تهافت الفكرة العقلية حول الإسلام
إننا في هذا العصر الذي كثر فيه التدليس والإيهام، وانتشرت فيه الأحكام غير الصحيحة، نرى كثيرًا من القضايا المهمّة غائبةً عن الخطاب الإسلامي، فأُنشئت هذه السلسلة لتكون معنية في تقديم مواضيع من شأنها إعادة الوعي للأمة الإسلامية، وفي غرَّتها سيتناول الدكتور غازي التوبة الحديث عن قضية تهافت الفكرة العقلية حول الإسلام.
مقدمة: تهافت الفكرة العقلية حول الإسلام
اضطربت البشرية نحو العديد من الموضوعات الشائكة منذ نزول سيّدنا آدم -عليه السلام- على ظهر هذه البسيطة إلى الآن، وكانت أبرزها ما يأتي:
العقل والوحي: أي العقل والنقل.
الغيب والمادة: فقد اعتبر البعض الغيب أوهامًا وخرافة لا أصل لها، وأن الكون مادة.
المرأة: حيث أعْلت بعض الشعوب من شأن المرأة وقدَّستها، واعتبرتها شعوب أخرى رذيلة من الرذائل.
ولقد وفق القليل جدًا من الشعوب في الموازنة في الأمور الثلاثة آنفة الذكر، لكن بفضل الله -سبحانه وتعالى- وبفضل الوحي الذي أنزله على سيّدنا محمد -صلى الله عليه وسلّم- وُفّقنا كأمة إسلامية في إيجاد حلول لهذه الأمور والتعامل معها بشكل متوازن، ولذلك كانت أمتنا أمَّة فعالة على مدار الأربعة عشر قرنًا الماضية.
العقل والنقل
إنَّ الدين الإسلامي العظيم الذي أنزله الله -تعالى- على سيّدنا محمد -صلى الله عليه وسلّم- ونقله لنا الصحابة قام على ثلاثة أمور تتجلَّى في محاوره ومبادئه وأنظمته وقيَمه وأفكاره ككل، وهي كما يأتي:
الوحي: وقد تجسّد في أمرين هما القرآن والسنة.
الفطرة البشرية: فقد جعلها الله -تعالى- بصورة معيَّنة منذ خلق سيِّدنا آدم عليه السلام، ولا شكَّ أنَّها كانت من الأمور المحسوب أمرها عندما أنزل الله التشريعات الإسلامية في القرآن الكريم والسنّة المشرفة.
العقل: وهو ملكة أعطاها الإسلام حقّها من غير تنقيص ولا زيادة.
وقد وردت في القرآن الكريم آيات كثيرة يمكننا الاستدلال بها على هذه المحاور الثلاثة، ولعلّ منها قوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُّنِيرٍ} [الحج: 8]. ومع إنزال الله -تعالى- كلامًا منه على أنبيائه؛ سواءً في الزبور أو الإنجيل أو التوراة أو غيرها، كان يُظنُّ في بعض المراحل أنَّ هناك تعارضًا بين النقل والعقل، لكن كانت هذه النقطة محلولة بالنسبة إلى الإسلام، وذلك بجهود علمائه وفقهائه الذين اجتهدوا على مدار التاريخ.
العقل المكوِّن والعقل المكوَّن
نحن في الإسلام نعتقد أن القرآن كلام الله -تعالى- المنزَّل من عنده، وأن العقل من الملكات التي خلقها الله، وهو يتكوّن من أمور أخرى، وهنا نصل إلى مفهوميِ العقل المكوِّن والعقل المكوَّن (الأولى بكسر الواو والأخرى بفتحها)؛ حيث إنَّ العقل المكوِّن هو العقل الفطري، والعقل المكوَّن هو المعلومات التي طرحها الإسلام في القرآن عن الله والغيب والجنَّة والنار والملائكة وغير ذلك، وهذان الأمران لا تعارض بينهما، وبالتالي لا تعارض بين النقل والعقل.
متى يحدث التعارض بين العقل والنقل؟
من القواعد الذهبية التي أقامها التاريخ الإسلامي: (موافقة صحيح المنقول لصريح المعقول)، فإن كان المنقول صحيحًا، والمعقول صريحًا لا يمكن أن يكون بينهما تعارض يقينًا، ولكن يحدث التعارض عندما يكون المنقول غير صحيح أو المعقول غير صريح.
