الإمام القرطبي .. شمس الدين
الإمام القرطبي هو إمام متقن متبحِّر في العلوم كما وصفه أهل العلم، صاحب التفسير المشهور الْجَامِعِ لِأَحْكَامِ الْقُرْآنِ، الذي عُدَّ كتابًا حافلًا ومرجعًا عظيمًا، نال القبول أينما قُرأ، فمَن هو الإمام القرطبي؟ ولماذا سمي بذلك؟ وما هي مؤلفاته؟
اسم الإمام القرطبي ولقبه
أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ أبي بكر بن فرح الأنصاريُّ الخزرجيُّ الأندلسي القرْطُبيُّ، ويعود لقَبُه إلى موْطنه الأول ألا وهو قرطبة.
مَوْلِد الإمام القرطبي ونشأته
وُلد الإمام القرطبي في مدينة قرطبة في أواخر القرن السادس الهجري تقريبًا، وكانت قرطبة آنذاك في عصر الموحِّدين، وقد رحل بعد سقوطها على أيدي الفرنجة إلى الإسكندرية، ثم إلى صعيد مصْر حيث استقرَّ فيه حتى وفاته.
وقد اعتُبرت قرطبة في ذلك الزمان حاضرة العلم والعلماء، ومعْقل كنوز المعرفة والحكمة، حيث كثر فيها العلماء حتى عجز المؤرخون عن حصرهم فضلًا عن حصر علمهم.
عبادةُ الإمام القرطبي ووَرعُه
أفضل ما نذكره في عبادة الإمام القرطبي وورعِه هو ما ذكره ابنُ فرحون برهانُ الدين، في كتاب الديباج المذهب، حيث قال: «كان من عباد الله الصَّالحين، والعلماء العارفين الورعين الزاهدين في الدنيا المشغولين بما يَعنيهم من أمور الآخرة، أوْقاته معمورة ما بين توجُّه وعبادة وتصنيف… وكانَ قد اطَّرح التكلف يمشي بثوب واحد وعلى رأسه طاقية»(1).
شيوخ الإمام القرطبي
قد تلقَّى الإمام القرطبي علمه الغزير عن الكثير من كبار العلماء بمختلف المجالات، فقد لازم شيوخًا كُثرًا في قرطبة وفي مصر، نذكر منهم:
- ابن أبي حِجَّة، من كبار الأساتذة والنحوييِّن المحِّققين، وقد اشتهر بكونه حافظًا محدثًا، وله عدة تآليف، منها كتاب “منهاج العبادة” في الأحكام الشرعية جمع فيه ما اجتمع عليه صحيحا البخاري ومسلم من أحاديث الأحكام.
- أبو الحسن علي بن قُطْرال، القاضي والعلامة المالكي القرطبي، وكان من أكمل الرجال علمًا وعملًا، يشارك في عدة فنون، ويمتاز بالبلاغة.
- أبو العباس القرطبي، الإمام الفقيه المالكي، من رجال الحديث. وقد كان مدرسًا بالإسكندرية وتوفي بها.
- أبو محمد عبد الوهاب بن رواج، الشيخ الإمام المحدث المالكي، وقد وصفه الذهبي قائلًا: “وَكَانَ فَقِيْهاً فَطناً، دَيِّناً، مُتَوَاضِعاً، صَحِيْح السَّمَاع، وَانقطعَ بِمَوْتِهِ شَيْءٌ كَثِيْرٌ.”(2).
- ابن الجُمَّيْزِيِّ، المفتي المصري والشيخ المقرئ الشافعي، وفيه قال الذهبي: “وهو مسدد الفتاوى، وافر الجلالة، حسن التصون، مسند زمانه”(3).
مؤلفات الإمام القرطبي
بلغ القرطبي منزلة رفيعة في العلم الشرعي، فقد انقطع عن الدنيا وتفرغ للعلم، وقد ترك لنا من علمه ثلاثة عشر كتابًا، من أبرزها:
- كتاب الْجَامِعِ لِأَحْكَامِ الْقُرْآنِ، وَالْمُبَيِّنِ لِمَا تَضَمَّنَهُ مِنَ السنة وآي الفرقان، أحد أكبر التفاسير لكتاب الله تعالى، حيث بلغ اثني عشر مجلدًا، وخصَّه الإمام بأحكام القرآن واستنباط الأدلة، وذكر فيه أيضًا القراءات والإعراب والناسخ والمنسوخ.
- كِتَابِ الْأَسْنَى، فِي شَرْحِ أَسْمَاءِ اللَّهِ الْحُسْنَى.
- كتاب التذكار، في أفضل الأذكار، الذي وضعه الإمام على طريقة كتاب التبيان للإمام النووي.
- كتاب التذكرة، بأمور الآخرة.
- كتاب شرح التقصي.
- كتاب قَمْعُ الْحِرْصِ بِالزُّهْدِ وَالْقَنَاعَةِ، وَرَدُّ ذُلِّ السُّؤَالِ بالكتب والشفاعة، وقد قال ابن فرحون فيه: «لم أقف على تأليفٍ أحْسن منه في بابه».
- كتاب أرجوزة، جمع فيه أسماء النبي صلى الله عليه وسلم.
ثناء العلماء على الإمام القرطبي
«كان من عباد الله الصالحين، والعلماء العارفين الورعين الزاهدين في الدنيا، المشغولين بما يعنيهم من أمور الآخرة، أوقاته معمورة ما بين توجه وعبادة وتصنيف».
كثيرٌ هم العلماء الذي أخذوا يمْدحون الإمام القرطبي ويثنون على علمه الغزير، ومن ذلك نذكر:
- قول الإمام الذهبي في حق القرطبي: «إمام متقن، متبحِّرٌ في العلم، له تصانيف مفيدة، تدل على إمامته، وكثرة اطلاعه، ووفور فضله».
- قول ابن فرحون في الديباج المذهب: «كان من عباد الله الصالحين، والعلماء العارفين الورعين الزاهدين في الدنيا، المشغولين بما يعنيهم من أمور الآخرة، أوقاته معمورة ما بين توجه وعبادة وتصنيف».
- وقول ابن العماد عن الإمام القرطبي: «وكان إمامًا عالمًا غوَّاصًا من الغوَّاصين على معاني الحديث، حسن التصنيف، جيِّد النقل…».
لمحة من تفسير القرطبي لكتاب الله
- ذكر القرطبي في تفسيره للآية الثالثة من سورة الفاتحة {الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ}:
قَوْلُهُ تَعَالَى: {الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ} وَصَفَ نَفْسَهُ تَعَالَى بَعْدَ {رَبِّ الْعالَمِينَ}، بِأَنَّهُ {الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ}، لِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ فِي اتِّصَافِهِ بِـ {رَبِّ الْعالَمِينَ} تَرْهِيبٌ قَرَنَهُ بِـ {الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ}، لِمَا تَضَمَّنَ مِنَ التَّرْغِيبِ، لِيَجْمَعَ فِي صِفَاتِهِ بَيْنَ الرَّهْبَةِ مِنْهُ، وَالرَّغْبَةِ إِلَيْهِ، فَيَكُونُ أَعْوَنَ عَلَى طَاعَتِهِ وَأَمْنَعَ، كَمَا قَالَ: {نَبِّئْ عِبادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ. وَأَنَّ عَذابِي هُوَ الْعَذابُ الْأَلِيمُ} [الحجر:48-49]. وَقَالَ: {غافِرِ الذَّنْبِ وَقابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقابِ ذِي الطَّوْلِ}[غافر:3].
- وذكر الإمام القرطبي في تفسير كلمة “الحكمة” في قوله تعالى {يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَن يَشَاءُ وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا ۗ وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ}(سورة البقرة الآية ٢٦٩):
“قوله تعالى: (يؤتي الحكمة من يشاء) أي يعطيها لمن يشاء من عباده. واختلف العلماء في الحكمة هنا”، وأخذ يذكر الإمام رحمه الله أقوال أهل العلم في تفسير كلمة الحكمة ثم ختم قوله بـ “قلت: وهذه الأقوال كلها ما عدا قول السدي والربيع والحسن قريب بعضها من بعض، لأن الحكمة مصدر من الإحكام وهو الإتقان في قول أو فعل، فكل ما ذكر فهو نوع من الحكمة التي هي الجنس، فكتاب الله حكمة، وسنة نبيه حكمة، وكل ما ذكر من التفضيل فهو حكمة. وأصل الحكمة ما يمتنع به من السفه، فقيل للعلم حكمة، لأنه يمتنع به، وبه يعلم الامتناع من السفه وهو كل فعل قبيح، وكذا القرآن والعقل والفهم. وفي البخاري: {من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين}، وقال هنا: {ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرًا كثيرًا}، وكرر ذكر الحكمة ولم يضمرها اعتناء بها”.
وفاة الإمام القرطبي
جاء الموت للإمام القرطبي في صعيد مصْر بعد أن قضى حياته في العِبادة والتعلم والتصنيف، ليتوفى رحمه الله تعالى في يوم الاثنين من شهر شوال من سنة 671هـ، ويدفن في مصر.
الخاتمة
رحمك الله يا شمس الدين، فقد كنت عالمًا عارفًا بالله، طرحت عنك لباس التكلف، فألبسك الله لباس العلم والتقوى، فرحمك ونفع بك.
المصادر
- (1) ص309 – كتاب الديباج المذهب في معرفة أعيان علماء المذهب – محمد بن أحمد بن أبي بكر بن فرح – المكتبة الشاملة الرابط.
- (2) ص237 – كتاب سير أعلام النبلاء ط الرسالة – ابن رواج أبو محمد عبد الوهاب بن رواج الأزدي – المكتبة الشاملة الرابط.
- (3) ص254 – كتاب سير أعلام النبلاء ط الرسالة – ابن الجميزي علي بن هبة الله بن سلامة اللخمي – المكتبة الشاملة الرابط.
- الديباج المذهب في معرفة أعيان علماء المذهب / ابن فرحون.
- سير أعلام النبلاء / شمس الدين الذهبي.
- شذرات الذهب / لابن العماد.
- الْجَامِعِ لِأَحْكَامِ الْقُرْآنِ، وَالْمُبَيِّنِ لِمَا تَضَمَّنَهُ مِنَ السنة وآي الفرقان / القرطبي.