هل التنمية محايدة؟ إشكالية فشل النهضة التنموية في العالم العربي

عند تناول قضايا النهضة والتنمية، غالبًا ما تُطرَح هذه المفاهيم ضمن إطار نظري مستمد من التجربة الغربية، ويُقدَّم بوصفه نموذجًا عالميًا صالحًا للتطبيق في كل المجتمعات. غير أن التجارب التنموية في دول العالم العربي وما يُعرف بـ”العالم الثالث” بشكل عام كشفت أن نجاح أي مشروع تنموي لا يتوقف على استيراد نماذج جاهزة، بل على مدى تفاعله مع السياقات الثقافية والاجتماعية المحلية. فالبرامج والمفاهيم التي يُنظر إليها بوصفها “عالمية” أو “كونية” تصطدم، عند تطبيقها في بيئات مختلفة، بتحديات جوهرية تتعلق بعدم ملاءمتها للبنى الاجتماعية والاقتصادية القائمة.

وفي هذا السياق، يرى مبروك المنصوري أن ما يُسمى بكونية المفاهيم التنموية ليس سوى “وهم”، إذ إنها وُلدت في مسار حضاري غربي لخدمة احتياجاته الخاصة. وقد دفعت هذه الإشكالية بعض المفكرين ما بعد الحداثيين إلى استبدال مفهوم “كونية المفاهيم” بمصطلح “نسبية المفاهيم”1، في إقرارٍ بأهمية مراعاة خصوصيات المجتمعات المختلفة عوضًا عن فرض نموذج واحد يُفترض أنه صالح لكل زمان ومكان.

لقد قامت مشاريع النهضة في أوروبا الغربية على تحولات تاريخية داخلية نابعة من تفاعلات ثقافية واقتصادية متراكمة، أما في دول العالم الثالث، فقد فُرضت التنمية كنموذج جاهز من الخارج دون مراعاة للسياقات المحلية. وكان لهذا التبني غير الواعي أثر سلبي على انسجام المشاريع التنموية مع البُنى الاجتماعية التقليدية، مما خلق فجوات هيكلية عميقة بين الدولة والمجتمع. فتجاهل الخصوصيات الثقافية أفضى إلى مقاومة المجتمعات المحلية لهذه المشاريع، وأدى إلى تعثر التنمية في العديد من الدول العربية ودول الجنوب العالمي.

ولادة الدولة الحديثة: بين الاستعمار وإعادة التشكيل

التنمية بين الاستعمار وإعادة التشكيل

لا يمكن فهم أزمة الدولة الحديثة في العالم العربي دون العودة إلى ظروف نشأتها، حيث لم تكن هذه الدولة امتدادًا طبيعيًا لديناميكيات اجتماعية وسياسية داخلية، بل جاءت كنتيجة مباشرة لمشاريع استعمارية فرضت أنماطًا إدارية وحدودًا سياسية تتوافق مع المصالح الاستعمارية أكثر من تعبيرها عن الواقع المحلي.

يقدم أدهم صَولي في كتابه (الدولة العربية: معضلات التشكُّل المتأخِّر) تحليلًا دقيقًا لهذه الإشكالية، موضحًا كيف أن الدولة في العالم العربي لم تنشأ وفق تدرج تاريخي يسمح لها بتطوير هياكلها السياسية استنادًا إلى الحاجات الاجتماعية، بل جاءت كنتيجة لقرارات خارجية أعادت رسم الخرائط السياسية للمنطقة وفقًا لحسابات القوى الكبرى. ففي الفصل الثاني: (تشكيل الشرق الأوسط: الأناركية الدولية والاستجابات المحلية)2 يناقش صولي كيف أن الدول العربية التي ظهرت بعد الاستعمار نشأت في سياق صراعات دولية لا علاقة لها بتطور المجتمعات المحلية، بل كانت انعكاسًا لميزان القوى بين الاستعمار البريطاني والفرنسي، ما جعل كياناتها السياسية تتسم بالهشاشة منذ البداية.

هذه الفكرة نجد حضورها كذلك في تحليلات الباحث “بدي المرابطي”، الذي يرى أن نشوء دولة عربية مثل موريتانيا لم ينبع من تحولات داخلية تعكس تطورًا طبيعيًا للمجتمع، بل جاء كنتيجة مباشرة للضرورات الاستعمارية ذات الطابع الجيوسياسي والاقتصادي. وفي هذا الإطار، نجده يقول في إشارته إلى الدولة الموريتانية: «وُلِدت كمعطى فوقي خارجي مفارق، أي كنموذج حدّي أو أوجي للدولة ما بعد الاستعمارية»3، ما يعني أن تشكلها لم يكن نتاجًا لمسار اجتماعي داخلي، بل كان محكومًا باعتبارات القوى الاستعمارية التي صاغت كيانها السياسي وفقًا لأولوياتها، وليس وفقًا لحاجات المجتمع المحلي.

فلم يكن هذا التشكُّل للدول في الوطن العربي مجرد مسألة حدود مرسومة على الخرائط، بل كان مرتبطًا بفرض نموذج إداري جديد، قُدِّم على أنه تحديثي، لكنه في جوهره كان امتدادًا للبنية الاستعمارية، حيث حافظ على الطابع المركزي للسلطة وعزلها عن التشكيلات الاجتماعية التقليدية التي ظلت قائمة ومؤثرة، ما خلق تنافرًا مستمرًا بين الدولة والمجتمع.

ويمكن العودة إلى تحليلات “دي شاسيه” بشأن مراحل الاستعمار الفرنسي لفهم مسار التأسيس السياسي في دولة عربية إفريقية كانت تحت الاستعمار الفرنسي، ففي مرحلته الأولى، اعتمد الاستعمار الفرنسي على خطاب عسكري يروّج لسياسة “السلم المتبصر”4 وهو خطاب لم يكن يهدف إلى تحقيق الاستقرار بقدر ما كان يبرر السيطرة الاستعمارية ويُغطي على استغلال الموارد والثروات المحلية. خلال هذه الفترة، ركزت الإدارة الاستعمارية على تعزيز الهيمنة العسكرية والسياسية، مع إهمال كامل للبُنى الاجتماعية والثقافية القائمة، ما أدى إلى عزلة الدولة الاستعمارية عن السكان المحليين.

أما في المرحلة الثانية، وبعد مرور ثلاثين عامًا من الاحتلال، بدأ الاستعمار بتغيير خطابه نحو ما اعتُبر “تنمية” في المستعمرات5 من خلال سياسات اقتصادية ظاهرها الإصلاح، لكنها في جوهرها لم تأخذ في الحسبان الاحتياجات الفعلية للمجتمعات المحلية. يلاحظ “دي شاسيه” أن هذه السياسات ركزت على تحقيق التغيير الاقتصادي دون تحديث الهياكل الاجتماعية والثقافية بما يتناسب مع هذا التغيير، مما أسفر عن آثار سلبية واسعة النطاق.

هذا التحول في الخطاب الاستعماري لم يكن مجرد تبدل في المصطلحات، بل كان انعكاسًا لاستراتيجية تهدف إلى تحويل المستعمرات إلى كيانات اقتصادية تخدم حاجات فرنسا، ما جعل موريتانيا تظهر كدولة “مواد خام”، إذ سيطرت فرنسا على الموارد الطبيعية دون أن تساهم في بناء مؤسسات تخدم المجتمع المحلي أو تضمن استقلالية الدولة الناشئة لاحقًا. وبذلك، ورثت الدولة المستقلة إدارات مركزية أقرب إلى امتداد النظام الاستعماري منها إلى تعبير حقيقي عن طموحات المجتمعات المحلية، ما جعلها تعاني من أزمة هوية سياسية منذ نشأتها.

الحداثة والهوية: بين الانبهار والتناقض

بعد الاستقلال، وجدت الدول العربية نفسها أمام تحدٍّ مركب: كيف يمكن تحديث الدولة دون الوقوع في فخ التبعية للنموذج الاستعماري؟ وكيف يمكن التوفيق بين ضرورات التحديث ومتطلبات الهوية الثقافية؟

يشير جلال أمين في كتابه (خرافة التقدم والتخلف) إلى أن مفهوم “التخلف” كما صاغته المؤسسات الغربية كان أداة لدفع الدول النامية نحو استيراد أنماط حديثة دون تمحيص.6 هذا التبني للأشكال المستوردة دون مراعاة للخصوصيات الاجتماعية، الذي أشار إليه جلال أمين، يمكننا اعتباره سببًا رئيسيًا لظهور ما يُعرف بـ”المقاومة الاجتماعية” لهذا التغيير، حيث يبدو وكأنه مفروض على سياق لم ينتجه. هذا الرفض ليس رفضًا للتقدم بحد ذاته، بل هو تعبير عن عدم ملاءمة النموذج المستورد للواقع المحلي. فالتحديث، في صورته التي قُدمت لهذه الدول، لم يكن مجرد عملية تطوير داخلي، بل كان عملية قسرية تتجاهل خصوصيات المجتمعات المستهدفة، مما أدى إلى انقسام بين نخبة تتبنى هذا النموذج دون نقد، وقطاعات شعبية ظلت متمسكة بطرقها التقليدية.

ومن جانبه، يرى مبروك المنصوري في كتابه (مكانة الدين في النهضة اليابانية والعربية) أن المشكلة لم تقتصر على فرض النموذج الغربي، بل امتدت إلى غياب النقد الحقيقي للفكر الاستعماري داخل النخب العربية.7 ففي الوقت الذي أعادت فيه دول في شرق آسيا مثل اليابان قراءة تجاربها بعين نقدية قبل تبني أي شكل من أشكال الحداثة، تبنّت كثير من الدول العربية المفاهيم الغربية دون تمحيص، ما أدى إلى ازدواجية قاتلة: دولة حديثة في بنيتها الإدارية، لكنها عاجزة عن بناء شرعية داخلية، لأنها لم تنبع من تفاعل طبيعي مع المجتمع.

إن جوهر الإشكالية يكمن في أن الدول العربية، بدلًا من تطوير نموذج حديث ينبع من داخلها، سقطت في فخ الحداثة المستوردة، التي لم تكن مجرد نقل للتكنولوجيا أو التطور الإداري، بل كانت رؤية للعالم تفرض تصورات معينة عن السياسة والمجتمع والاقتصاد، دون مراعاة اختلاف السياقات الثقافية. 

والنتيجة كانت أن هذه الدول لم تتمكن من تحقيق استقرار سياسي مستدام، لأن التحديث لم يكن استجابة لحاجات مجتمعاتها بقدر ما كان استجابة لضغوط خارجية، سواء من القوى الاستعمارية السابقة أو من المؤسسات الدولية التي تفرض وصفات جاهزة للتنمية.

التجربة اليابانية: التحديث دون قطيعة مع التقليد

ويمكن عرض مسار تطور النهضة اليابانية، كما قدّمه المفكر التونسي مبروك المنصوري، كنموذج بارز لتحقيق التنمية دون التفريط في الهوية الثقافية. فيرى مبروك المنصوري أنه بينما كانت الحضارة الغربية تتجه إلى تقليص حضور الدين كشرط من شروط النهضة، سعت اليابان إلى استعادة الدين “الشينتوي” كأحد الأعمدة الأساسية للهوية الوطنية،8 مما مكّنها من دمج القيم الدينية مع التطور الحديث، وهو ما عزز الاستقرار الاجتماعي وأدى إلى تكامل الهوية مع الحداثة.

فالنموذج الياباني من منظوره تميز بقدرته على التكيف مع المؤسسات الغربية دون استنساخها، إذ تم تعديلها بما يتناسب مع الثقافة المحلية. حيث حافظت اليابان على دور الإمبراطور كرمز للهوية الوطنية، مما منح النظام شرعية شعبية. كما ركزت على بناء قاعدة صناعية محلية قوية، بعيدًا عن الاعتماد على الاستثمارات الأجنبية، مما عزز استقلالها السياسي والثقافي.

كما أن عملية التحديث في اليابان لم تقتصر على المجالات الاقتصادية والسياسية فقط، بل شملت أيضًا إعادة إحياء التراث الثقافي. فقد أدخلت اليابان مفاهيم تقليدية مثل “البوشيدو” (أخلاقيات الساموراي) في بيئة العمل الحديثة، مما أسهم في تعزيز الانضباط والإنتاجية، وأدى إلى خلق هوية وطنية متماسكة تقبل التغيير دون التفريط في الجذور.

وأثناء عقده لمقارنة بين النموذج الياباني والنموذج العثماني والعربي، يظهر المنصوري أن اليابان نجحت في توحيد هويتها عبر الشينتو، بينما لم تهدف الإصلاحات العثمانية إلى توحيد التشتت المذهبي والسياسي الذي كانت تشهده مناطق كثيرة من الخلافة،9 مما جعلها عرضة للتدخل الخارجي. كما أن النخب العربية لم تنجح في صياغة نموذج مستقل يعكس الهوية الثقافية كما فعلت اليابان من خلال “سايساي إيتشي” (وحدة الدين والسياسة)، التي كانت إطارًا محليًا للتحديث يجمع بين التقاليد والحداثة.

نحو نموذج عربي متصالح مع هويته

الحضارة العربية الإسلامية

إذا كانت اليابان قد نجحت في تطوير نموذجها التحديثي بالاعتماد على مؤسساتها التقليدية، فإن أزمة الدولة في العالم العربي لا تتعلق فقط بالبنية الإدارية أو السياسية، بل تمتد إلى طريقة تشكُّل الدولة نفسها. ففي العديد من الدول العربية، لم يكن التحديث عملية طبيعية نابعة من احتياجات المجتمع، بل جاء على هيئة استنساخ أعمى للنماذج الغربية، ما أدى إلى هشاشة الهوية السياسية وضعف المؤسسات.

إن تجاوز هذه الإشكالية لا يكون برفض الحداثة، بل بإعادة التفكير فيها ضمن السياق العربي، بحيث تستفيد من المؤسسات الاجتماعية التقليدية وتراعي التنوع الثقافي واللغوي والديني للمجتمعات العربية. وكما أظهرت التجربة اليابانية، فإن الحداثة لا يمكن فرضها كقالب جاهز منفصل عن الواقع، بل يجب أن تنبع من النسيج الثقافي المحلي، بحيث تكون امتدادًا للتقاليد، لا قطيعة معها.

وفي الختام يمكن القول إن معضلة التنمية في الوطن العربي ليست مجرد أزمة سياسات اقتصادية، بل هي انعكاس لإشكالية أعمق تتعلق بهوية الدولة نفسها، التي نشأت -كما يوضح أدهم صَولي وبدي ولد أبنو- كنتيجة لضرورات استعمارية، لا كتعبير عن تطور تاريخي طبيعي لمجتمعاتها. وهذا ما جعل بنيتها السياسية هشة، ومشاريعها التنموية متأرجحة بين استيراد نماذج خارجية لا تتماشى مع واقعها، وبين محاولات تحديث قسرية لا تنبع من روح مجتمعاتها. 

وفي هذا السياق، يؤكد مبروك المنصوري أن أي مشروع نهضوي لا يستند إلى الأسس الحضارية للأمة العربية، في أبعادها الثقافية والدينية، سيظل مشروعًا واهيًا، مهما حمل من شعارات حداثية.10 وعليه، فإن تجاوز هذه الإشكالية يقتضي إعادة صياغة التنمية من منظور يستلهم التجارب الناجحة التي دمجت بين التحديث والخصوصية الحضارية، بحيث لا تكون التنمية مجرد انعكاس لموازين القوى الدولية، بل عملية نابعة من المجتمعات العربية نفسها، تعبر عن تطلعاتها وتعزز استقلالها الحقيقي.

هامش

  1. المنصوري، المبروك. مكانة الدين في النهضة اليابانية والعربية، ص 7. ↩︎
  2. صولي، أدهم. الدولة العربية: معضلات التشكل المتأخر، ترجمة: مجد أبو عامر يارا نُظَار، ص 71. ↩︎
  3. المرابطي، بدي. تأملات في العقل السياسي الكوبرادوري، موريتانيا إلى أين ؟ ص 30. ↩︎
  4. دي شاسيه، فرانسيس. موريتانيا من 1900 إلى 1975، ترجمة محمد ولد بوعليبة ولد لغراب، ص 15. ↩︎
  5. دي شاسيه، فرانسيس المرجع نفسه، ص 45. ↩︎
  6. أمين، جلال. خرافة التقدم والتخلف، الطبعة الأولى، ص 29. ↩︎
  7. المنصوري، المبروكي. المرجع السابق، ص 6. ↩︎
  8. المرجع نفسه، ص 39. ↩︎
  9. المرجع نفسه ص 39. ↩︎
  10. المرجع نفسه ص 8. ↩︎

إبراهيم الشيخ سيديا

باحث في علم الاجتماع والأنثروبولوجيا مهتم بالقضايا الفكرية، وطالب ماستر في مسلك التنمية والتحولات الاجتماعية.… المزيد »

مقالات ذات صلة

تعليق واحد

  1. مبدع كالعادة! أسلوبك في الطرح يجعل المعلومة سهلة وممتعة، شكراً على هذا المقال المفيد.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى