اضطرابات كوسوفو..توابع الزلزال الأوكراني

منذ نحو ثلاثة أسابيع ونيف طغت أخبار المظاهرات والصدامات في شمال كوسوفو على أخبار الحرب الروسية على أوكرانيا المزمنة، وأدلى خلالها ساسة الغرب والشرق بدلوهم بل وهددوا الكوسوفيين بالويل والثبور والعظائم حتى اعتقد متابعو نشرات الأخبار أن كوسوفو هي سبب أزمات العالم المتعددة!

في السادس والعشرين من مايو الماضي انطلقت مظاهرات حاشدة شمال كوسوفو من صرب المنطقة -الذين يشكلون غالبية السكان- احتجاجًا على نتائج الانتخابات البلدية التي أُجريت أواخر أبريل الماضي في بلدات (زافيتشان) و(زوبين بوتوك) و(سفيرنا ميتروفيتسا) و(ليبوسافيتش) و(سفيرنا)، فقد قاطع الناخبون الصرب ومرشحوهم الذين يمثلون السواد الأعظم من المصوتين الاقتراع وتركوا الباب مشرعا لمشاركة الأقلية الألبانية ومرشحيها وفرْض اختياراتها.

بالفعل وطبقًا لإحصائيات لجنة الانتخابات الألبانية شارك 4% فقط، وكما كان متوقعا نجح المرشحون الألبان وصاروا رؤساء البلديات لكن كان للصرب -ناخبين ومرشحين- رأي آخر؛ فخرجوا في تظاهرات غوغائية في البلدات الخمس يتحدون ما أفرزته الانتخابات سادِّين الطرقات ومقتحمين مباني البلديات ليعيقوا عمل رؤساء البلديات المنتخبين على القاعدة الشهيرة «ضربني وبكى سبقني واشتكى» كما لو كانت حكومة دولتهم هي من منعتهم من المشاركة في الانتخابات.

اضطرابات كوسوفو..توابع الزلزال الأوكراني

لم تقف حكومة كوسوفو مكتوفة الأيدي تجاه الاستفزازات الصربية كما كان متوقعا، فاصطدمت قوات الأمن بالمحتجِّين الذين ردوا الصاع صاعين ورشقوا الشرطة بالحجارة، بل واعتدوا على قوات حفظ السلام التابعة للحلف الأطلسي المتواجدة في كوسوفو ونفخوا في نار الصراع ليحرق الجميع ويظهروا الصرب بمظهر الضحية.

لم تترك حكومة بلجراد طابورها الخامس في كوسوفو بمفرده، فأعلن الرئيس الصربي (ألكسندر فوشيتش) التعبئة العامة للجيش الصربي وأرسل وحدات منه إلى حدود كوسوفو مؤكداً أن بلاده لن تترك مواطنيها في كوسوفو يضطهدون، وعلى النهج نفسه سار الدب الروسي حليف الصرب التاريخي الذي أعلن وزير خارجيته (سيرجي لافروف) أن على المجتمع الدولي أن يأخذ مطالب صرب كوسوفو بعين الاعتبار.

وليس بمستغرب التماهي التام بين موقفي موسكو وبلجراد من الأحداث في كوسوفو، فهناك أربع روابط تساهم في تقوية العلاقات بين الدولة العظمى وحليفها اليتيم في البلقان فالصرب والروس ينتميان للعرق السلافي، ومنه اشتقت يوغوسلافيا اسمها وتعني الكلمة: السلاف الجنوبيين تمييزًا لهم عن الروس؛ وهم سلافيو الشرق، علاوة على الرابط الديني إذ يتبع الصرب والروس الكنيسة الأرثوذكسية بالرغم من انفصال البطريركية الصربية عن الروسية عام 1271م وتكتب لغتا البلدين بالأبجدية السريلية وأخيراً كانت يوغوسلافيا من الدول الشيوعية التي تدور في فلك الاتحاد السوفيتي في فترة الحرب الباردة.

لم تكن الأزمة الأخيرة في كوسوفو سوى قمة جبل الجليد فهي أزمة موغلة في القدم، قدم منطقة البلقان التي تنتمي كوسوفو إليها، تبلغ مساحة كوسوفو 10877 كم2 تحدها صربيا من الشمال، وألبانيا من الجنوب، ومقدونيا من الجنوب الشرقي، والجبل الأسود من الشمال الغربي، وهي دولة حبيسة؛ أي لا سواحل لها على بحار أو محيطات.

