الإمام النووي .. الذي زهد في الزواج فأنجب علمًا
بدأ الإمام النووي طلب العلم منذ كان فتى فقيرًا؛ فزاحم طلاب العلم، فسبقهم وتقدم عليهم، وزاحم العلماء فوضعهم وراءه يكدحون للحاق به، ثم زاحم كبار العلماء في عصره فأحرز منهم قصب السبق. فمن هو النووي الذي شهد له عصره بحجته البالغة وعلمه الوافر؟ وكيف نال هذه المرتبة؟
عصر النووي
عاش النووي في آخر عصر الأيوبيين، وفي عصر الملك الظاهر بيبرس من المماليك؛ حيث امتازت هذه الفترة بالاستقرار، ولكنها مع ذلك كانت فترة عصيبة؛ فقد تم فيها غزو بلاد الشام من قبل الصليبيين والتتار. لكن الله هيأ لنصرتها نور الدين وصلاح الدين فكسرا من حدة الصلبيين، ثم هيأ بعدهما الملك الظاهر، فكسر شوكة التتار والصليبيين، وأوقع الهزيمة في صفوفهما، واسترجع كثيرًا من البلاد المحتلة.
الحياة العلمية
القرنان السابع والثامن من الهجرة -اللذان عاش فيها النووي- من أزهر العصور في العلم؛ فقد حفلا بالكثير من العلماء المتمكنين الذين تركوا من المؤلفات المفيدة الكثير، وعلى الرغم من عدم كونه عصر إبداع كعصور الاجتهاد، لكنه بجملته عصر نقل متزن، وتقليد واعٍ، وجمعٍ بين التحفيظ، والتحقيق، والتحرير، والتصحيح، والتهذيب.
علم الفقه في عصر النووي
يعود الفضل في المذاهب الفقهية إلى المجتهد الأول، ثم يأتي من بعده تلاميذه، فينقحون ويصححون أقواله وفق الدليل والبرهان، ويأتي الذين من بعدهم فيضعون الحق في نصابه على ما انتهى إليه اجتهادهم. وهذا هو الحال في المذاهب كلها. وعلماء القرن السابع بحثوا وتحروا، فصححوا بعضًا وضعفوا بعضًا، وكل ذلك بالدليل. وكان هذا حال النووي الذي جدد المذهب الشافعي.
ولا يجوز في الفقه أن تقال الكلمة الأخيرة؛ فلكل عصر قضاياه وأموره، فينبغي لعلماء الفقه أن يلاحظوا عصورهم بكل ما فيها، مع الرجوع إلى الأصول الثابتة من الكتاب والسنة. وهذا حال فقهاء القرن السابع.
اسم الإمام النووي ولقبه
ينسب الناس عادة إلى اسم البلد الذي ولدوا فيه فيعرفون به؛ فيقال مثلًا البخاري نسبة إلى بخارى. ونسبة الإمام النووي إلى “نوى” قريته، وهي قرية صغيرة كانت في قاعدة الجولان من أرض حوران. وهو أبو زكريا يحيى، ابن الشيخ أبي يحيى شرف بن مري، بن حسن، بن حسين، بن محمد، بن جمعة، بن حزام الحزامي النووي، لقبه محيي الدين، وكان يكره أن يلقب به تواضعًا لله -تعالى-؛ حيث إن الدين حي ثابت دائم غير محتاج إلى من يحييه.
ووالد الإمام النووي هو الشيخ شرف بن مري، وكان صاحب دكان بـ “نوى”. وقد وصفه ابن العطار بقوله: “الشيخ الزاهد الورع ولي الله”، ووصفه الذهبي: “وكان شيخًا مباركًا”. ولما مات سنة 685م صُلي عليه صلاة الغائب، وهذا يدل على شهرة صلاحه.
مولد الإمام النووي ونشأته
ولد النووي في العشر الأوسط من محرم، وقيل في العشر الأول سنة 631 هـ بـ “نوى”. وعاش النووي في كنف أبيه ورعايته، وكان أبوه مستور الحال، مباركًا له في رزقه، فنشأ النووي في ستر وخير وبقي يتعيش في الدكان مع أبيه فترة من الزمن؛ وكأن الله قد أعده منذ طفولته وصباه لحمل عبء الوراثة النبوية من العلم والورع والصلاح.
ويثبت ذلك أنه لما بلغ من العمر سبع سنين، كان نائمًا ليلة السابع والعشرين من رمضان بجانب والده، فانتبه نحو نصف الليل، يقول والده: وأيقظني، وقال: يا أبتي، ما هذا الضوء الذي قد ملأ الدار؟ فاستيقظ أهله جميعًا فلم يرَ كلنا شيئًا، قال والده: فعرفت أنها ليلة القدر.
ولما بلع عشر سنين جعله أبوه في دكان، فجعل لا يشتغل بالبيع والشراء عن القرآن، وفي إحدى المرات مر بقرية “نوى” الشيخ ياسين بن يوسف المراكشي، فرأى النووي وهو ابن عشر سنين، والصبيان يُكرهونه على اللعب معهم، وهو يهرب منهم، ويبكي لإكراههم، ويقرأ القرآن في تلك الحال. يقول الشيخ ياسين: فوقع في قلبي محبته، فأتيت الذي يُقرئه القرآن فوصيته به، وقلت له: “خُذ الصبي أرجو أن يكون أعلم أهل زمانه وأزهدهم، وينتفع الناس به”، فقال لي: أمنجم أنت؟ فقلت: لا، وإنما أنطقني الله بذلك، فذكر ذلك لوالده، فحرص عليه إلى أن ختم القرآن، وقد ناهز الاحتلام.
خَلق الإمام النووي وهيئته
كان أسمر كث اللحية، متوسط القامة، مهيبًا، قليل الضحك، عديم اللعب، يقول الحق وإن كان مرًا لا يخاف في الله لومة لائم، وكانت لحيته سوداء فيها شعرات بيض وعليه هيبة وسكينة.
لو رأى أحدٌ النووي وكان لا يعرفه؛ لظن النووي أحد فلاحي نوى أتى دمشق يزورها، فليس عليه مما يظهر به علماء زمانه من فخامة الزي الذي اختصوا به، ذلك لأنه زاهد قانع، لا يعير شيئًا من إقباله واهتمامه لعَرض من أعراض الدنيا. فكل همه مصروفٌ لآخرته من علم وتعليم، وصدقٍ مع الله وصدق مع نفسه.
مأكل الإمام النووي ومشربه
كان -رحمه الله- خشن العيش، قانعًا بالقوت، تاركًا للشهوات صاحب عبادة وخوف. وكان لا يأكل في اليوم والليلة إلا أكلة واحدة. وقوته من قبل والده، ويجري عليه في الشهر الشيء الطفيف، وكان لا يشرب إلا مرة بالسحر.
لماذا لم يتزوج الإمام النووي؟
إن النووي لم يتزوج قط. ولعل السبب في ذلك أنه زاهد في متاع الدنيا كلها؛ فقد صرف حياته في تحصيل العلم والتقوى والعبادة، حتى أنه لم يكن يملك وقتًا لنومه، فكان إذا غلبه النوم استند إلى الجدار قليلًا وهو جالس، ثم يستيقظ مذعورًا كأن شيئًا ثمينًا سرق منه؛ فأثمن شيء لديه وقته. وإذا كانت هذه حاله في النوم، وهو من ضرورات الحياة، فحاله في إشغال نفسه بالزواج أبعد من أن تخطر على باله.
رحلة الإمام النووي إلى دمشق وتحصيله العلم
في سنة 649 هـ، قدم الإمام النووي دمشق، مع والده أبو يحيى وعمره ثماني عشرة سنة. وأقام فيها نحو ثمانية وعشرين سنة. وكانت دمشق حينها محج العلماء وطلبة العلم من أقطار العالم الإسلامي، وإن أردت أن تتيقن من ذلك فليس عليك إلا أن تلقي نظرة على تاريخ دمشق للحافظ ابن عساكر، وهو أعظم تاريخ ألف لبلد ما، فقد جاوز مقداره ثمانين مجلدًا، ترجم فيه لعلماء دمشق وأدبائها وشعرائها وأمرائها ومن قصد إليها أو مر بها من هؤلاء.
بدء اشتغال الإمام النووي بطلب العلم
كان أول ما اهتم الإمام النووي به بعد بلوغه دمشق، أن يصل إلى أحد العلماء فيُلازمه ويقرأ عليه، ثم أن يجد له مأوى. ومما يظهر أن النووي أول ما قصد، قصد الجامع الأموي، وهو جامع دمشق الأكبر؛ فلقي النووي خطيب الجامع الشيخ جمال الدين عبد الكافي الربعي، فذهب إليه وعرفه مقصده ورغبته في طلب العلم، فأخذه وتوجه به إلى حلقة مفتي الشام تاج الدين الفزاري، وهو أول شيخ لازمه النووي، وبعدها استقر النووي في المدرسة الرواحية.
حين استقر الإمام النووي في المدرسة الرواحية، واطمأنت نفسه في مسجده أقبل على طلب العلم بكل ما يعتلج بقلبه وعقله من شغف وجد واستعداد، ومن نهم للعلم لا يسده شبع. ولقد كان ذلك منه مضرب المثل، ومثار العجب، قال رحمه الله: “وبقيت سنتين لم أضع جنبي إلى الأرض”.
يقول الذهبي: وضرب به المثل في إكبابه على طلب العلم ليلًا ونهارًا، وهجرة النوم إلا في غلبة، وضبط أوقاته بلزوم الدرس أو الكتابة أو المطالعة أو التردد على الشيوخ. يقول الإمام النووي في مقدمة شرح صحيح مسلم:
إن الاشتغال بالعلم من أفضل القرب وأجلّ الطاعات، وأهم أنواع الخير وآكد العبادات، وأولى ما أنفقت فيه نفائس الأوقات.
وكان يقرأ كل يوم اثني عشر درسًا على المشايخ شرحًا وتصحيحًا، فإذا حسبنا ذلك وجدنا أنه يحتاج في حضور دروسه إلى اثنتي عشرة ساعة على أقل تقدير، وكان يحتاج مثلها في المراجعة والحفظ، فهذه أربع وعشرون ساعة، فمتى ينام؟ ومتى يأكل؟ ومتى يقوم بعبادته؟ ومتى يتهجد في ليله؟ نعم إنها بركة الوقت التي يورثها الله أولياءه الصالحين وحملة دينه.
حج الإمام النووي
في سنة 651هـ، وبعد نحو سنتين من قدوم النووي إلى دمشق، اصطحبه أبوه إلى الحج، وكانت وقفة جمعة، وقد أقام النووي -رحمه الله- بمدينة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- نحو شهر ونصف.
عبادة الإمام النووي وورعه
يرى النووي -رحمه الله- أن أعظم العبادة تعلُّم العلم، الذي يُعرف به الحلال من الحرام. وكان النووي مشتغلًا بالعبادة وكثير تلاوة القرآن، وكثير الذكر لله -تعالى-، معرضًا عن الدنيا، مقبلًا على الآخرة.
ومما يروى عنه أنه كان يصوم الدهر، وكان ليله بين عبادة وتلاوة وتصنيف، وقد جمع العلم والعمل والزهد والورع والحكمة وغير ذلك في حياته. وكان ورعه -رحمه الله- كورع من يشهد بيوم الحساب بعين يقينه وعظم إيمانه، أكثر مما لو كان يشهده بحاسة نظره.
وكان لا يأكل من فاكهة دمشق، وقد علل ذلك بأنها كثيرة الأوقاف والأملاك لمن تحت الحَجر شرعًا، ولا يجوز التصرف في ذلك إلا على وجه الغبطة والمصلحة، والناس لا يفعلونها إلا على جزء من ألف جزء من الثمرة للمالك، فكيف تطيب نفسي؟!
حفاظ الإمام النووي على قول الحق
كان النووي يواجه الملوك والجبابرة بالحق، لا يأخذه في الله لومة لائم. وكان إذا عجز عن المواجهة كتب الرسائل، وتوصل إلى إبلاغها. ومن أشهر قضاياه في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وقوفه في وجه الملك الظاهر بيبرس في قضية الحوطة على الغوطة.
فلما أراد الظاهر بيبرس وضع الأملاك على بساتين الغوطة، وقف النووي في وجهه في دار العدل، فرد عليه. وقد وقى الله النووي شر الظاهر بيبرس فلم يدع غضب السلطان، وبطشه يصل للنووي، حيث انقلب حال الظاهر بيبرس إلى محبة النووي وتعظيمه، وكان يقول: “أنا أفزع منه”. لكن وقوف النووي لم يكن كافيًا لوقف الظاهر بيبرس، فأخذ النووي يكتب إليه الرسائل بأسلوب فيه ترغيب وترهيب ونصح من يخشى عليه عاقبة أمره.
شيوخ الإمام النووي
كانت عادة النووي المبالغة في احترام شيوحه وتقديرهم، إلا إذا رآهم انحرفوا عن نصوص المذهب، أو عن صريح السنة؛ فإنه يؤثر صداقة من يراه على الحق. وقد لازم النووي الكثير من الشيوخ بمختلف العلوم، نذكر منهم:
شيوخه في الفقه:
- مفتي الشام، تاج الدين الفزاري، المعروف بالفركاح، وكان أول شيخ للنووي.
- الكمال إسحاق المغربي.
- مفتي دمشق، عبد الرحمن بن نوح.
- عمر بن أسعد الإربلي.
- أبو الحسن سلار بن الحسن الأربلي.
شيوخه في الحديث:
- إبراهيم بن عيسى المرادي الأندلسي.
- أبو إسحاق إبراهيم بن أبي حفص عمر بن مضر الواسطي، وسمع منه جميع صحيح مسلم بن الحجاج.
- الشيخ زين الدين أبو البقاء خالد بن يوسف بن سعد النابلسي.
- الرضي بن البرهان.
- الشيخ عبد العزيز الأنصاري.
- زين الدين أبو العباس بن عبد الدائم المقدسي.
وغيرهم الكثير رحمهم الله وجزاهم خيرًا.
علوم الإمام النووي
امتلك النووي -رحمه الله- سعة في العلم، وقوة في البراهين، لا يرى الجدال ولا يحب أهله ويعرض عنهم. وكان يبتعد عن لغط ألفاظ الفقهاء، وكان يبلّغ ما يريد بكلام فيه وقار، وكان من سعة علمه عديم النظير. وكان -رحمه الله- كبيرًا في علمه ونبله وأخلاقه وأدبه، امتلك علوم المحدثين، وقلما اجتمع عالم تبحر في الفقه وعلوم الحديث. وقد قال تلميذه ابن العطار: “كان النووي حافظًا لحديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، عارفًا بأنواعه كلها من صحيحه وسقيمه وغريب ألفاظه وصحيح معانيه واستنباط فقهه”.
المدارس التي سكن فيها الإمام النووي أو تولاها
- المدرسة الرواحية.
- المدرسة الإقبالية: هي مدرسة كبيرة شهيرة للفقه الشافعي، ولم يبق لها من أثر إلا واجهتها، وتحولت إلى بيت للسكن، وقد درس بها جماعة من العلماء الكبار، أمثال: بدر الدين بن خلكان.
- الفلكية والركنية: وهما مدرستان متجاورتان عفا عليهما الزمان.
- دار الحديث الأشرفية: أشهر دار في بلاد الشام لعلم الحديث. وقد فتحت في سنة 630هـ في ليلة النصف من شعبان، وأملى بها الشيخ تقي الدين بن الصلاح الحديث، ومما يظهر أن النووي -رحمه الله- لم يطلبها، بل دفعها عنه، ولم يقبلها إلا بعد جهد، وقد درَّس فيها وبغيرها ولم يتناول فلسًا واحدًا.
مؤلفات الإمام النووي
عاش النووي نحوَ ست وأربعين سنة. وترك من المؤلفات ما لو قسم على سني حياته؛ لكان نصيب كل يوم كراستين. فإذا علمنا أنه لم يبدأ في طلب العلم إلا في سن الثامنة عشرة أو التاسعة عشرة، وأنه أخذ في التصنيف حدود عشر سنوات قبل موته، أي بعد مكثه في دمشق، لعلمنا أي بركة وتوفيق رزقه الله إياه. وقد ألف النووي بأسلوبه العذب الكتب في شتى العلوم، كالفقه والحديث والمصطلح واللغة والتراجم والتوحيد، إلى غير ذلك.
ومن مؤلفاته:
- المنهاج شرح صحيح مسلم.
- رؤوس المسائل وتحفة طلاب الفضائل.
- العمدة في تصحيح التنبيه.
- الإيضاح في المناسك.
- رياض الصالحين.
- الأذكار.
- التبيان.
- التقريب والإرشاد.
- الاربعين النووي.
- بستان العارفين.
- مناقب الشافعي.
- مختصر أسد الغابة.
- الفتاوى.
- أدب المفتي والمستفتي.
- مختصر آداب الاستسقاء.
ثناء العلماء على الإمام النووي
أجمع العلماء والفقهاء والمحدثون والزاهدون والمتعبدون، على حب النووي والثناء عليه، لأنه جمع ذلك كله، وأخلص لله فيما قرأ، وفيما علم وفيما ألف. وفيه يقول العلماء:
- قال ابن العطار: “شيخي وقدوتي، الإمام ذو التصانيف المفيدة والمؤلفات الحميدة، أوحد دهره، وفريد عصره، الصوام القوام، الزاهد في الدنيا، الراغب في الآخرة، صاحب الأخلاق الرضية، والمحاسن السنية، العالم الرباني، المتفق على علمه وإمامته، وجلالته وزهده، وورعه وعبادته، وصيانته في أقواله وأفعاله وحالاته”.
- قال الذهبي في سير النبلاء: “الشيخ القدوة، الحافظ الزاهد العابد، الفقيه المجتهد الرباني، شيخ الإسلام، حسنة الأنام محيي الدين، صاحب التصانيف التي سارت بها الركبان، واشتهرت بأقاصي البلدان”.
- قال ابن كثير: “الشيخ الإمام، العلامة الحافظ، الفقيه النبيل، محرر المذهب ومهذبه، وضابطه ومرتبه، أحد العباد والعلماء الزهاد، وكان على جانب كبير من العلم والعمل والزهد والتقشف، والاقتصاد في العيش، والصبر على خشونته، والتورع الذي لم يبلغنا عن أحد في زمانه، ولا قبله بدهر طويل”.
وفاة الإمام النووي وما قيل فيه
قبيل وفاة النووي -رحمه الله تعالى-، استعد للسفر؛ فودع دمشق وشيوخها، ثم سافر باتجاه بيت المقدس، ثم عاد إلى نوى، فمرض عقب زيارة بيت والده. ومن ثم توفي -رحمه الله- يوم الأربعاء الرابع والعشرين من رجب.
ويقول ابن العطار: “فبينا أنا نائم تلك الليلة؛ إذا منادٍ ينادي على سدة جامع دمشق في يوم الجمعة، الصلاة على الشيخ ركن الدين الموقع، فصاح الناس لذلك النداء، فاستيقظت فقلت: إنا لله وإنا إليه راجعون. فلم يكن إلا ليلة الجمعة عشية الخميس؛ إذ جاء الخبر بموته -رحمه الله-، فنودي يوم الجمعة عقب الصلاة بموته، وصلي عليه بجامع دمشق، فتأسف المسلمون عليه تأسفًا بليغًا، الخاص والعام والمادح والذام”.
دفن -رحمه الله- في قريته نوى، وكان النووي يريد أن يكون قبره على السنة، فيه علامة الفقر إلى الله، وعلامة الزهد الذي عاشه، ولكن الموت لم يمهله حتى يوصي بذلك، وعندها أراد قومه رفع شأنه، وكل من لا يعرف يظن أن رفعة الشأن تكون بتعظيم القبور، وقد منع الشارع ذلك، حيث لا يحق لأحد أكثر من موضع تمديد جسده، وهذا ما صرح به النووي -رحمه الله-.
وكان يريد رحمه الله أن يكون قبره على السنة، وقومه يريدون بناء قبة عليه ولكن الله أبى إلا ما يريد، فإنه لما توفي رحمه الله تعالى ودفن، أراد أهله من أقاربه وجيرانه أن يبنوا على ضريحه قبة، وأجمعوا على ذلك، وعندها جاء النووي في النوم إلى أكبر امرأة بقرابته، وقال لها: “قولي لأخي والجماعة لا يفعلوا هذا الذي عزموا عليه من البنيان، فإنه كلما بنوا شيئًا يهدم عليهم”. فانتبهت منزعجة، فقصت عليهم الرؤيا، فامتنعوا عن البينان. وحوطوا على قبره بحجارة تمنع الدواب وغيرها.
ومما يدل على صدق هذه الرؤيا أنه في أواخر القرن العاشر، بنى الأمير الكبير صاحب القدر الخطير قانصوه الساعدي كبير الحاج على قبر الشيخ مرارًا، فوقعت من غير هدم. ولا تزال هذه العقيدة سائدة بين أهل نوى، وهي أنهم كلما بنوا سقفًا على قبره يرون أنه لا بد أن يهدم، فهم يخافون دائمًا أن يجعلوا لقبره سقفًا.
خاتمة
خشي الإمامُ النووي اللهَ -تعالى- في علمه فعمل به، واتقى وجه الله بورعه وطاعته، وابتغى رضا الله وحده؛ فأمر بالمعروف ونهى عن المنكر، وتقرب إلى الله بكثرة العبادة. ولما عمل للآخرة ورضا الله -تعالى-؛ أصبح زاهد في الدنيا عالم من علمائها، وكما قيل: “من عمل بما علم، علم ما لم يعلم”. فرحمك الله يا إمام عصرك، وجزاك خير الجزاء عما أوصلت لنا من العلم والفهم.
المصادر
- أعلام التاريخ الطنطاوي المجلد الرابع.
- تحفة الطالبين في ترجمة الإمام محي الدين.
- ترجمة قطب الأولياء النووي.
- طبقات الشافعية الكبرى المجلد الثامن.
- الإمام النووي عبد الغني الدقر.