإسلامي بمشرقه ومغربه حيث يجب أن تسود الرؤى والمصالح الغربية المختلفة والمتفاوتة، فكيف يمكن أن يتفق الطرفان العربي والغربي على مفهوم هدف الحرية؟
الحقوق الاستعمارية لا تقتصر على فلسطين
وليس من الغريب أن يتحدث الغربيون عن الشرق بصفته ملكاً من أملاكهم كما لاحظ ذلك حليفهم الملك فيصل الأول ابن الحسين وهو يصارع للحصول على استقلال سوريا التي اتفق الحلفاء فيما بينهم على كونها من نصيب فرنسا في اتفاقية سايكس بيكو “التي عالجت شئون البلاد كأنها ملك خاص أو سلعة من السلع” كما قال فيصل-عندما كان ما يزال أميراً-في ندائه للمجلس الأعلى لمؤتمر الصلح في باريس سنة1919.
ويخطئ من يظن أن نظرية “الحقوق” الغربية في بلاد الشرق تقتصر على أطماع الصهيونية في فلسطين، إذ عندما غزت فرنسا بلاد الشام بعد الحرب الكبرى الأولى (1914-1918) كانت تستند إلى حقوقها التاريخية في هذا البلد فضلاً عن مصالحها التجارية والاستعمارية، وكانت تحاجج بريطانيا، المترددة بين وعودها المتناقضة لكل من العرب واليهود والفرنسيين، بالمطالبة بهذه الحقوق التي تعود جذورها إلى حروب الفرنجة الصليبية، والتي لا تقتصر على ما شاع في الفترة الاستعمارية من استخدام شعار “الرسالة الحضارية” الفرنسي وشعار “عبء الرجل الأبيض” البريطاني اللذين يؤهلان المتحضر ويعطيانه حقاً في إخضاع من هم أقل حضارة منه للأخذ بأيديهم نظريًا نحو المدنية والحياة العصرية، وعملياً لأخذ ما في أيديهم كما صرح بذلك شعار “القدر الجلي” الأمريكي في نفس الفترة بلا مواربة.
“القدر الجلي”: الإبادة شرطاً للحرية
“القدر الجلي” جعل الإبادة شرطاً للحرية واستبق أحداث القرن العشرين في الشرق بتمثيلها بدقة في القرن التاسع عشر في الغرب “إن الثروات القابعة منذ دهور طويلة تحت القمم المكللة بالثلج لجبالنا، قد وضعتها العناية الإلهية لمكافأة الأرواح الجريئة التي يتجلى قدرها في تكوين طليعة الحضارة، على الهنود أن يتنحوا أو أن تقهرهم موجة الهجرة المتقدمة والمتزايدة باستمرار، إن مصير السكان الأصليين مكتوب بأحرف شديدة الوضوح، إن الحاكم الغامض الذي حكم بسقوط روما حكم أيضا بالفناء على رجال أمريكا الحمر”
ورغم هذه اللغة الإبادية فإن موسوعة الغرب الأمريكي تشير إلى أن أكثر مؤيدي”المصير الجلي” حماساً واحتقاراً لحقوق الآخرين-من منظور الأجيال اللاحقة-“اعتقدوا أنهم كانوا يتصرفون بشكل مثالي وأن ما كان مفيداً للأمريكيين كان مفيداً للجنس البشري عموما”، وما زالت نفس التبريرات القديمة حية إلى هذا اليوم عند قطاع أمريكي عريض يرى في”عصر النور والحرية والديمقراطية” أن إبادة السكان الأصليين في أمريكا عمل “مبرر” نال العالم منه “ثقافة الحرية التي أعطت الكرامة والسيادة للإنسانية”.
ويذهب التطرف المتغطرس مدى بعيداً حينما يرى أحد الكتاب المشهورين -هو كريستوفر هيتشنز الذي احتفى به يوما المفكر الفلسطيني الأمريكي الراحل إدوارد سعيد وشاركه التأليف في نقد الصهيونية (كتاب لوم الضحايا) قبل أن ينقلب من اليسار إلى اليمين ويحتفي به المحافظون الجدد-أن “من لا يحتفل بإبادة سكان أمريكا الأصليين إنسان يكره إنسانيته، إنه مخبل، جاهل، بليد، أما الذين ينظرون إلى الإبادة نظرة نقدية فهم رجعيون متخلفون لأن التاريخ لا يصنع إلا بمثل هذه الفظاعات، ولهذا فإن التذمر من ذلك لا معنى له لأنه كالتذمر من تحول في المناخ….ثم إن هذه الإبادة تستأهل التمجيد والافتخار لأنها كانت سبباً في تحسين الوضع الإنساني”.
وهي صورة دالة عن مدى “التقدم” الذي حصل في الفكر الأمريكي منذ زمن الإبادة نهديها لمثقفينا المولعين بتقليد سادتهم الغربيين والذين يذرفون الدموع على أطلال المحرقة النازية ويقبلون بتميز الدم اليهودي عن دماء بقية البشر أملاً بالحصول على التعاطف الغربي مع المأساة الفلسطينية أو بمجرد الرضا الغربي ويبالغون في استجداء الغرب بالحفر في أحافير التاريخ العربي والإسلامي لوصمه وإدانته إثباتاً لإنسانيتهم المزعومة، كما أنها صورة نموذجية لطريقة انقلاب المفاهيم في مراكز القوة المادية حيث تتحول الجريمة إلى فضيلة، وهي دليل جديد في موضوعنا وهو طريقة تحول مفهوم الحرية إلى عملية استعباد تحث عليها المصالح المادية.
ومفهوم القدر الجلي الذي تطور منذ سنة 1840 عن مفاهيم التوسع الامبراطورية السابقة في التاريخ كان “نسخة أكبر وأكثر تطرفاً من ادعاء البيوريتان (المتطهرين) بأن الرب منحهم حقاً في أرض الميعاد الجديدة (أمريكا)”، وكما طبقه الأمريكيون على بلاد الهنود الحمر ليستولوا عليها، ساق المبشرون نسخة معدلة منه ليطبقوها في نفس الفترة على الشرق العثماني مستهدفين جذب الأرواح والأذهان قبل أن تتطور مصالحهم المادية.
مستهزئين بالإسلام بصفته “ديناً رجعياً مضللاً”، ورافضين “كل صور المسيحية الشرقية بصفتها متخلفة وعفا عليها الزمن”، عاملين على “إعادة” اليهود إلى فلسطين “عودة لم تكن لتفيد اليهود وحدهم، بل الإنسانية جمعاء”، وقد عينت الحكومة الأمريكية وكلاء قنصليين في ست مدن فلسطينية “مما جعله أكبر تمثيل لبلد غربي في المنطقة” واستخدم المبشرون في بلادنا نفس أساليب غطرسة القوة المستخدمة مع الهنود الحمر في أمريكا، وكانت دوافع الإرساليات الأمريكية في الشرق متطابقة مع دوافع عموم الأمريكيين الذين عدوا أنفسهم منفذي القدر الجلي وحملة ثمار عصر النهضة والثورة الصناعية وحاملي لواء الديمقراطية ، تماماً كما يحدث اليوم عندما تغير قدرنا الجلي بتطور المصالح الأمريكية في بلادنا التي لم يكن المبشرون الأوائل الطيبون فيها سوى طليعة الاستعمار القادم في إثرهم.
المراجع
1-الدكتور بشارة خضر، أوروبا وفلسطين من الحروب الصليبية حتى اليوم، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، 2003.
2-مايكل أورين، القوة والإيمان والخيال: أمريكا في الشرق الأوسط منذ عام 1776 حتى اليوم، كلمة، أبو ظبي، وكلمات عربية للترجمة والنشر، القاهرة، 2008، ترجمة: آسر حطيبة.
3-زين نور الدين زين، الصراع الدولي في الشرق الأوسط وولادة دولتي سوريا ولبنان، دار النهار للنشر، بيروت،1977.
4 -دي براون، تاريخ الهنود الحمر، دار الحوار، اللاذقية، 1982، ترجمة: توفيق الأسدي.
5- Howard R. Lamar (Ed), The New Encyclopedia of the American West, Yale University Press, New Haven, 1998, p. 676 Manifest Destiny.
6-منير العكش، أميركا والإبادات الجنسية: 400 سنة من الحروب على الفقراء والمستضعفين في الأرض، رياض الريس للكتب والنشر، بيروت، 2012.