وعندما يحدث التعارض، فإن ذلك يعني أنَّ لمنقول فيه خطأ ما؛ بمعنى أنّه إمَّا لم يرد في القرآن الكريم أصلًا، أو أنّه لم ينقل بشكل صحيح عن الرسول صلى الله عليه وسلّم، أو أننا لم نفهم معناه، باعتبار القرآن الكريم والسنة هما مصدري المنقول عندنا، والمعقول يجب أن يكون واضحًا وصريحًا من غير لبس، أي إنه لا يحتمل معنىً آخر.
الفرَق التي شكَّكت في موافقة العقل للنقل
ظهرت مجموعة من الفرق التي ادَّعت وجود تعارض بين النقل والعقل، منها المعتزلة والسمنية، وقد ألَّف ابن تيمية كتابًا عظيمًا للردّ عليهم، وهو: (درء تعارض العقل والنقل)، وهو أعظم كتاب في التاريخ الإسلامي في مجال تأليف الكتب؛ لأنه عالج قضية مهمة يُظن فيها التعارض، لا سيَّما أنه جاء بعد ظهور مثل هذه الفرق.
والسمنية فرقة قامت في بداية الدولة العباسية في عهد الهادي والمهدي ولديِ المنصور، وهي ترجع في أصولها الثقافية إلى الهند، وقد ادَّعت السمنية عدم وجود حاجة للوحي أو الأنبياء، وأن العقل وحده يكفي. وعلى الرغم من انتشارها، إلّا أن الدولة العباسية أنشأت ما يسمى بديوان الزندقة لمحاربة هذه الفرقة، فكانوا يتابعون كل من ينتسب إلى هذه الفرقة أو يقول قولهم.
كما أن أحمد بن حنبل كان معاصرًا لهذه الأحداث، فكتب -رحمه الله-: (رسالة الرد على الزنادقة والجهميّة)، ووضع فيه توضيحًا تفصيليًا يردّ به على مزاعمهم بوجود تناقض وأمور مشكوك فيها في القرآن الكريم. وقد كانت النقطة الأبرز التي يقيمون عليها ادعاءهم وجود آيات ليست على صورة واحدة كقوله تعالى: {رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ} [الرحمن: 17]، وقوله تعالى: {فَلَا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ إِنَّا لَقَادِرُونَ} [المعارج: 40]، وقوله تعالى: {رَّبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ} [المزّمل: 9].
أما فرقة المعتزلة، فقد كانت متأثرة بالمذهب الذري اليوناني، فكانوا يقولون بوجود تعارض بين العقل والنقل، وقد اجتهدوا في حل مثل هذه المسائل من خلال اللجوء إلى وسائل خاطئة في معظم الأحيان، وقد ردَّ على هذا الفريق العديد من العلماء المسلمين.
الحضارة الإسلامية أعظم حضارة في التاريخ
كانت الحضارة الإسلامية الحضارة الأعظم في تاريخ البشرية، وليس في ذلك انحياز لتاريخنا وأمتنا، بل هو قول موضوعي وعلمي، فقد حوت خير البشرية في كل المجالات، سواء في السياسة، أو الاجتماع، أو الصحة، أو التربية، أو الفن، أو العلم، أو غيرها، فكان إنتاجها بمثابة الذروة على مرِّ البشرية.
كانت هذه الأمة العظيمة تعتبر الوحي إمامًا لها والعقل تابعًا له، وهذا ما نصَّ عليه الشاطبي، وعلى الرغم من ذلك أنتجت أمتنا حضارة علمية لعلَّها الأوسع في التاريخ، وقد ظهر ذلك جليًا بالنظر لما أبدعوا به من علوم الفلك والطب والصيدلة والزراعة والرياضيات والفيزياء وغيرها. وقد تم تسليط الضوء على هذا الموضوع في كتاب (الأمة الإسلامية بين القرآن والتاريخ) الذي يتناول ذكر العلوم التي أبدع بها المسلمون.
