هجمات إسرائيل: استعراض للقوة.. أم غطاء للضعف؟

بعد خمسة عشر شهرًا من حرب الإبادة التي تم شنها على غزة، يجد الكيان المحتل نفسه في مأزق استراتيجي يكشف عن أزمة عميقة في قدرته على تحقيق أهدافه العسكرية والسياسية، فبرغم حجم الدمار غير المسبوق الذي تسببت فيه هذه الحرب بالقطاع، لم يتمكن من القضاء على حركة حماس، واضطرت دولة الاحتلال في نهاية المطاف، إلى الدخول في مفاوضات معها للإفراج عن الأسرى، وهو ما يعكس فشله في تحقيق أهدافه بالقوة، في الوقت ذاته، يواجه رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو ضغوطًا متزايدة في الداخل، حيث تتفاقم الصراعات السياسية داخل حكومته الهشة، وتتعالى الأصوات المطالبة بمحاسبته على الإخفاقات الأمنية والعسكرية، لا سيما مع بدء التحقيقات حول فشل دولة الاحتلال في منع هجوم السابع من أكتوبر، هذه الأزمات دفعت دولة الاحتلال إلى تكثيف عملياتها العسكرية في ساحات أخرى، من الضفة الغربية إلى جنوب لبنان وسوريا، في محاولة لصرف الأنظار عن إخفاقاته وإعادة فرض صورة الردع التي تآكلت خلال الحرب، لكن هذا التصعيد، الذي يبدو ظاهريًا كاستعراض للقوة، يعكس في جوهره ضعفًا بنيويًا في الاستراتيجية، إذ تجد دولة الاحتلال نفسها عاجزة عن فرض إرادتها كما كانت تفعل في السابق، ومضطرة إلى المراوحة بين التصعيد والمفاوضات، في معادلة لم تعد تملك السيطرة عليها والتحكم في أوراقها كما اعتادت.

(إسرائيل تُصعّد عدوانها العسكري في جميع أنحاء المنطقة، هل هو بدافع القوة أم الضعف؟) مقال كتبه “قسام معادي” في موقع “مندويس” الأمريكي يتناول تصاعد العمليات العسكرية لدولة الاحتلال في المنطقة وسط هذه الهدن الهشة في غزة ولبنان، ويطرح تساؤلاً مركزيًا:

هل هذا التصعيد يعكس قوة إسرائيل غير المسبوقة؟ أم خوفها من افتضاح ضعفها؟ ويهدف المقال إلى تحليل الدوافع وراء هذه التحركات العسكرية، مستعرضًا التناقضات بين الإنجازات العسكرية المزعومة والتحديات الداخلية والإقليمية التي تواجهها إسرائيل، ويركز على ثلاثة محاور رئيسية:

  • الوضع العسكري بعد الهدن.
  • التحديات السياسية والاجتماعية الداخلية في إسرائيل.
  • التداعيات الإقليمية لاستمرار التصعيد.

يخلص المقال إلى أن التصعيد العسكري الإسرائيلي قد يكون مزيجًا من الثقة المفرطة والخوف من كشف الضعف، وأن دولة الاحتلال يبدو أنها تعيش لحظة قوة، لكن من الواضح أنها تحاول إخفاء انهيارها الداخلي والإقليمي.

نص المقال

واجهة مقال: إسرائيل تُصعّد عدوانها العسكري في جميع أنحاء المنطقة، هل هو بدافع القوة أم الضعف؟
واجهة المقال على الموقع

“في خضم وقف إطلاق نار هش على جبهتين، واحدة في غزة وأخرى في لبنان، تواصل إسرائيل تصعيد عملياتها العسكرية على جميع الجبهات، ففي وقت سابق من هذا الأسبوع، شنت الطائرات الحربية الإسرائيلية غارات جوية في جنوب سوريا على المناطق المحيطة بمدينة إزرع بريف درعا جنوب سوريا، وتوغلت قوات إسرائيلية إلى قرية عين البيضا في ريف القنيطرة.

وفي الأسبوع السابق، أعلن رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو في خطاب ألقاه خلال حفل تخرج ضباط إسرائيليين أن إسرائيل لن تترك الأراضي التي احتلتها في سوريا بعد سقوط نظام الأسد في ديسمبر الماضي، وأضاف نتنياهو أن إسرائيل لن تسمح بتواجد الجيش السوري الجديد جنوب دمشق.

وفي لبنان، صرحت إسرائيل بأنها ستحتفظ بالسيطرة على خمس مواقع على الحدود الجنوبية للبلاد، وخلال جنازة قادة حزب الله، حسن نصر الله وهاشم صفي الدين، حلقت الطائرات المقاتلة الإسرائيلية فوق الجنازة في بيروت على ارتفاع منخفض كعرض للقوة، بينما كانت تقصف في الوقت نفسه عدة مواقع في وادي البقاع والجنوب.

وفي شمال الضفة الغربية، واصلت إسرائيل توسيع هجومها المعروف بـ”الجدار الحديدي”، مستهدفةً مخيمات اللاجئين والمدن الفلسطينية، وقد تم طرد 40,000 شخص من منازلهم في شمال الضفة الغربية منذ بدء الهجوم في الشهر الماضي، وقال وزير الحرب الإسرائيلي “إسرائيل كاتز”، إن إسرائيل لن تسمح بعودة الفلسطينيين المُهجّرين إلى منازلهم لمدة لا تقل عن عام، مضيفًا أنه لم يُحدد وقت زمني للانتهاء من هذا الهجوم.

كل هذا يحدث بينما تنتهك إسرائيل بشكل منهجي اتفاق وقف إطلاق النار الهش مع حماس خلال مرحلته الأولى، وفي الوقت نفسه، تتلكأ إسرائيل في الانتقال إلى المرحلة الثانية من اتفاق وقف إطلاق النار، والتي ستشمل مفاوضات بشأن إنهاء الحرب، بينما يواصل وزير المالية الإسرائيلي المتطرف “سموتريتش”، تهديده بشن هجوم أكثر قسوة على غزة.

بعبارة أخرى، تُظهر إسرائيل قوتها العسكرية على جميع الجبهات بينما تتصرف بعناد على الصعيد الدبلوماسي، وتفعل ذلك في لحظة تشعر فيها بأن لديها القوة المطلقة ولا يقيدها أي شيء، وذلك بعد أن أضعفت خصمها الشمالي، حزب الله، وتتصرف بلا رادع في الضفة الغربية.

لكن الواقع هو أن إسرائيل خرجت من حرب غير مسبوقة استمرت عامًا ونصف، حيث أطلقت مستويات غير مسبوقة من العنف، وانخرطت في تعبئة عسكرية لم يسبق لها مثيل، استمرت لمدة 15 شهرًا، فهي أطول حرب في تاريخها، ومع ذلك، قامت بكل ذلك دون تحقيق الأهداف التي أعلنتها علنًا: (القضاء على حماس)، لكنها الآن، تتفاوض مع الحركة الفلسطينية بعد أن فشلت في استعادة غالبية الأسرى الإسرائيليين بالقوة، وهي الآن تسعى إلى إطالة المرحلة الأولى من وقف إطلاق النار لكي تتمكن من إطلاق سراح المزيد من الأسرى دون تقديم المزيد من التنازلات لحماس.

علاوة على ذلك، في الأشهر الثلاثة الأخيرة من الحرب قبل وقف إطلاق النار، لم تتمكن إسرائيل من تحقيق هدفها الضمني في (التطهير العرقي لشمال غزة)، فقد قبلت بعودة مئات الآلاف من الفلسطينيين إلى الشمال كثمن لتبادل الأسرى.

وعلى الرغم من قدرتها على إضعاف حزب الله، إلا أنها لم تتمكن من القضاء عليه أو القضاء على قدرته على إعادة بناء قوته، ناهيك عن تحييد أنصار الله (الحوثيين)، في اليمن الذين أوقفوا هجماتهم على إسرائيل فقط عندما تم الإعلان عن وقف إطلاق النار، ولا يزالون يهددون باستئناف العمل العسكري إذا عادت إسرائيل إلى الحرب.

وأكثر من ذلك، لم تبدأ بعد المساءلة الداخلية عن الفشل الأمني الذي حدث في السابع من أكتوبر، رغم أن تحقيق الجيش الإسرائيلي في تلك الإخفاقات قد بدأ، ويكافح نتنياهو للسيطرة على عملية التحقيق المتعلقة بهذه الإخفاقات، مما يدلل بقوة على خوفه من تحمل المسؤولية، كما أن حكومة نتنياهو معلقة بخيط رفيع، فهي محاصرة بين إرضاء قطاعات المجتمع الإسرائيلي التي تريد الاستمرار في وقف إطلاق النار، بما في ذلك المؤسسة العسكرية، وبين حلفائه المتطرفين الذين يهددون بترك الحكومة، ما قد يؤدي إلى انهيارها في حال عدم استئناف نتنياهو للحرب.

في ضوء هذه الحقائق المتناقضة، يصبح من الصعب الحكم على ما إذا كان التصعيد العسكري المستمر لإسرائيل تعبيرًا عن (القوة والثقة الزائدة) أو محاولة لتمديد حالة الحرب لـ(تجنب مواجهة عواقب فشلها)، وهل تمر إسرائيل بلحظة قوة غير مسبوقة؟ أم أنها تخشى الكشف عن ضعف غير مسبوق؟

الإشارة الخضراء التي لم تُستثمر

دعم أمريكا دولة المحتل ترامب ونتنياهو

بعد عام من السابع من أكتوبر 2023، نفى مبعوث إدارة بايدن إلى الشرق الأوسط، “عاموس هوكشتاين”، الذي لعب دورًا رئيسيًا في تأمين وقف إطلاق النار بين إسرائيل وحزب الله، أن تكون الولايات المتحدة قد منحت إسرائيل الضوء الأخضر لمهاجمة لبنان، مضيفًا أن التقارير الإعلامية التي تشير إلى ذلك كانت “غير مسؤولة”، ورغم ذلك، كانت إسرائيل تخوض حملتها في غزة ولبنان على مدار عام كامل باستخدام أسلحة أمريكية، ووفقًا لمشروع “تكاليف الحرب” بجامعة براون، أنفقت الولايات المتحدة ما لا يقل عن 17.9 مليار دولار في شكل مساعدات عسكرية لإسرائيل منذ السابع من أكتوبر، وهو أكثر من المساعدات العسكرية الأمريكية لإسرائيل في أي عام منذ بدء الدعم العسكري لها. 

لم يقتصر الدعم الأمريكي لحرب إسرائيل على المساعدات العسكرية فقط، فمنذ اليوم الأول، تبنت واشنطن الرواية الإسرائيلية حول ما حدث في السابع من أكتوبر، كما تبنت الحرب وكأنها حربها، واستخدمت حق النقض ثلاث مرات ضد قرار وقف إطلاق النار في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، مخالفة إرادة أغلبية الدول الأعضاء.

لكن هذا التأييد الذي يبدو بلا حدود كان له هدف: القضاء على حماس والمقاومة المسلحة الفلسطينية في غزة، رجاء أن يمهد هذا الطريق لخلق بيئة سياسية جديدة في المنطقة تسمح بإبرام اتفاقيات تطبيع بين إسرائيل والدول العربية، كما أنه سيخلق أجواء ملائمة لعقود تجارية جديدة تشمل غزة (بما في ذلك حقول الغاز الطبيعي التي اكتُشفت مؤخرًا) دون أن تعيقها القضية الفلسطينية.

لكن إسرائيل لم تتمكن من الوفاء بذلك، فقد احتلت قضية فلسطين الصدارة مرة أخرى وأصبح من المستحيل تجاهلها على الصعيد الدولي، والمملكة العربية السعودية، التي كان من المتوقع أن تبرم اتفاق تطبيع مع إسرائيل قبل السابع من أكتوبر، تشترط الآن إعادة فتح العملية السياسية لإقامة دولة فلسطينية كشرط لتطبيع العلاقات الدبلوماسية مع إسرائيل.

وتتعرض إسرائيل نفسها للتحقيق بسبب اتهامها بالإبادة الجماعية في غزة، بينما صدرت مذكرات توقيف دولية ضد رئيس وزرائها ووزير الحرب السابق، وهذا وحده يُعد تحولًا كبيرًا في معاملة فلسطين وإسرائيل على الصعيد الدولي، فلأول مرة في تاريخ الصراع، يتخذ النظام الدولي خطوات لمحاسبة إسرائيل.

كذلك فإن حكم محكمة العدل الدولية في يوليو من العام الماضي، بأن احتلال إسرائيل للضفة الغربية وغزة والقدس الشرقية ومرتفعات الجولان غير قانوني، أنهى نقاشات دامت لعقود حول الأسس القانونية للاحتلال، ما أزال الغموض الذي اعتمدت عليه إسرائيل لتأمين الدعم الدولي، أو على الأقل، التسامح الدولي مع سياساتها الاحتلالية. وبطبيعة الحال فإن هذه التطورات لن تُنهي الاحتلال، أو حتى الدعم الأمريكي والغربي له، لكنها تجعل من المستحيل إخفاء الاحتلال، مما سيضطر إسرائيل وحلفاؤها لمواجهة معضلة ما إذا كانت مستعدة لوضع حدود لسلوكها الإجرامي.

القوة تواجه الواقع

قوة المقاومة أمام دولة الاحتلال

لم تتضخم هذه المعضلة بما يكفي لإحداث تغيير جذري، لكنها بدأت تظهر في أشكال مختلفة، أحد هذه الأشكال هو أن إدارة ترامب، التي تُعد الأقل دبلوماسية في الذاكرة الحديثة، خاصةً عندما يتعلق الأمر بدعم إسرائيل، فرضت عمليًا وقف إطلاق النار على حكومة نتنياهو.

بالنسبة للولايات المتحدة وترامب، فإن جدول أعمال الشرق الأوسط أكبر بكثير من غزة، وحتى أكبر من إسرائيل وحروبها، فبالنسبة لترامب، تأتي الأعمال أولًا، وكما أثبتت رئاسته الأولى، أن الأعمال في المنطقة تأتي من خلال التطبيع والاستقرار، وليس الحرب.

وقد كان أمام إسرائيل 15 شهرًا لتحضير المشهد لمشروع ترامب في الشرق الأوسط بدون وجود فلسطين على الطاولة، لكنها فشلت، والآن، يتولى مبعوث ترامب للمنطقة “ستيف ويتكوف”، مفاوضات وقف إطلاق النار، مما يقلص من السيطرة المطلقة التي كان يتمتع بها نتنياهو، وسط محاولات إسرائيل تغيير الشروط والهروب من الالتزامات التي وقعتها.

مع ذلك، فإن الولايات المتحدة وإدارة ترامب لا تزالان ملتزمتين بالموقف التقليدي الداعم لإسرائيل بشكل كامل، وعلى العكس من ذلك، فقد تخلتا تمامًا عن المحاولات التقليدية للوصول إلى اتفاق مع الفلسطينيين قائم على حل الدولتين، مع إعطاء الأولوية لمخاوف إسرائيل الأمنية، ففي كل تصريحات ترامب، أكد تأييده لخيارات إسرائيل، بما في ذلك استئناف الحرب على غزة، وحتى أيد الطموح الإسرائيلي في التطهير العرقي لغزة، مضيفًا لمسة ترامب من خلال التعهد بإنشاء “ريفييرا الشرق الأوسط”.

على الرغم من كل ذلك، فقد أوضح ترامب أنه غير مهتم بتوسيع نطاق الحرب، ناهيك عن قتال إيران، وبغض النظر عن تصريحات ترامب المبالغ فيها حول غزة، يركز مبعوثه للشرق الأوسط “ستيف ويتكوف”، فقط على إنقاذ اتفاق وقف إطلاق النار وإزالة العقبات التي يضعها نتنياهو في طريقه.

كما يدرك ترامب أن الجميع لن يستجيب للغطرسة الأمريكية، فقد أوضح الرفض الجماعي لخطة ترحيل غزة التي اقترحها ترامب من قبل الحكومات العربية والأوروبية وغيرها، أن هناك بعض الثوابت التي لا يمكن تغييرها بسهولة. وقد تراجع دونالد ترامب عن خطته لغزة، قائلاً إنه كان «مندهشًا» من رفض المنطقة لها، مضيفًا أنه «لن يفرضها» وقد بدأت تتجلى لنا حدود ما يمكن أن يحققه هذا التحالف القائم على القوة بين الولايات المتحدة وإسرائيل”.

تبيان

تبيان، مجلة رقمية تتناول ما يُهم أمّتنا ومشاكلها وقضاياها الحقيقية

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى