مفهوم الحضارة وعمارة الأرض في الإسلام
أدى اختلاف مفهوم “لا إله إلا الله” وتفريغه من محتواه الحقيقي، وحصر مفهوم العبادة في شعائر التعبد، وتحول عقيدة القضاء والقدر إلى سلبية وقعود عن الأخذ بالأسباب إلى اختلال مفهوم الأمة عن الحضارة وعمارة الأرض.
المفهوم الإسلامي للحضارة
نشأ الإنسان من قبضة طين مع نفخة روح، لا تنفصل إحداهما عن الأخرى؛ لذلك كانت الحضارة لابد وأن توافق هذا التكوين الإنساني. فجاء المنهج الرباني بمفهوم للحضارة يتوافق مع النفس البشرية؛ فيشمل جانب مادي وآخر روحي، ومفهومها في الإسلام هو مفهوم العبادة، وهو تحقيق غاية الوجود الإنساني التي حددها قوله تعالى: (( وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون))
توازن الإسلام في غاية الوجود الإنساني
إذا كانت غاية الوجود الإنساني هي الاستمتاع بما في الأرض من متاع فقط؛ تكون الحضارة هي العمارة المادية للأرض فقط، بصرف النظر عن أي أخلاق أو مبادئ تُتَّبع. أما إذا كانت غاية الوجود الإنساني هي التفاني في العالم الروحي؛ تصبح الحضارة تحقيق عالم الروح على حساب الجانب المادي. ولكن الإسلام جاء متوازنًا بين هذا وذاك، فكانت غاية الوجود الإنساني هي عبادة الله، وكان مفهوم الحضارة يتوازن بين الجانب المادي والمعنوي لا يطغى أحدهما على الآخر.
كيف نشكل حضارة؟
إن من مفهوم العبادة أن الله جعل النشاط الطبيعي للإنسان في جميع حالاته عبادة؛ مادام يتوجه به إلى الله ويستمد فيه من منهج الله وهذا النشاط هو الذي يُنشئ، ولكن لننتبه! فليس كل نشاط للجسد أو العقل أو الروح يشكل حضارة. إنما هو “النشاط الهادف” فقط الذي يهدف إلى تحقيق غاية الوجود الإنساني؛ لذلك يمكننا القول أن ما تنتجه الجاهليات من منجزات مادية أو عقلية أو -روحية أحيانا- ليست حضارة حقيقية، وإن بدا هذا رائعًا ضخمًا أحيانًا، وذلك لفقدانه الشرط الأساسي الذي يجعل النشاط البشرى حضارة. كذلك نشاط العقل ونشاط الروح يُشترط فيهما لكي يُشكلا حضارة أن يكونا هادفين وأن يكون هدفهما متجهًا إلى تحقيق غاية الوجود الإنساني وليس معاكسًا لهذا الاتجاه.
جوانب الحضارة
لكل حضارة جانبان: أحدهما مادي والآخر روحي معنوي، لابد من توازن بينهما لقيام هذه الحضارة.
الجانب المعنوي
ويشمل إقامة شريعة الله في الأرض والحكم بما أنزل الله، وإقامة العدل الرباني وطلب العلم –سواء العلم بدين الله وأحكامه- أو العلم بسنن الله في الكون وخواص المادة –الذي يعين على استخلاص ما سخر الله للإنسان من طاقات السماوات والأرض واستخدامها في عمارة الأرض –أو العلم بسنن الله في الحياة البشرية- التي يقوم على أساسها مجتمع صالح، أو العلم بالتاريخ البشري وما فيه من فترات الهدى والضلال، والنتائج المترتبة على كل منها في واقع الحياة البشرية.
إن هذا العلم بمختلف فروعه واتجاهاته جزء من المفهوم الإسلامي للحضارة كما أن إقامة فنون نظيفة تلتفت إلى الجمال في الكون وفى الحياة البشرية، فنون لا تزين الفاحشة لأن الفاحشة ليست جمالا ولكنها هبوط، ولا تزين لحظة الضعف، ولا تزين الشذوذ والانحراف، ولا عبادة الشيطان لأن هذا ليس جمالا، وهذا كله هو الجانب المعنوي من الحضارة في المفهوم الإسلامي
الجانب المادي في الحضارة
يشمل هذا الجانب العمارة المادية التي هي جانب من مفهوم العبادة الذي يحقق خلافة الإنسان في الأرض، وذلك باستخلاص طاقات السماوات والأرض وتسخيرها لخير الإنسان. وهذا الجانب يحتاج إلى كدح ذهني وعضلي لتحقيقه. وأيضًا إلى معرفة خواص المادة والسنن الربانية التي يُجري الله بها الكون والتي تُسمى في هذا العصر “قوانين الطبيعة”
شروط الإسلام لدخول النشاطات تحت مسمى الحضارة
هو أن تكون كلها وفق المنهج الرباني غير حائدة عن مقتضياته.
التوازن بين إهمال الدنيا والقعود عن الأخذ بالأسباب
إن استخلاص الطاقات الكونية –على ضرورته- ليس هو أهم ما يقوم به الإنسان على الأرض، ولو وصل به إلى القمر. إنما الأهم من ذلك هو الغاية الكامنة وراءه والأسلوب الذي يتم به. ونحن لا نضع القيم المعنوية بديلًا من القيم المادية؛ لأن القيم المعنوية وحدها لا تملأ المَعِدات الخاوية إن لم يكن هناك خبز، ولا تسير السيارات والقطارات إن لم يكن هناك وقود، فتلك بديهية لا يحتاج الإنسان لذكرها، أما البديهية الأهم التي تجادل فيها الجاهليات كثيرًا وخصوصا المعاصرة منها هي أن الخبز والوقود والمصانع والآلات وحدها لا تصنع حضارة ولا عمارة حقيقية للأرض؛ لأنها وحدها –بدون القيم- تؤدي إلى الخراب والفساد.
لا حضارة بدون قيم
إن الإنسان –بالإنتاج المادي الذي ينتجه- يمكن أن يهبط أسفل سافلين إذا تخلى عن القيم التي تجعل الإنسان إنسانًا وترفعه عن مستوى الحيوان. والجاهلية المعاصرة خير دليل على ذلك؛ بين يديها أكبر قدر من العلم والإنتاج المادي ولكن لا إنسان، فإن بحثت عنه تجده شاردًا في المراقص أو غارقًا في الشهوات، أو مجرمًا يعتدى على الآمنين، أو نزيلا في أحد المصحات العقلية، أو مترددا على إحدى العيادات النفسية.
وليست القضية هي وجود “حالات” من ذلك كله؛ لأنه لا يوجد مجتمع في الأرض يخلو من حالات من تلك الأنواع، ولكن القضية هي النسب المخيفة التي ترتفع إليها الحالات حتى أصبحت ظواهر اجتماعية، وسمة بارزة في العصر.
أي جانبي الحضارة يمكن أن يغطى النقص في الجانب الآخر؟
إن التجربة الإسلامية الرائعة-في مقابل الجاهلية المعاصرة- تجيب إجابة حاسمة على هذا التساؤل. فقد استطاع الفيض الهائل من القيم أن يعوض التخلف المادي، ويخرج خير جيل شهدته البشرية، شهادة الله ورسوله-صلى الله عليه وسلم- بينما لم يستطع الفيض الهائل من الإنتاج المادي والعلمي أن يعوض التخلف الروحي والمعنوي والأخلاقي؛ فأخرج شر جاهلية عرفها التاريخ. ولكن صورة “البداية” لم تكن هي الصورة النهائية وما كان ينبغي لها أن تكون، فهذه البداية هي التي دفعت الأمة للبحث عن “العلم” في كل مصادره، وتتعلم كل لغة للعلم في ذلك الوقت؛ لتترجم عنها، ثم تنشئ حركتها العلمية الذاتية التي كان أروع ما ابتكرته المنهج التجريبي في البحث العلمي الذي قامت عليه –فيما بعد- حركة أوروبا العلمية المعاصرة؛ بما تعلمته في مدارس المسلمين وهو الذي دفع هذه الأمة إلى التعليم المادي فغطى الجانب الروحي النقص في الجانب المادي.