وإنَّ التعارض الذي يذكره أتباع الحضارة الغربية بين الإيمان بالغيبيات والوحي وبين عمارة الأرض والإنتاج قول مردود، فكوننا نؤمن بالوحي وما جاء من عند الله -تعالى- لم يجعلنا نتأخر في عمران الأرض، بل بنينا حضارة كانت الأعظم في التاريخ على الإطلاق.
الحضارة الغربية ونشأتها
قامت الحضارة الغربية بشكل أساسي على معاداة الدين والوحي وإبعادهما والتنكر لهما، وعلى دعوى اعتماد العقل وحده، فعندما قامت الثورة الفرنسية تمَّ اعتبار الدين سبب التأخر والاستبداد، ومن هنا بدأت العلمانية القائمة على الفصل بين الدين والدولة، حتى يقال إنَّهم أنشأوا معبدًا لعبادة العقل، وأقرُّوا باعتماد العقل وحده في كل مناحي الحياة.
وإننا إن نظرنا إلى موقف الأوروبيين من أحد الاتجاهات قد نرى جانبًا من الصواب، وهو أنَّ ما نُقِل إليهم من أدْيرَتهم كان فيه أقوال وترَّهاتُ بشرٍ مضافة إلى الدين، إلا أنّهم تمادوا في التنكر إلى الدين الكله، وما كان يُفترض منهم هو البحث عن الدين الصحيح، لأنَّ الإنسان بفطرته يحتاج إلى رب يعبده ويقدّسه ويخضع له ويرجو جنته، لكنَّهم تنكروا لكامل الدين، وهذا فيه إخلال بالفطرة.
مرحلة عداء الدين في أوروبا
إن ما انتقلت إليه أوروبا في الاعتماد على العقل كان يقوم إلى جانب عداء الدين وبغضه وحجره في نطاق خاص، وقد بلغ الأمر ذروته في القرن الثامن عشر، ومع تتبع مراحل اعتماد العقل في الحضارة الغربية نجد أنها انتقلت من العلمانية الجزئية ،إلى العلمانية الشاملة، إلى الداروينية الاجتماعية.
وقد تضمَّنت كل مرحلة تحوّلات جذرية؛ ففي العلمانية الجزئية بقي الدين موجودًا بقيمه ومبادئه بالرغم من فصله عن الدولة، ثمّ بدأت القيم بالاضمحلال في ظل العلمانية الشاملة، ثمّ أُلغي الدين تمامًا في المرحلة الأخيرة، حتى أصبحت الشهوات هي ما يتحكم بهم، وزاد اعتقادهم بمادية الكون، فاعتمدوا مبدأ «البقاء للأقوى» مع غياب العقل والدين، وهذا الأمر يجعل الحياة عبارة عن صراع بين الوحوش.
فوضى الحضارة الغربية
يرى كبار المفكرين الغربيين، أن هناك خطرًا على البشرية من اتباع الحضارة الغربية، فقد أصبحت المادة والشهوات هي ما تحكم حياتهم، مما جعل الكون كله مهدَّدًا، ولو نظرنا إلى العالم في ظل هذه المعتقدات نرى اضطرابًا في البيئة، وزيادةً في الحروب، وانهدامًا للأسر.
حديث: أنتم أعلم بأمر دنياكم
على الرغم من الأثر الهدام الذي تركته الحضارة الغربية، وستتركه على المدى البعيد، إلا أننا نرى الحداثيين يشجعون على اتباع الحضارة الغربية من غير النظر إلى النتيجة، ويقولون إن الإسلام أوكل للعقل الإنساني تدبير شؤون حياته، مستندين لما ورد عن الرسول -صلى الله عليه وسلم- في صحيح مسلم: ((أنَّ النبيَّ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ مَرَّ بقَوْمٍ يُلَقِّحُونَ، فَقالَ: لو لَمْ تَفْعَلُوا لَصَلُحَ قالَ: فَخَرَجَ شِيصًا، فَمَرَّ بهِمْ فَقالَ: ما لِنَخْلِكُمْ؟ قالوا: قُلْتَ كَذَا وَكَذَا، قالَ: أَنْتُمْ أَعْلَمُ بأَمْرِ دُنْيَاكُمْ)).
ويمكن الردّ على استنادهم إلى الحديث السابق وفهمهم الخاطئ له بأنّ ما قاله الرسول -صلى الله عليه وسلّم- كان من اجتهاده وتبعًا لظنّه، وهو ليس من أمور الدين، ومعنى «أنتم أعلم بأمور دنياكم» أنّه لم يأتِ ليعلّمهم حرفًا مثل الحدادة والنجارة والزراعة وما إلى ذلك، وأن هذه الأمور لها خبراؤها، وهي تخضع للتطورات والتحديثات، والحديث لا علاقة له بالتشريعات بأنواعها المختلفة، كما أنَّهم ينسون عشرات الأحاديث والآيات التي تشير إلى غير هذا.
الحداثيون ومحاولتهم ربط العالم الإسلامي بالحضارة الغربية
قام الحداثيون بجهود واسعة ومتنوعة لتعميق فكرة تحكيم العقل في الساحة الثقافية والعلمية والمحاضرات والندوات؛ وذلك لإفساد العقول وتشكيكها بالوحي والقرآن والسنة، ومن ذلك:
تفسير التاريخ الإسلامي بمناظير غربية
قامت العديد من المحاولات في القرنين التاسع عشر والعشرين بتفسير التاريخ الإسلامي بالمنظور الغربي المادي، فضلًا عن قيام البعض بتفسيره تفسيرًا سياسيًا، وكل ذلك بقصد تطويع العالم الإسلامي للولوج في الحضارة الغربية.
رفض السنة المشرفة
من المعروف أنَّ السنة فيها توضيح وبيان للقرآن الكريم، فضلًا عن الأحكام الجديدة، وبالتالي لا يمكننا الاستغناء عنها، وقد قال أتباع هذا الرفض إنَّ السنة خضعت للأهواء والظروف السياسية والقبلية وغيرها، وادَّعى بعضهم أنها تفسير من الرسول -صلى الله عليه وسلم- للقرآن.
رفض المعجزات الحسية للرسول صلى الله عليه وسلّم
لقد أُيّد الرسول -صلى الله عليه وسلم- بالعديد من المعجزات الحسية؛ منها معجزة انشقاق القمر، والإسراء والمعراج، ونبع الماء، وغيرها، وإن ما يُقصد من رفض هذه المعجزات هو تضييق مساحة النقل لصالح العقل، وهذه من أخطر الفتن؛ لأنها لقيت رواجًا.
رفض قاعدةِ «لا اجتهاد مع النص»
إنَّ الأمور الثابتة في الدين التي لا مجال للاجتهاد فيها تقوم على النصوص قطعية الثبوت والدلالة، وهذه القاعدة تتعارض مع القاعدة الغربية القائلة بنسبية الحقيقة، لهذا فإن الحداثيين يرفضون هذه القاعدة لدفعنا لاتباع قاعدة نسبية الحقيقة، مما يجعل كل المحرمات يمكن تجاوزها، وكل ما هو حلال يمكن معارضته.
تشويه التاريخ الإسلامي
وذلك بالقول إنه تاريخ استبداد وظلم بقصد التسويق للحضارة الغربية والديمقراطية بما فيها من أمور كفرية غير صالحة باعتبار أنها المخرج.
دور الأمة الإسلامية في دفع عقلنة الإسلام
لطالما كانت قضية النقل والعقل والتنكر للوحي المشكلة الكبرى في التاريخ، وإنَّ الخوض في هذا الموضوع ألغى دور الدين والعقل، مما أدى إلى فوضى عارمة، لكن بفضل الله ما زال هناك رهط من علماء المسلمين يتصدَّون إلى كل هذه الادعاءات ويفنّدونها، ويذكرون الخطأ فيها حرصًا على الحق والصواب. ولا شكّ في أن الحضارة الغربية ستفجِّر نفسها كما حصل مع الاتحاد السوفييتي، وذلك لقيامها على معاداة الفطرة، وإن كل ما يعادي الفطرة سينتهي، وعلى المسلم أن يهيء نفسه لتكون الحضارة الإسلامية هي البديل عن هذه الحضارة البالية، من أجل قيادة البشرية لما هو خير.