اشتق الإقليم اسمه من اللغة الصربية، فالاسم مكون من مقطعين: «كوس» بمعنى «الطائر الأسود» و«وفو» بمعنى «وادي». مثَّلت كوسوفو أهمية استراتيجية للصرب منذ قديم الأزل، ففي تلك المنطقة الحبيسة جنوب غرب البلقان أقام الصرب مملكتهم على يد الملك (دوشان) عام 1331م، ومنذ ذلك الحين اتخذ القساوسة الأرثوذكس من كوسوفو مقرًا لزعامتهم الروحية في أوروبا والبلقان مداعبين حلم الإمبراطورية الصربية الكبرى في مخيلة ملوك الصرب.

لكن سرعان ما تبخر الحلم الصربي بالتمدد في البلقان -ومن ثم أوروبا- على يد العثمانيين في معركة كوسوفو في الخامس عشر من يونيو 1389م ومقتل ملك الصرب (لازار هربيانوفيتش)، ودخل الإسلام إلى البلقان من البوابة الكوسوفية إلى البوسنة وأجزاء من صربيا وكرواتيا ومقدونيا وبلغاريا، وألبانيا واستمر الملك العثماني في البلقان حتى بدأت الدولة العثمانية في التداعي منذ سبعينيات القرن التاسع عشر حتى أوائل القرن العشرين، وهنا بدأ الصرب يُعدُّون العدة للثأر ممن مزقوا ملكهم.

ضم الصرب كوسوفو إلى أراضيهم عام 1912م لكن مع اندلاع الحرب العالمية الأولى صيف 1914م احتلت النمسا حليفة الألمان والعثمانيين الإقليم المسلم بينما ساندت القيصريةُ الروسية المنضوية تحت معسكر الحلفاء مطالبَ الصرب خاصة وشعوب البلقان في الانفصال عن الدولة العثمانية؛ هادفة في المقام الأول لإعادة الأرض المقدسة إلى أحضان أبناء العمومة الصرب، ومع انتهاء الحرب عام 1918 وانعقاد مؤتمر الصلح في باريس في العام التالي ضغَط الروس بكل قوتهم حتى يعود كوسوفو للحضن الصربي، وكان للروس والصرب ما أرادوا.

مارس الملك ألكسندر أوبرنوفيتش (ألكسندر الأول) حاكمُ المملكة الصربية الكرواتية التمييزَ والقمع ضد سكان كوسوفو الألبان فهدم منازلهم وانتزع ملكيات أراضيهم وهجَّر عددًا كبيرًا منهم موطنا بني جلدته من الصرب بدلًا منهم، ومنع تدريس اللغة الألبانية -لغةِ غالبية السكان- من التدريس في المدارس وأحلَّ اللغة الصربية والكرواتية محلها، واعتقد الصرب أن الأمر قد استتب لهم في كوسوفو لكن أتت رياح السياسة بما لا تشتهيه السفن الصربية.

اندلعت الحرب العالمية الثانية خريف 1939م، ومع تمدد قوات المحور في أوروبا احتل الجيش الإيطالي كوسوفو وتعاون ألبانُ الإقليم مع الجيش الغازي لملاحقة وقتل صرب الإقليم منتقمين من اضطهاد الصرب لهم خلال العقدين الماضيين، غير أن كوسوفو سرعان ما عادت إلى الحكم الصربي بعدما وضعت الحرب أوزارها.

اضطرابات كوسوفو.. توابع الزلزال الأوكراني
جوزيف تيتو

حكم جوزيف تيتو ذو الأصول الكرواتية أنقاض المملكة الصربية الكرواتية عقب انتخابات نوفمبر 1945م العامة وأسس جمهورية يوغوسلافيا الاتحادية التي ضمت جمهوريات صربيا وكرواتيا وسلوفينيا والبوسنة ومقدونيا والجبل الأسود وكوسوفو، وأحكم الزعيم ذو القبضة الحديدية سيطرته على البلاد ومنع نشوب أية اضطرابات عرقية.

لكن -ككل الدول الشيوعية- كان الأمن بالمرصاد لأي تحركات جماهيرية تطالب بالحرية، وقمعت الشرطة السرية في كوسوفو وقائدها ذو الأصول الصربية (ألكسندر رانكوفيتش) مطالبات الألبان بالحرية السياسية ومنحهم دوراً أكبر في كوسوفو يتناسب مع نسبتهم السكانية، ومع اضطراب الأوضاع في البلاد بين عامي 1966 و1968 ومطالبات مثقفي وطلبة الإقليم من الألبان وافق تيتو مرغمًا على منح كوسوفو حكمًا ذاتيًّا في إطار الاتحاد اليوغوسلافي بالتوازي مع مراعاة حقوق الصرب الأرثوذكس بضغوط من الزعامة الدينية الأرثوذكسية في كوسوفو.

