
هل يجري تحويل الهند إلى أندلس أخرى؟ حوار مع المفكر ظفر الإسلام خان
لم يقتصر دور المسلمين في الهند على بناء حضارة بلادهم، بل امتدّ تأثيرهم إلى الحضارة الإسلاميّة العالمية، وبزغ منهم العلماء والشعراءُ والنوابغُ الذين ما زال غراسهم يؤتي ثمارًا طيبة، ونستذكر قول فيلسوف وشاعر الإسلام محمد إقبال منافحًا مُعتزًا بالإسلام والمسلمين:
وكنا جبالًا فوق الجبالِ *** وربما سِرْنا على موج البحار بحارَا
إلى قوله:
أنا أعجميُّ الدن لكنْ خُمْرَتي *** صُنْعُ الحجاز وكرمهَا الفَيْنَان
إن كان لي نَغَمُ الهنودِ ولحنهم *** لكنّ هذا الصوت من عدنانِ
وشهد المؤرخ جوستاف لوبون في كتابه (حضارة الهند) أن المسلمين ظلّوا “شعبًا ممتازًا” في أخلاقه وطبيعته واتجاهاته ومنهج حياته وعاداته والتي انطبع بها فكَونَت له رابطة قوية راسخة تُوثق صلته بالمسلم حيثما كان شمالًا أو جنوبًا.
ونستضيف اليوم الدكتور الفاضل ظفر الإسلام خان من الهند في هذا الحوار للانتقال بين ماضٍ قريب وحاضر تحوط به الأخطار ومستقبل نرنو أن يتعزز فيه وجود الإسلام بالوعي مقرونًا بالعمل:
- مسلمو الهند قوة تاريخية في امتحان البقاء.
- الخطر الاستراتيجي القائم.
- الوعي اليقظ في تعزيز وجود الإسلام.
من هو المفكر ظفر الإسلام خان؟

- ولِد الدكتور الفاضل ظفر الإسلام خان عام 1948م في بيت علمٍ وتقوى بمدينة أعظم گره بشمال الهِند.
- تلقى تعليمه المبكِّر في مدرسة الإصلاح.
- التحق بدار العلوم ندوة العلماء في مدينة لكناؤ حتى حصل على إجازة العالمية عام 1966م.
- توجه إلى القاهرة لاستكمال تعليمه فدرس بكلية أصول الدين بجامعة الأزهر وحصل على ماجستير في التاريخ الإسلامي من كلية دار العلوم بجامعة القاهرة عام 1978م.
- نال درجة الدكتوراه في الدراسات الإسلامية من جامعة مانشستر عام 1987م.
مسلمو الهند قوةٌ تاريخية في امتحان البقاء
تاريخ الإسلام في الهند تمتدُ جذوره إلى الفاتحين الأوائل، ودور المسلمين في حضارة الهند أكبر من أن نُلم به في هذا الحوار المُبارك، ومع ذلك لابد من استفتاحٍ حول مسلمي الهند البالغ تعدادهم اليوم مائتي مليون مسلم، ما الذي مثّلوه في بلادهم الهند وفي أمّتهم الإسلاميّة طيلة القرون الماضية من حيث التأثير وقوتهم الجيواستراتيجية؟
دخل الإسلام إلى شمال الهند (باكستان الآن) في عهد الخلافة الأموية حين قاد محمد بن القاسم الثقفي جيشًا انطلق من العراق لردع بعض حكام الهند الذين تخاذلوا عن ردع قراصنة البحر الذين كانوا يضايقون سفن التجار المسلمين المتجهة جنوبًا نحو سرنديب (سيلان/سيريلانكا) ويقتلون ويسلبون ويسترقون المسلمين والمسلمات. وتمكن محمد بن القاسم من فتح أجزاء من السند سنة 90هـ وحكمها نحو ست سنوات إلا أنه اضطر لمغادرة الهند بسبب دسائس ضده في عاصمة الخلافة وذلك بعد موت الحجاج سنة 95هـ. واندثرت دولة المسلمين في شمال الهند بعد ذلك بقليل ولم يحاول المسلمون فتح الهند مرة أخرى إلا بعد قرون حين جاءت جيوش من أفغانستان وإيران ففتحت أجزاء من شمال الهند إلا أن الفتح الكبير كان على يد بابر، مؤسس الإمبراطورية المغولية سنة 1526م والتى دامت حتى سنة 1857م حين سقطت نهائيًا واستتبت سيطرة المستعمر الإنجليزي على معظم أنحاء الهند.

وأخذ الإسلام ينتشر بفضل جهود العلماء والصوفية والتجار حتى وصل إلى كل أجزاء الهند، وأدخل المسلمون كل أنواع الحضارة والثقافة والعمران إلى الهند. وكان انتشار الإسلام عظيمًا في شمال الهند (باكستان الآن) وشرق الهند (بنغلاديش الآن). وقد أدت سياسات الإنجليز القائمة على مبدأ “فرق تسد” الاستعماري القديم إلى حدوث فجوة بين المسلمين والهندوس في أعقاب فشل الثورة الكبرى سنة 1857 ضد الاستعمار الإنجليزي. وتطورت هذه الفجوة إلى مطالبة بعض المسلمين والهندوس بتقسيم البلاد على أساس ديني، وقد قبل الإنجليز هذه المطالبة لأنهم لم يكونوا يرغبون في أن يتركوا وراءهم دولة عظمى في شكل الهند المتحدة. وهكذا ظهرت دولتا الهند وباكستان. وقد حصلت باكستان على شمال الهند، التي سميت بباكستان الغربية وعلى شرق الهند التي سميت بباكستان الشرقية عقب التقسيم والاستقلال في أغسطس 1947م. وكان هذا خطأً كبيرًا أضعف مسلمي شبه القارة الهندية فشتتهم إلى ثلاثة كيانات، كيان في الهند وكيانان في شمال وشرق الهند. ولو بقيت هذه الكيانات جزءًا من دولة واحدة لكان المسلمون هم العنصر المهيمن في الدولة المستقلة.
وقد أصاب التقسيم المسلمين الذين بقوا في داخل الهند في الصميم فاندثرت قوتهم السياسية والاقتصادية والعلمية والثقافية فأصبحوا بدون وزن سياسي بين ليلة وضحاها مما مكّن غلاة الهندوس من اضطهادهم وتهميشهم.
وبلغ هذا النشاط أوجه في ظل حكومة حزب الشعب الهندي الذي يرأسه “ناريندار مودي” الذي يتفنن في اضطهاد المسلمين وتهميشهم بينما تقلده الدول العربية بأرفع أوسمتها. ولو بقى مسلمو الهند في كيان واحد لكانوا الآن أكبر تجمع إسلامي في العالم (نحو ستمائة مليون نسمة) يمثلون 127 في المائة في مقابل سكان العالم العربي كله.

«لكل شعب مسلم مشكلات تمتحن جدارته للبقاء»… يُحلِّل شيخ ندوة العلماء أبو الحسن الندوي مشكلات المسلمين في الهند فيقول: إنّ منها ما هو نتيجة أخطائهم، ومنها ما هو نتيجة رواسب الماضي ومخلفاته الفكرية والسياسية، وبعضها نتيجة الأحداث في عهدٍ مضى. برأيكم دكتور ما هي المشكلات الأساسية التي مرّ بها مسلمو الهند حسب هذه المستويات الثلاثة؟
المأزق الذي يمر به مسلمو الهند حاليًا ينطبق عليه تمامًا تحليل الشيخ الندوي رحمه الله. فمن أهم أخطاء الحكام المسلمين الذين حكموا الهند لأكثر من سبعة قرون أنهم اهتموا بتوسيع رقعة الأراضي الخاضعة لهم وجمع الأموال وتبذيرها وعقد التحالفات مع علية الهندوس –القلائل- وأهملوا الطبقات الدنيا من الهندوس التي كانت ولا تزال تمثل الغالبية العظمى من السكان، ولم يعملوا على نشر الإسلام ولم يشجعوا سكان الطبقات الدنيا على اعتناق الإسلام.
ومن جهة أخرى، اهتم المسلمون الهنود بالفقه فتشرذموا في جماعات تخاصم وتحارب بعضها البعض بسبب مفاهيم فقهية ضيقة، بعيدين عن جوهر الإسلام الرفيع المساوي بين البشر وناشر العدالة الاجتماعية والإنصاف المجتمعي.
ومن جهة ثالثة، التهى مسلمو الهند بالقضايا العاطفية مثل التظاهر للخلافة العثمانية حين كانت الخلافة قد انتهت في تركيا ونبذتها غالبية الأتراك، ثم تأييدهم لتقسيم البلاد إلى دولتي باكستان والهند، متجاهلين مصير المسلمين الذين سيبقون في الهند لا محالة إذ لن تستطيع باكستان استيعاب كل مسلمي الهند..
وهكذا بقيت أعداد ضخمة من المسلمين داخل الهند –وصل عددهم الآن إلى مائتي مليون نسمة- وهم يواجهون الاضطهاد الخفي في عهد حزب المؤتمر العلماني والجلي في عهد حزب الشعب الهندي، إذ يقال لهم: لِمَ أنتم باقون في الهند وقد أخذتم باكستان وبنغلاديش (باكستان الشرقية سابقًا)؟ وإن أردتم البقاء في الهند فعليكم العيش تحت رحمة الهندوس ترضون بما يعطونكم وليست لكم حقوق خاصة.
ورغم أن هذه الشعارات والمطالب تصطدم بصورة صارخة مع الدستور الهندي العلماني ولكن بما أنها تلقى تأييد النخبة الحاكمة فلا تتم محاكمة وسجن من يرفعونها ويكسبون بواسطتها الانتخابات… وهكذا يجد مسلمو الهند أنفسهم في مأزق صعب حيث يتم سلب حقوقهم الدينية والسياسية والثقافية يومًا بعد يوم ويتم تهميشهم بصورة مطردة ولا نعرف أين سينتهي بهم المطاف إذ إن كل الأحزاب السياسية الهندية اليوم، باستثناء الأحزاب الشيوعية، قد آمنت بهذه الشعارات وهي لا تريد أن تعمل شيئًا يغضب الجماهير الهندوسية.
تشكيل الصورة الكاملة عما يحدث إلى الآن يقودنا للبحث عن أول الفتيل، متى بدأ التضييق على مسلمي الهند؟
بدأ التضييق على مسلمي الهند فور فشل ثورة 1857م على الاستعمار الإنجليزي. وكانت كل فئات المجتمع قد شاركت في تلك الثورة ولكن عمادها وقادتها كان المسلمون ولذلك قرر الإنجليز الانتقام من المسلمين فشنقوا عشرات الألوف منهم على أعمدة الأشجار على الطرقات حتى قيل أنه لم تبق شجرة ما على طول الطريق من بيشاور إلى داكا مما لم يشنق عليها صاحب لحية…

وطرد الإنجليز المسلمين من الوظائف الحكومية وصادروا ممتلكاتهم وإقطاعياتهم وبدأوا كتابة تاريخ جديد للهند يزعم أن القرون السبعة لحكم المسلمين للهند كانت قرون استعباد وظلم ونهب واغتصاب نساء الهندوس ونشر الإسلام بالسيف… وكان هذا المشروع الكبير يهدف أولًا إلى تلطيخ سمعة مسلمي الهند وثانيًا استخدام العداء بين المسلمين والهندوس في إطار سياسة “فرِّق تسد”… وبدأ تدريس هذه المواد التاريخية في المدارس والكليات والجامعات. ونجحت هذه السياسة أيّما نجاح بمرور الزمن وبسرعة تحول كثيرون من الهندوس إلى أعداء للمسلمين بدلًا من المستعمر الإنجليزي.
وعلى مر الزمن ظهر بين الهندوس أفراد وجماعات تحقد على المسلمين وتختلق المزيد من الأكاذيب التى لم يتجرأ عليها حتى الإنجليز… هذا العداء المتبادل بين المسلمين والهندوس ساعد على بقاء الإنجليز في الهند حتى بعد الحرب العالمية الثانية كما أدى إلى ظهور سياسات عدائية بين الهندوس والمسلمين أدت في نهاية الأمر إلى تقسيم البلاد إلى دولتي الهند وباكستان.
والتقسيم قد حل مشكلات المسلمين في الجزء الذي استقل باسم باكستان إلا أن أوضاع المسلمين الذين بقوا في الهند أخذت تسوء على مر الزمن حتى أخذ ساسة ومنظمات هندوسية يقولون علنًا أن المسلمين أخذوا دولتهم فعليهم الانتقال إلى باكستان وترك الهند خالصة للهندوس.
وقد نجحت هذه النعرات نجاحًا كبيرًا رغم بعدها عن الواقع لأن التقسيم لم يكن للسكان في الهند بل كان على أساس تخصيص مناطق الغالبية المسلمة لباكستان بدون تبادل السكان وهكذا بقيت أعداد كبيرة من المسلمين في أرجاء الهند كما بقيت أعداد كبيرة من الهندوس والسيخ في باكستان الغربية والشرقية.
واستفادت الأحزاب الهندوسية الطائفية من هذا المناخ وتمكنت في نهاية الأمر من سلب السلطة من حزب المؤتمر الذى كان علمانيًا إلى حد ما. وهكذا وصل حزب غلاة الهندوس (حزب الشعب الهندي أو بهاراتيا جاناتا) إلى الحكم في أواخر 1998م واستمر حكمه إلى سنة 2004م ثم مرة أخرى منذ 2014م وإلى الآن.
وبلغ من جرأة حزب الشعب الهندي هذه المرة أنه أخذ يتعرض للمدارس الدينية الإسلامية ويهدم المساجد والمزارات والمقابر ويغير مناهج التاريخ بصورة أخطر من أي وقت مضى ويهاجم الأحوال الشخصية الإسلامية، ويسخر من الإسلام لدرجة أن أكثر من ثلاثة أرباع مواد الإسلاموفوبيا على منصات التواصل الإجتماعي في العالم تخرج من الهند، ويخطط لحرمان ملايين من المسلمين من الجنسية الهندية بواسطة تغيير قانون الجنسية، إلخ…
وصل الحالُ اليوم إلى حد اعتبار المسلمين خطرًا وجوديًا على الهند بل الخطر الأول كما ترى الحركة الهندوسية، بالنظر إلى السجل التاريخي وما فيه من محطات تضييق، لماذا يُسْتَهْدَف مسلمو الهند كلّ مرة؟ ألا يُعتبر هدفُ إفناء الإسلام وترحيله من الهند هدفًا يُناقض أصول العقل والتاريخ؟
ليست الهند بل غلاة الهندوس يعتبرون المسلمين خطرًا على الهند وهم يرون أن حلمهم لإنشاء دولة هندوسية في الهند لن يترجم إلى حقيقة ما بقي المسلمون ملتزمين بالإسلام والقرآن.
وهم يريدون للإسلام أن يندمج في الثقافة الهندوسية ويصبح رافدًا ثقافيًا وحضاريًا نابعًا من الحضارة الهندوسية، ولكن الإسلام رفض الاندماج في الهندوسية طوال هذه القرون الطويلة منذ وصوله إلى شواطئ الهند فبقي دين التوحيد رافضًا ملايين الآلهة والأصنام التي يعبدها الهندوس وتقاليدهم الثقافية. وسيستمر هذا الصدام بين غلاة الهندوس والمسلمين طالما بقي المسلمون متمسكين بعقيدتهم وبأسس دينهم القائم على التوحيد والرافض للأصنام والثقافة الشركية.
وبما أن غلاة الهندوس يحكمون الهند الآن فهم يحاولون بشتى الطرق كسر اعتزاز المسلم بعقيدة التوحيد فيعمدون إلى إهانة المسلمين وقتلهم وهدم المساجد والمقابر الإسلامية والهجوم والضغط على مدارس المسلمين الدينية والاستيلاء على الأوقاف الإسلامية وإلغاء الأحوال الشخصية الإسلامية وتغيير أسماء إسلامية لمئات المدن والمناطق والقرى إلى أسماء هندوسية. والحملة مستمرة لكسر إرادة المسلمين باستخدام القهر الحكومي والإعلامي ومنصات التواصل الاجتماعي ولكن ليست هناك إشارات بأن المسلمين سيستسلمون.
والمسلمون يراهنون على أن حكم غلاة الهندوس الحالي لن يدوم طويلًا وأن الانتخابات العامة القادمة سنة 2029 ستؤدي حتمًا إلى قيام حكومة علمانية ترفع بعض هذه المظالم وتسمح للمسلمين بالتمتع بالحريات الدينية والمدنية التي يكفلها الدستور الهندي. ونحن نرى أن ليل السيطرة الهندوسية الدامس لن يدوم طويلًا فهو صراع ضد أسمى خصائص البشرية والإنسانية التي لا تزال موجودة في الهند، فهذه الحقبة ليست إلا سحابة سوداء ستزول عاجلًا أو آجلًا لأنها ضد الطبيعة.
العويل والضوضاء في مواجهة الخطر الاستراتيجي القائم
توالت الأحداث وتجاوزت كونها مناوشات أو اعتداءات محدودة، إلى سياسات مُمنهجة برعاية حكومة مودي، إذْ لم يعد السحل في الشوارع وحرق المساجد والتضييق على المسلمين سلوك طائفة فحسب، بل سياسات حكومية برعاية قانونية، وليس عنّا ببعيد مسجد بابري التاريخي وتحويله في محفل رسمي إلى معبد “راما” في مشهدٍ مؤلم أثار وجدان المسلمين في كل مكان..

قرأنا في تحليل سابق لكم تعليقًا على ذلك الحدث أنّ استجابة مسلمي الهند كانت قائمة على العفوية وعلى التأجيل والنسيان والنوم عن قضيتهم.. هل ترون أنّ المجتمع المسلم وفي مقدمته النخب يُدركون جدية الخطر المحدق بهم ويتحركون وفقًا لذلك برؤية استراتيجية واحدة في مواجهة هذا الخطر؟
للأسف، المجتمع الهندي المسلم يثير العويل والضوضاء من وقت لآخر ولكن الأمر ينتهي هناك، بينما غلاة الهندوس ماضون على قدم وساق في تنفيذ مخططاتهم المنهجية لتهميش مسلمي الهند وتذويبهم في كيان الهندوس. الحقيقة هي أنه ليست هناك استراتيجية لدى المسلمين.
والمشكلة تقع أساسًا في الفُرْقَة التي يُعاني منها مسلمو الهند حيث أنهم مشتتون وموزعون على فرق ومسالك حيث يرى كل فريق أنه على الحق وأن الآخر على الباطل. ويصل الأمر إلى تكفير بعضهم البعض والوشاية بغيرهم من المسلمين لدى السلطات واتهام غيرهم من المسلمين بأنهم إرهابيون…
وغلاة الهندوس، بل وحتى الحكومة الهندية سابقًا ولاحقًا، تستفيد من هذه الأوضاع وتغذّيها وتضرب بعض المسلمين بالبعض الآخر، وهي لا تعير اهتمامًا لشكاوى واحتجاجات المسلمين. هذه الفرقة المسلكية هي لب مشكلة مسلمي الهند ولا يبدو أن هناك إمكانًا للقضاء عليها لأن التعصّبات الدينية عصية على التفاهم والفكر المنطقي.
ما هي أبرز مُخططات الحركة الهندوسية الساري منها أو المُخطط لها؟
المجتمع الهندوسي قديمًا وحديثًا لم يتهاون مع أي فكر قوي مضاد للهندوسية يبرز في الهند. فقد سبق للمجتمع الهندوسي القضاء الممنهج على البوذية التي نشأت في الهند رافضة النظام الطبقي ونظام الهرم الاستغلالي الذي يترأسه البراهمة، فقام المجتمع الهندوسي بقيادة البراهمة بالقضاء على البوذية في الهند وحوّل معابدها إلى معابد هندوسية وطرد بقايا البوذيين إلى خارج الهند. فاليوم توجد البوذية في كل دول الجوار وحتى في اليابان ولكن لا توجد في الهند. وهكذا حاول المجتمع الهندوسي القضاء على الإسلام أو على الأقل احتواءه وتحويله إلى رافد من روافد الهندوسية مثل الديانات الهندية الأخرى كالسيخية والجينية ولكنه فشل أولًا بسبب شوكة المسلمين السياسية لقرون طويلة ثم لم يسمح لهم الإنجليز بذلك بعد سيطرتهم على الهند حيث حافظ الإنجليز على كل الديانات والكيانات الثقافية والحضارية التي وجدوها على أرض الواقع حين احتلوا الهند.
وقد أنشأ غلاة الهندوس عدة منظمات لغرض احتواء المسلمين وتحييدهم أبرزها منظمة راشتريا سيواك سانغ -أو الآر إيس إيس بأحرفها الأولى- والتي قامت سنة 1925م وتمكنت من الوصول إلى الحكم سنة 1999م حين حكم الهند حزب الشعب الهندي (بهارتيا جاناتا) الذي هو من الكيانات الكثيرة التي أنشأها “الآر إيس إيس” للسيطرة على الساحة الهندية سياسيًا وثقافيًا ودينيًا. ولم يتمتع حزب الشعب الهندي إبان حكمه خلال سنوات 1999-2004م بالأغلبية في البرلمان فاستعان بأحزاب صغيرة أخرى لتكوين الائتلاف الحاكم مما حد من نفوذه فلم يتمكن إلا من تنفيذ اليسير من مخططاته.
وعاد الحزب للحكم بعد فوزه في انتخابات 2014م حيث أحرز الأغلبية الواضحة التي تمكنه من الحكم بدون الاستعانة بأحزاب أخرى وهنا كشّر الحزب عن أنيابه وبدأ ينفذ سياساته لتهميش المسلمين ومنها إشاعة الخوف في صفوف المسلمين من خلال الهجمات على المسلمين بتهمة أكلهم لحم البقر أو ذبحهم البقر، والهجوم على المدارس الدينية الإسلامية والمساجد والمقابر الإسلامية وهدمها بواسطة “البولدوزرات” بحجة أنها غير قانونية، ومهاجمة قوانين الأحوال الشخصية الإسلامية واستبدالها بقانون مدني موحد، ومحاولة تجريد ملايين من المسلمين من جنسيتهم الهندية بتغيير قانون الجنسية الهندية مما أدى بالمرأة المسلمة بالخروج في مظاهرات منقطعة النظير دامت ليل نهار لثلاثة أشهر في أوائل سنة 2020م في مئات المدن الهندية ولم تنته إلا حين أعلنت الحكومة الهندية الإغلاق التام بحجة مكافحة جائحة الكورونا.

ثم هناك محاولات منظمة لحمل المسلمين على الارتداد بدعوتهم إلى “العودة للبيت” أي العودة إلى الديانة الهندوسية التى هجرها أجدادهم قبل قرون بسبب تمييزها الطبقي وعدم احترام آدمية الإنسان… أما محاولة المسلمين نشر الإسلام وحمل الهندوس على قبول الإسلام (وهو أمر مسموح به في الدستور الهندي) فيتم معاقبته بالسجن المؤبد بحجة أنها محاولة لبث الفرقة في المجتمع الهندي وأن أعمال الدعوة في الهند تستخدم أموالًا من خارج الهند.
وقد نشأت عشرات من المجموعات الهندوسية المسلحة (الميليشيات) التي تستخدم العنف ضد المسلمين وتهددهم وتروعهم على عين وسمع السلطات بل وأحيانًا بمباركتها وهي تخرج للشوارع بكل مناسبة وبدون مناسبة لترويع الناس. وتستمر هذه الأنشطة بنجاح لأن الشرطة وحتى القضاء يقف الآن مع غلاة الهندوس.
هل التفوق الحالي لغُلاة الهندوس هو تفوقٌ نوعيٌّ أم أنّه تفوق كمي فحسب؟ بتعبير الشيخ وحيد الدين خان الفرق النوعي في الوعي بالتاريخ وامتلاك خزائن الفكر والعقل والقوى الجديدة والمكنة الفنية والتقنية ووحدة الصف وغيرها من أدوات القوة.
تفوق غلاة الهندوس الحالي هو تفوق كمي فحسب، وقد مكّنهم من ذلك نظام الانتخابات السيء في الهند حيث يمكن لحزب أحرز أكبر قدر من مقاعد البرلمان أن يفعل ما يريد. وهذا النظام الانتخابي لا يمثل الشعب تمثيلًا حقيقيًا حيث يمكن لو أحرز مرشح ما أصواتًا أكثر من غيره من مرشحي الدائرة -ولو كانت 10 أو 15 في المائة فقط من مجموع أصوات الدائرة- بينما توزعت بقية الأصوات على مرشحين آخرين حصل كل واحد منهم على أصوات أقل من المرشح “الفائز”، وهكذا تضيع غالبية أصوات أية دائرة ويفوز الذي يحرز أكبر قدر من الأصوات من كل مرشح آخر على حدة. وكان ينبغي أن تعاد العملية الانتخابية في كل دائرة لا يحصل فيها مرشح ما على أقل من 50 في المائة مثلًا من أصوات الدائرة. ولكن هذا لا يحدث وأحيانًا يفوز البعض لو زادت أصواته عن الآخرين ببضع مئات أو حتى أقل من ذلك. وهناك مطالبات مستمرة لاستبدال النظام الانتخابي الحالي بنظام التمثيل النسبي “Proportional Representation” الذي يعطي لكل حزب مقاعد توازي نسبة الأصوات التي أحرزها على مستوى البلد، أي أن لو حزب ما حصل على خمسة في المائة من مجموع أصوات كل الدوائر في البلاد تخصص له خمسة في المائة من مقاعد البرلمان. وزاد من سوء النظام الحالي الاعتماد على ماكينات الاقتراع الإلكترونية التي يقال أنه يمكن التلاعب بنتائجها من قبل السلطات التي تهيمن على العملية الانتخابية.
ومع كل هذه القضايا لم يحصل مودي أو حزب الشعب الهندي إلا على:
- 31 في المائة من مجموع الأصوات المشاركة في انتخابات 2014م.
- 37.3 في المائة من مجموع أصوات انتخابات 2019م.
- 36.6 في المائة من مجموع أصوات انتخابات 2024م.

وهذا يظهر أن حزبًا لا يمثل حتى الغالبية البسيطة من أصوات الناخبين المشاركة في الانتخابات (نسبة المشاركة في الانتخابات الهندية تتراوح بين 60 و65 في المائة عمومًا من مجموع الناخبين) يمكنه أن يحرز على أغلبية مقاعد البرلمان ثم يحكم ضاربًا بعرض الحائط القوانين والدستور والأعراف.
ويضاف إلى هذا سيطرة الحكومة الحالية وحلفائها على مؤسسات الإعلام الهندي بما فيه منصات التواصل الاجتماعي بصورة شبه كاملة مما يسمح لها وحدها أن تصل بصورتها وآرائها إلى عامة الناس. وقد تسرب المؤمنون بأيديولوجية غلاة الهندوس (الهِنْدُوتوا) إلى القضاء والشرطة والجهاز البيروقراطي والمخابرات وهؤلاء كلهم يعملون لصالح الحزب ولا يهمهم أن أفعالهم وقراراتهم تعارض القوانين والدستور الذي لا يزال علمانيًا، ولكن هناك محاولات لتغييره وحذف مواد العلمانية والاشتراكية منه، ولكن أعتقد أن الحكومة الهندية لن تقدم على ذلك لأنها ستؤثر على سمعة الهند على المستوى العالمي. أضف إلى هذا ظهور عشرات من المنظمات المسلحة (المليشيات) الهندوسية التي تستخدم العنف ضد المعارضين والمسلمين والمسيحيين وتخرج إلى الشوارع بأعداد كبيرة كلما رغبت الحكومة في إسكات أعدائها وضربهم وترويعهم.
بالعودة إلى مخططاتهم وسياساتهم، وبالنظر إلى دائرة جغرافية أوسع، أي دور يلعبه النظام القائم الذي تتصدره الحركة القومية الهندوسية في دعم محاولات إضعاف المسلمين في فلسطين وبنغلاديش وغيرهما؟ وقد أبان طوفانُ الأقصى عن مدى تعمق وتجذر علاقة الهند مع الكيان الصهيوني إذ كان نظامها أول داعم له دعمًا غير مشروط!
غلاة الهندوس المؤمنون بالهِنْدُوتوا اكتسبوا على مر السنين عداءً أعمى للإسلام والمسلمين وهم يدعمون أية حكومة أو مؤسسة أو حزب أو حتى شخص يُعادي المسلمين في أي مكان سواء كان في أوروبا أو أمريكا أو حتى في فلسطين المحتلة. وهذا هو السبب في أنهم يؤيدون إسرائيل ويعادون فلسطين والفلسطينيين بدون فهم لجذور المشكلة الصهيونية. وقد أقامت الهند العلاقات الدبلوماسية المعتادة مع إسرائيل في أعقاب أوسلو ولكن هذه العلاقات توطدت بعد وصول غلاة الهندوس إلى الحكم في أواخر 1999م ثم مرة أخرى سنة 2014م. وتتمثل هذه العلاقات في تبادل المعلومات الاستخبارية، وشراء الهند أسلحة من إسرائيل، وتأييد الهند لإسرائيل في المحافل الدولية. وهذا التأييد لن ينتهي بزوال حكم غلاة الهندوس ولكن حدته ستخف بكل تأكيد.
الوعي اليقظ في تعزيز وجود الإسلام
يقول الشيخ العلّامة وحيد الدين خان في كتابه (واقعنا ومستقبلنا في ضوء الإسلام): «إذا رأيت حقوق أمّتك قد سُلبت، فاغرس لدى أفرادها العاطفة التي تُمكنهم من القيام بالدفاع عن حقوقهم بقوة وأمانة وحل قضيتهم».
ما هي مقومات الأمّة المسلمة في الهند التي ينبغي إنماؤها ورعايتها للخروج من دائرة الاستضعاف والذود عن الحقوق والكرامة؟
مقومات الأمة المسلمة في الهند متوفرة ويمكن للمسلمين الخروج من دائرة الاستضعاف والذود عن حقوقهم وكرامتهم بشرط خروجهم من دوامة الخلافات المسلكية التي تفتت قوتهم وتظهرهم كمجتمع يحارب بعضه بعضًا. والحصول على هذه النتيجة صعب ولكنه الطريق الوحيد ليستعيد مائتا مليون من البشر حقوقهم وكرامتهم.
في خضم التغيّرات العالمية وما تشهده الأمّة الإسلاميّة من تحولات من جهة، وتصاعد المخططات الهندوسية الحكومية من جهة أخرى، كيف ترون واقعية مخطط التحول من هند علمانية إلى أمة للهندوس؟
الهندوس قوم عقلاء جدًا، يعرفون كيف يأكلون الكتف ويبقونها على حالها ليقولوا: «انظروا لم نفعل شيئًا»! والحقيقة هي أن الهند بعد الاستقلال وفي ظل حكم حزب المؤتمر -العلماني جدًا- كانت قد تحولت عمليًا إلى دولة هندوسية مع إبقاء مادة العلمانية في الدستور الهندي والزعم بأن الهند تحترم كل الأديان، ولكن من الناحية العملية كان قد جرى تهميش كل الأديان والمجموعات ما عدا الهندوسية والهندوس. ولذلك فإن التغيير الذي حدث في ظل حكم الشعب الهندي -الهندوسي جدًا- لم يدهش الناس هنا. فكل ما حدث هو المزيد من التأكيد على هندوسية الهند ورفع الهندوس فوق المجموعات الأخرى مع بقاء مادة العلمانية في الدستور الهندي وبقاء شعارات الديموقراطية.
فالقشرة كانت ولا تزال علمانية وديمقراطية بينما اللب هندوسي قح. وأظن أن الوضع سيبقى على هذا، لأن نخبة الهندوس تدرك أن الهند ستخسر لو أعلنت رسميًا أنها دولة هندوسية؛ إذ لو فعلت ذلك فستخسر مكانتها الممتازة في المجتمع العالمي وقربها من الدول الغربية بما يعود عليها بالكثير من الفوائد السياسية والاقتصادية.
الوعي اليقظ بما يواجه المسلمين في أوطانهم وفي الهند خصوصًا باعتبارها ثالث دولة من حيث عدد السكان المسلمين، يُعتبر من واجبات الوقت، ما هي رسالتكم للمصلحين والمنظمات والشباب المسلم في الأمّة الإسلامية للعناية عمليًّا بواقع مسلمي الهند ومتطلباته ذات الأولوية؟
كان من المفروض أن تهتم الأمة المسلمة بأبناء الأمة الذين هم في أشد الحاجة لمعرفة أحوالهم وعلى الأقل نشرها وتعميمها على المستوى العالمي والضغط على الحكومات التي تسيئ إليهم، وإنشاء مؤسسات تعليمية وثقافية في الهند. وكان ينبغي أن تكون هناك منظمات متخصصة تقوم بهذا العمل ولكن، كما ترون، الأمة المسلمة لا تكترث بأوضاع مسلمي الروهينغيا وتركستان الشرقية (سينكيانغ) وحتى بأوضاع المسلمين في دول غربية مثل فرنسا، فكيف لها أن تهتم بمسلمي الهند؟
الذي يجري في الهند هو محاولة لتحويل الهند إلى أندلس أخرى، وهم يقولون هذا صراحة وقد أرسلوا وفودًا إلى إسبانيا لدراسة كيف تم القضاء على الوجود الإسلامي هناك.
نشر خبر هنا وتعليق هناك لا يكفي… ينبغي أن تكون هناك مؤسسات كبيرة مثل العفو الدولية وهيومن رايتس ووتش تراقب وتدرس أوضاع الأقليات المسلمة باستمرار وتنشر عنها دراسات دورية وتتدخل لصالحها في المنظمات الدولية. ولكن لا نتصور أن هذا ممكن بعد أن رأينا خذلان الأمة المسلمة للمجاهدين في غزة… لقد رأينا تخاذل الأمة عن نصرة غزة بينما انبرى غير المسلمين للدفاع عنها، وهذا يدل على أن الأمة المسلمة مصابة بداء عضال… ألا ترى أن كل دولة أو دويلة تهتم الآن فقط بما يجرى داخل حدودها المصطنعة؟ نحن في الواقع لا نتوقع شيئًا من الأمة الإسلامية بل نحاول حل مشكلاتنا بأيدينا.
رحلة ظفر الإسلام خان في ترجمة القرآن الكريم

نختم الحوار بالحديث عن مشروعكم الفكري النوعي، ما اللحظة التي ولدت فيها فكرة ترجمة معاني القرآن الكريم إلى الإنجليزية؟ وكيف تحولت من حاجة آنية إلى مشروع علمي امتد لسنوات؟
جاءتني الفكرة في أوائل ثمانينات القرن الماضي حين كنت كبيرًا للباحثين بالمعهد الإسلامي بلندن، وكنت أحتاج إلى ترجمة الآيات القرآنية الكريمة لوضعها في كتب المعهد ودراساته. وبما أن ترجمة الأستاذ عبد الله يوسف علي هي المشهورة والمتداولة، فكنت ألجأ إليها لنقل ترجمته للآيات التي أرغب في نقل ترجمتها. وكنت دائمًا أُفاجأ بأن ترجمته غير دقيقة أو غير صحيحة، أو هي شرح بدلًا من أن تكون ترجمة دقيقة. وفكرت منذئذ أن أتفرغ لبعض الوقت لتصحيح أخطاء ترجمته ونشرها على أنها ترجمة مصححة.
ولم أوفَّق إلى بدء هذا العمل إلا سنة 2011م بعد أداء فريضة الحج مع زوجتي في السنة السابقة، حين قررت وأنا في الحرم المكي الشريف أنني سأبدأ هذا العمل بدون تأخير بعد عودتي إلى الهند. وهكذا بدأتُ هذا العمل في يناير 2011م بعد عودتي من الحج. ولم أتمكن أن أتفرغ تمامًا لهذا العمل آنذاك، بل كنت أقوم به إلى جانب أعمالي الصحفية والعلمية الأخرى.
وهكذا استمر هذا العمل ببطء إلى أن جاءت فترة جائحة الكورونا سنة 2020م، وحينها قررت أن أتفرغ لهذا العمل، فأمضيت السنوات الثلاث الموالية متفرغًا بصورة كاملة لهذا العمل، من الصباح حتى منتصف الليل، وأنا أراجع الترجمة وأبحث في كتب التفسير والمعاجم وغيرها من أمهات كتب المكتبة العربية الإسلامية، إلى أن اكتمل العمل ونُشر للمرة الأولى في أغسطس 2023م في طبعتين، إحداهما مع المتن العربي، والأخرى بدون المتن العربي، ثم نُشرت الطبعة الثانية للطبعتين في منتصف 2024م، وستصدر الطبعة الثالثة خلال شهر من الآن بإذن الله تعالى.
بعد عقود من البحث والكتابة في الإسلاميات، كيف قادتكم التجربة العلمية إلى خوض مشروع ترجمة معاني القرآن الكريم؟ وما الذي كشفه لكم هذا العمل من تحديات استدعت تجاوز فكرة المراجعة إلى بناء مشروع متكامل؟
إسهاماتي في الدراسات الإسلامية والتاريخ الإسلامي متنوعة عبر أكثر من نصف قرن، باللغات العربية والإنجليزية والأردية. ولكن فيما يتعلق بترجمتي لمعاني القرآن الكريم، فقد اكتشفت سريعًا أن خطتي الأولية لمراجعة ترجمة الأستاذ عبد الله يوسف علي لا تكفي، وهكذا أخذ العمل يتمدد، فشمل تدقيقًا كثيرًا في الترجمة نفسها، إذ أخذت أنبش عن معاني الكلمات والآيات وأحكامها وأسباب نزولها.
وأدى هذا إلى تحسين الترجمة بصورة دقيقة، إلى جانب عكوفي على كتابة هوامش بلغت نحو ألفين وخمسمائة هامش، حاولتُ فيها شرح معاني الآيات، وبصورة خاصة من منظور عصري، مراعيًا ما يطلبه القارئ العصري، بما فيه القارئ غير المسلم، وذلك لأن ترجمات كثيرة تخلو من هوامش شارحة، مما يتسبب في نشوب شكوك في أذهان القراء، وخصوصًا من غير المسلمين.
وبسبب خلو الترجمات من المعلومات الشارحة، يميل القراء إلى الاعتقاد بأن الإسلام يؤمن بالعنف، وأنه انتشر بالسيف، وأنه يعامل غير المسلمين وحتى المسلمات بإجحاف، وأنه لا يصلح لهذا العصر،… فقمتُ بمعالجة هذه الأمور في الهوامش، وخصوصًا فيما يتعلق بالآيات التي تُستغل لإثارة الشكوك.
وبالإضافة إلى هذا، أعددتُ دراستين مستفيضتين، إحداهما عن القرآن الكريم وتاريخه ومحتوياته وقضاياه، والأخرى عن حياة الرسول الأكرم صلى الله عليه وسلم، ثم أعددتُ معجمًا للمصطلحات الإسلامية، ودليلًا لموضوعات القرآن الكريم.
وبهذه الإضافات، أصبحت هذه الترجمة مصدرًا متكاملاً عن الإسلام، بحيث سيجد القارئ في الهوامش أو الملاحق ردًّا على تساؤلاته.
ما المنهج الذي اتبعتموه في ترجمة معاني القرآن الكريم؟ وكيف سعيتم لتقديم الإسلام كما فهمه الجيل الأول من المسلمين؟
كان اعتمادي الكلي على المراجع الإسلامية العربية الأساسية من تفاسير، وسيرة نبوية، ومغازي، ومعاجم، وتاريخ إسلامي، وأحكام سلطانية، وفقه، وطبقات، إلخ… وقد حاولت أن أفهم معاني القرآن الكريم، والمفاهيم، والمصطلحات الإسلامية كما فهمها أوائل المسلمين، ابتداءً من الرسول الأكرم صلى الله عليه وسلم، إلى الصحابة، إلى التابعين، وتبع التابعين.
ولم أُعَوِّل مطلقًا على المتأخرين، ولم أسمح لعملي بالتأثر بآراء واختلافات الفقهاء والمفسرين المتأخرين، ولذلك لا يوجد في ترجمتي أي تحيز لمدرسة فقهية دون أخرى، بل حاولت أن أقدم الإسلام الناصع كما جاء به رسول الإسلام صلى الله عليه وسلم.
وأرى أن من أهم المهلكات التي وقع فيها المسلمون هي انقسامهم إلى فرق وأحزاب، يُكفِّر بعضها البعض، وترى كل فرقة منها أنها دون غيرها الناجية وعلى طريق الحق. وقد حاولت من خلال ترجمتي الترفع على هذه الانقسامات، وأن أقدم الإسلام الحقيقي الناصع الذي يرتفع فوق الاختلافات الفقهية والفكرية.