أنشأ تيتو جامعة بريشتينا كأول جامعة مستقلة لألبان الإقليم عام 1970، وبحلول 1974م منح ألبان كوسوفو مقاعد في المجلس الاتحادي ليوغوسلافيا البرلمان وكذا في المصرف الوطني والشرطة، وبعد سنوات من الهدوء والاستقرار عادت رياح الصراع لتهب على البلقان من جديد.

توفي تيتو في الرابع من مايو 1980م عقب إصابته بأزمة قلبية، ولم يكد يمر عام على رحيله حتى انقلبت الأوضاع في كوسوفو رأساً على عقب نتيجة تردي الأوضاع الاقتصادية وذلك خلال شهري مارس وأبريل 1981م فخرج الطلبة الألبان في مظاهرات حاشدة خاصة بعد تزايد الواقفين في صفوف طويلة في الجامعات للحصول على ما يأكلونه، فقمع الأمن الصربي الاحتجاجات وعادت الشرطة الصربية للتواجد وتعرض خمسمائة وثمانون ألفاً من ألبان كوسوفو لمضايقات بين استجواب واعتقال وطرد من العمل وفصل من الجامعات.

سارت الأحوال في كوسوفو من سيء إلى أسوأ، وبدأ الصرب يختلقون قصصاً عن تعرضهم للاضطهاد من ألبان الإقليم بحرق كنائسهم وأضرحة قديسيهم وتزايدت المصادمات العرقية بين الصرب والألبان في الإقليم إلى حد إزهاق الأرواح ومع حلول 1989 كان الوضع يسير في اتجاه أكثر قتامة.

انتُخب (سلوبودان ميلوسوفيتش) رئيس الحزب الشيوعي رئيسا ليوغوسلافيا وهو من القوميين الصرب المتعصبين ضد كل ما هو غير صربي، وبعد توليه الرئاسة ألغى الحكم الذاتي لكوسوفو في الثالث والعشرين من مارس 1989، وصب المزيد من بنزين التعصب على نار الاضطرابات العرقية في يوغوسلافيا بحلول الذكرى الستمائة لمعركة كوسوفو.

أقام ميلوسوفيتش نصبا رمزياً لملك الصرب لازار الذي قتل خلال المعركة، وجعل الصرب يطوفون حوله وأعلنها مدوية أن الصرب لن يهزموا بعد اليوم وبحلول 1990م عادت القبضة الأمنية لتبطش بألبان كوسوفو وتسومهم سوء العذاب ولم تعد اللغة الألبانية لغة رسمية في الإقليم.

انشغل ميلويوفيتش عن الإقليم المسلم بحربه ضد كرواتيا وسلوفينيا أواخر 1991م، وهنا أيقن ألبان كوسوفو أن الصرب لن يألوا جهدًا في إبادتهم لإبقاء كوسوفو -قدس الأقداس الصربية- تحت سيطرتهم،ومع اندلاع حرب البوسنة تأكد هذا الشعور لدي مسلمي الإقليم.

اضطرابات كوسوفو..توابع الزلزال الأوكراني

انتخب الأستاذ الجامعي (إبراهيم روجوفا) رئيساً لكوسوفو في الخامس والعشرين من مايو 1992م وكان نهجه يعتمد على السلمية والتفاوض لحل أزمة بلاده، لكن مع توحش الصرب في كوسوفو قرر مسلمو كوسوفو رفع السلاح لحماية أنفسهم، وهنا تأسس جيش تحرير كوسوفو عام 1993م.

بعد انتهاء حرب البوسنة واعتراف يوغوسلافيا باستقلال البوسنة ارتفع سقف مطالب روجوفا ورفاقه من المطالبة بعودة الحكم الذاتي لبلاده للاستقلال، لكن ذلك أوجداً نوعاً من الصدام المتقطع بين بلجراد وبريشتينا بين 1996 و1998 حتى انزلق الوضع لنقطة اللاعودة.

تفجرت المواجهات بين جيش تحرير كوسوفو والقوات الصربية في الثامن والعشرين من فبراير 1998 بعد الرد الغاشم من الصرب على مقتل شرطيين صربيين على يد أحد عناصر القوات الخاصة الألبانية.

ازدادت حدة المعارك بين أكتوبر 1998 ويناير 1999 بعدما ازداد سعار الصرب في قتل وتهجير مسلمي كوسوفو، ووقعت مجزرة (راساك) منتصف يناير ما أجبر الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة على التدخل لوضع حد للمأساة من بوابة السياسة من خلال استضافة فرنسا (محادثات رامبوييه) بين الصرب وألبان كوسوفو والتي امتدت بين الرابع عشر من فبراير إلى الحادي والعشرين من مارس 1999، لكن تعنت الصرب أفشل كل الجهود، هنا لم يجد الغرب مناصاً من التدخل عسكرياً.

شن حلف شمال الأطلنطي حملة عسكرية استمرت بين الرابع والعشرين من مارس والتاسع من يونيو 1999 أجبر بعدها الصرب على الانسحاب من كوسوفو، وحلَّت القوات الأطلسية محلها وبدأ الحديث عن حق تقرير مصير الإقليم بعد فترة انتقالية تحت إدارة مدنية مؤقتة.

أطيح بسلوبودان ميلوسوفيتش بعد احتجاجات واسعة في صربيا وأحيل لمحكمة جرائم الحرب، لكن عبث بلجراد في كوسوفو لم ينته وتسبب في إغراق ثلاثة صبية ألبان في نهر إيبار على يد صرب كوسوفو في بلدة ميتروفيتسا في أعمال عنف واسعة ما تسبب في مقتل تسعة عشر شخصًا وتدمير بعض الكنائس الصربية، وزاد ذلك من رغية ألبان كوسوفو في الانفصال عن صربيا.

قدَّم المبعوث الدولي لكوسوفا (ماري أهتساري) الذي كان رئيسًا لفنلندا خطة للسلام في كوسوفو اعتمدها مجلس الأمن في الرابع والعشرين من أكتوبر 2005 عرفت باسمه، وقد قضت بالتفاوض بين صربيا وكوسوفو وصولًا لاستقلال الإقليم مع التعهد بالحفاظ على حقوق صرب كوسوفو، وهو ما عارضته صربيا وروسيا لكن ألبان كوسوفو انفصلوا في نهاية المطاف.

أعلن رئيس الوزراء الكوسوفي هاشم تاتشي استقلال بلاده في السابع عشر من فبراير 2008، وقد اعترفت أمريكا وأغلب حلفائها في الناتو والاتحاد الأوروبي باستقلال الإقليم المسلم وعارضت روسيا وحلفاؤها وتظاهر صرب كوسوفو دون جدوى، وبعد سنوات من الهدوء تفجرت احتجاجات ضخمة في مناطق صرب كوسوفو في الحادي والعشرين من أغسطس 2022 على خلفية إصدار الحكومة الكوسوفية قرارًا بتغيير لوحات سيارات مواطنيها الصرب التابعة لصربيا بلوحات أخرى تتبع الدولة الكوسوفية.

اضطرت حكومة كوسوفو لتجميد القرار حتى ديسمبر 2022، لكن الاحتجاجات تجددت وأصيب خلالها رجال شرطة كوسوفو وعدد من جنود الناتو، وحشدت صربيا قواتها على الحدود وما لبثت نيران الاحتراب العرقي أن اشتعلت في كوسوفو مع إجراء الانتخابات البلدية، لكن غاب عن الجميع مواجهة الفاعل الحقيقي: الدب الروسي.

فروسيا التي تحارب الغرب بالوكالة في أوكرانيا أوعزت لتابعها الصربي بإشغال الأوضاع لترسل رسالة للغرب أنها تستطيع توريطه في مستنقع ربما أكثر ضحالة من المستنقع الأوكراني، هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى: تحذير جيران ابن العم الصربي الراغبين في الانضمام للناتو عدو روسيا الوجودي -وخاصة كوسوفو والبوسنة- من العواقب الكارثية لهذا القرار المتهور.

لن تستقر الأوضاع في كوسوفو ولو هدأت لبعض الوقت ما لم يحل الصراع المستعر في أوكرانيا بما يرضي سيد الكرملين، وإلى أن يحدث ذلك سيظل كوسوفو بلدًا مضطربًا ومجرد صندوق بريد يرسل فيه المتصارعون رسائل سياسية لبعضهم.

المصادر

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى