ابن حزم الأندلسي.. الفقيه الذي لم ترْو ظمأه المذاهب

أنجبت الأندلس مجموعة واسعة من العلماء المسلمين المقتدرين الذين سطروا أسماءهم بأحرف من ذهب، حيث سخروا جهودهم الفكرية لإعلاء كلمة الإسلام والتشجيع على حمل لواء طلب العلم. ومن بين أشهر هؤلاء العلماء نجد العالم الفقيه ابن حزم الأندلسي الذي اشتهر بتصنيفه وتأليفه لمجموعة واسعة من المؤلفات والكتب التي لا زالت تعتمد في كثير من الميادين. فمن هو هذا العالم وكيف كانت رحلة طلبه للعلم؟ وما أهم مؤلفاته وآثاره؟ وماذا قال فيه العلماء؟

نسبٌ يعود إلى بلادِ فارسَ

هو الحافظ الفقيه المجتهد أبو محمد علي بن أحمد بن سعيد بن حزم بن غالب بن صالح بن خلف الفارسي الأصل اليزيدي الأموي مولاهم القرطبي الظاهري صاحب التصانيف. ولد بقرطبة عام 384 ه‍ وتوفي في قريته التي كانت على خليج البحر الأعظم سنة 457 ه‍، وُصِف بأنه صاحب فنون وورع وزهد، ويتميز بالذكاء والحفظ وسعة دائرة علومه أيضًا، وكان أجمع أهل الأندلس لعلوم الإسلام وأوسعهم في علوم اللسان والبلاغة والشعر والسير والأخبار.

وقد روي أنه نشأ في تنعم ورفاهية إذ أن أسرته تولت الوزارة في العديد من المناسبات، وقال عنه الذهبي في كتابه سير أعلام النبلاء إنه رزق ذكاء مفرطًا وذهنًا سيالا، وهذا يدل على درجة العلم التي وصل إليها ابن حزم. كما أنه نشأ في طفولته بين النساء من الجواري والقريبات، فلم يكن يجالس غيرهن وتعلم على أيديهن القرآن وتلقى من عندهن أصول الكتابة والخط والشعر. ولما صار ابن حزم شابًا أخذه أبوه إلى أبي الحسين بن علي الفارسي الذي كان معروفًا وقتها باجتناب النساء وعدم محاذاتهنَّ، وقد تأثر به ابن حزم واعتبره قدوته في هذا الجانب مما ساعده على تحقيق الاستقامة والعفة.

من الرفاهية إلى الزهد وطلب العلم

ابن حزم الأندلسي الفقيه الذي لم ترْو ظمأه المذاهب

بدأ الإمام ابن حزم الأندلسي مشواره العلمي مع الشيخ المذكور سابقا أبي الحسين بن علي الفارسي، حيث كان يأخذه إلى مجالس الشيوخ ويتعلم على أيديهم الحديث والفقه. وقد اختُلف في السبب الذي دفعه إلى طلب العلم وتلقيه، فقد قيل إن السبب هو والده الذي ما انفك يردده على مجالس العلماء والفقهاء حتى تعلم جميع جوانب الدين. وأخذه كما أشرنا سابقًا إلى ابن علي الفارسي الذي بدوره ظل يأخذه معه إلى كل مجلس لأخذ الفقه والحديث من العلماء.

وهناك من يقول إن السبب الذي أثر فيه وجعله ينحاز لطلب العلم هو حضوره لجنازة أحد أعمامه، فدخل المسجد قبل صلاة العصر ولم يصل تحية المسجد فأشار عليه بعض الجالسين بأن يقوم ويصلي تحية المسجد فلم يفهم قصده، فقال له بعض الجالسين: «أبلغت هذا السن ولا تعلم أن تحية المسجد واجبة؟» فقامَ وركع. وبعد الانصراف من الجنازة دخلوا إلى المسجد لمشاركة الأحياء الذين كانت لهم قرابة بالميت فقام ابن حزم وركع فقيل له اجلس هذا ليس وقت صلاة. فانصرف وهو غاضب بعض الشيء فبحث عن شيخ مجاور ووجد أبا عبد الله بن دحون فسأله الابتداء في العلم، فدله على كتاب الموطأ وقرأه عليه وهكذا بدأت مسيرته العلمية.

تغيير المذهب اجتهاداً وطلباً للحقِّ

وكان الاتجاه الأول لابن حزم في المذاهب هو المذهب المالكي إذ هو المذهب السائد حينئذ في الأندلس والمذهب الرسمي للدولة كذلك، وقد تلقاه على يد أبي عبد الله بن دحون كما أشرنا سابقًا وتتابعت قراءاته الفقهية على العلماء إلى أن اطلع على نقد الإمام محمد بن إدريس الشافعي فتغيرت فكرته حول المذهب المالكي. وقد روي أنه قرأ كتاب اختلاف مالك وقرأ بأن مالكًا جعل الفروع أصولًا وجعل الأصول فروعًا، وروي أيضا أن الشافعي تردد في نقد مالك حتى علم أن بعض أهل الأندلس يستسقون بقلنسوة مالك، وهذا ما دفع الشافعي لكتابة نقده ليبين للناس أن مالكًا آدمي من البشر. وهكذا انتقل ابن حزم إلى المذهب الشافعي بحجة أنه كان يريد التحرر من جميع القيود عدا ما جاء به صاحب الشريعة محمد صلى الله عليه وسلم.

وقد ذكر محمد أبو زهرة في كتابه (ابن حزم حياته وعصره، آراؤه وفقهه) أنه لا بد أن نفترض أن ابن حزم اطلع على مأثورات الشافعي ووجدها ترضي نزعته الفكرية، إذ لا يوجد ما يثبت كليًا السبب وراء انتقال ابن حزم لمذهب الشافعي سوى تلاقي مأثورات الشافعي وكتاباته مع النقد والتحرر الفكري الذي ظهر عند ابن حزم. ومن بين هذه المأثورات (كتاب اختلاف مالك) و (الرد على سير الأوزاعي) و (جماع العلم)، وكلها تتفق تمام الاتفاق مع نزعة ابن حزم الفكرية. وأكثر ما أعجبه في المذهب الشافعي هو شدة تمسكه بالنصوص وإبطاله الاستحسان واختلافهِ مع مالك عندما كان يفتي بالاستحسان والمصالح المرسلة.

لكنه لم يلبث إلا قليلًا في المذهب الشافعي وانتقل إلى مذهب الظاهرية، فطبيعته الفكرية لا تسمح له بالبقاء تحت إمرة مذهب واحد والتقيد به. وقد اطلع على مأثورات تلميذ الشافعي وشيخ الظاهرية داوود الأصبهاني، فوجد أن المذهب الظاهري يتوافق مع طريقته التي هي الاجتهاد وطلب الحق ووجد أن فيه التزاماً وتقيداً بالنصوص والآثار فقط دون اتباع المذاهب المشهورة. وقد اتفق مع الأصبهاني الذي قال إن أدلة إبطال الاستحسان لدى الشافعي هي نفسها تبطل القياس، لهذا قال ابن حزم قولته المشهورة: «أنا أتبع الحق وأجتهدُ ولا أتقيد بمذهب».

حياة سياسية طغى عليها الولاء الأموي

كان والد ابن حزم أحمد بن سعيد وزيرًا من وزراء المنصور بن أبي عامر مستشار الخلافة في الأندلس حينها، وقد خدم أحمد بن سعيد المستشار وخدم ابنه من بعده أيضًا. وبعد الاضطرابات التي حدثت عام 398 ه‍ اعتزل أحمد بن سعيد السياسة، واضطر إلى الانتقال إلى منزله القديمة في غرب قرطبة. لكنه مات وسط تلك الاضطرابات عام 402 هـ، ونشأ ابنه ابن حزم وسط تلك البيئة الدموية إلا أنه رغم ذلك بقي قوي النزعة وانصرف إلى طلب العلم وتلقيه مبتعداً عن آل البيت الذي كانوا يتناحرون ويتقاتلون بينهم. وخرج من قرطبة إلى المرية سنة 404 ه‍ باحثًا عن العلم وملازمًا للشيوخ الذين خرجوا كذلك من قرطبة ساعين إلى الهدوء.

إلا أن حياة ابن حزم تغيرت بعدما استولى البيت العلوي على قرطبة وبويع آل حمود على الخلافة، واتهمه والي المرية (خيران) أنه داعم للخلافة الأموية بقوة، وتسبب هذا في اعتقاله وتغريبه لعدة أشهر إلى أن ظهر عبد الرحمن الأموي يدعو في بلنسية فذهب إليه ابن حزم ليعاونهُ ويكون وزيرًا له. وقد خرج عبد الرحمن ومعه ابن حزم في جيش بهدف استعادة غرناطة، إلا أن عبد الرحمن اغتيل وأُسر ابن حزم لمدة 6 سنوات وعاد إلى قرطبة عام 409 ه‍. وبدأ حكم آل حمود يضعف شيئًا فشيئا حتى ثار عليه أهل قرطبة وخلعوه، وردوا الحكم إلى بني أمية وبالتحديد عبد الرحمن بن هشام بن عبد الجبار الملقب بالمستظهِر.

وعاد ابن حزم ليكون وزيراً للمستظهرِ من جديد، إلا أن ولاية المستظهر لم تدم سوى شهرين حتى ثار عليه أهل قرطبة بسبب طيْشه. وسُجن ابن حزم من جديد ولم يدم فيه طويلا وخرج وعاد إلى ملازمة العلم، لكن كعادته كان دائمًا مناصرًا للخلافة الأموية بشدة وقد ظهر خليفة آخر وهو المعتدُّ بالله هشام بن محمد بن عبد الملك بن عبد الرحمن الناصر وهو قريب الخليفة المستظهر. وعاد ابن حزم مجددًا ليكون وزيرا له، إلا أن خلافة المعتد بالله لم تدم أيضًا وتم خلعه ليكون آخر الخلفاء الذين كان ابن حزم وزيرا لهم. وهكذا انتهت علاقة ابن حزم بالسياسة بشكل نهائي وعاد إلى العلم والكتابة والبحث حيث ركز على نشر آرائه الفكرية وتأليف العديد من المصنفات.

ابن حزم بين ألسنة المدح والانتقاد 

«كَانَ لِسَانُ ابْنِ حَزَمَ وَسَيْفُ الْحَجَّاجِ بْنِ يُوسُفَ شَقِيقَينِ»
أبو العباس بن العريف

يعتبر ابن حزم محل نقاش العديد من العلماء والفقهاء بين مؤيد ومعارض، لكنهم جميعاً اتفقوا على نبوغ علم ابن حزم ووصوله إلى درجة عالية من العلم وأثنوا عليه. وقد قال عنه ابن بشكوال: «كان أبو محمد بن حزم أجمع أهل الأندلس قاطبة لعلوم الإسلام، وأوسعهم معرفة مع توسعه في علم اللسان، ووفور حظه من البلاغة والشعر، والمعرفة بالسِّيَرِ والأخبار، وأخبرني ابنه الفضل أنه اجتمع عنده بخط أبيه من تأليفه نحو 400 مجلد أي قرابة 80 ألف ورقة». وقال عنه أبو عبد الله الحُمَيْدي: «كان حافظًا عالمًا بعلوم الحديث وفقهه، مستنبطا للأحكام من الكتاب والسنة، متفننًا في علومٍ جمّةٍ، عاملا بعلمه وزاهدًا في الدنيا بعد الرياسة التي كانت له ولأبيه قبله في الوزارة وتدبير الممالك، متواضعًا ذا فضائل جمّة وتواليفَ كثيرةٍ في كل ما تحقق فيه من العلوم».

وفي الجهة المقابلة وردت الكثير من الأقوال التي تنتقد ابن حزم بشدة، فقد قال أبو العباس بن العريف عنه: «كان لسان ابن حزم وسيف الحجاج بن يوسف شقيقين» وهذا بسبب كثرة وقوعه في الأئمة والكلام عليهم. وقال عنه شيخ الإسلام ابن تيمية: «لكن قد خالط من أقوال الفلاسفة والمعتزلة في مسائل الصفات ما صرفه عن موافقة أهل الحديث في معاني مذهبهم في ذلك، فوافق هؤلاء في اللفظ وهؤلاء في المعنى، وبمثل هذا صار يذمه من يذمه من الفقهاء والمتكلمين وعلماء الحديث باتباعه لظاهر لا باطن له، مضمومًا إلى ما في كلامه من الوقيعة في الأكابر والإسراف في نفي المعاني ودعوى متابعة الظواهر».

عِلمٌ يُنتِجُ غزارةً في التراث الفكري

كان لابن حزم من الآراء الفكرية والتصانيفِ والمؤلفات ما جعله واحدا من أفضل العلماء في وقته، ويمتلك مجموعة واسعة من المؤلفات التي أشار مترجموهُ أنها كثيرة وأن بعضها فُقد وبعضها ما يزال على شكل مخطوطات لم تطبع بعد. وهذه قائمة بأشهر مؤلفاته:

  1. كتاب (التقريب في بيان حدود الكلام وكيفية إقامة البرهان).
  2. كتاب (الأخلاق والسير).
  3. كتاب (الفصل بين النحل والملل).
  4. كتاب (الدرة في الاعتقاد).
  5. رسالة (التوفيق على شارع النجاة باختصار الطريق).
  6. كتاب (التحقيق في نقض كلام الرازي).
  7. كتاب (التزهيد في بعض كتاب الفريد).
  8. كتاب (اليقين في النقض على عطاف في كتابه عمدة الأبرار).
  9. كتاب (النقض على عبد الحق الصقلي).
  10. كتاب (زجر العاوي وإخسائِه ودحر الغاوي وإخزائِه).
  11. كتاب (رواية أبان يزيد العطار عن عاصم).
  12. كتاب (الرد على من قال إن ترتيب السور ليس من عند الله بل هو فعل الصحابة).
  13. كتاب (الإحكام لأصول الأحكام).
  14. كتاب (النبذ في الأصول).
  15. كتاب (النكت الموجزة في إبطال القياس والتعليل والرأي).
  16. كتاب (النقض على أبي العباس بن سريج).
  17. كتاب (الرد على المالكية).
  18. كتاب (الرد على الطحاوي في الاستحسان).
  19. كتاب (صلة الدامع الذي ابتدأه أبو الحسن بن المفلس).
  20. كتاب (الخصال في المسائل المجردة وصلته في الفتوح والتاريخ والسير).
  21. كتاب (الاتصال في شرح كتاب الخصال).
  22. رسالة (نقط العروس).
  23. كتاب (المحَّلى).
  24. كتاب (المعلى في شرح المحلى).
  25. كتاب (حجة الوداع).
  26. كتاب (مراتب العلماء).
  27. كتاب (مراتب التواليف).
  28. كتاب (الجماهير).
  29. كتاب (الإعراب عن كشف الالتباس الموجود في مذاهب أصحاب الرأي والقياس).

تراثُ ابنِ حزمَ بين منحِ الوسومِ وإحراقِ الخصومِ

اعتاد ابن حزم أن يقوم برحلات علمية حول مدن الأندلس، بعضها كانت اختيارية والأخرى إجبارية، ومعظم تلك الرحلات كانت تعود عليه بسمعة كبيرة وصيت ذائع. وقد تأثر به الكثير من الشباب حتى والي مدينة ميورقة حينها أحمد بن رشيق، وساعده هذا الأخير في تقوية موقفه وفكره وسانده ليكون ذا صيت عالٍ وقد أصبح كذلك بالفعل وصار له أتباع كثر. إلا أن موت أحمد بن رشيق جعل موقف ابن حزم ضعيفًا أمام الفقهاء الذين ضاقوا ذرعًا بعلمه وانتقاداته اللاذعةِ، وخرج ابن حزم من ميورقة وغادر إلى إشبيلية لاستكمال رحَلاتهِ التعليمية.

وكانت إشبيلية تحت سيطرة المعتضد بن عباد الذي كان السبب الرئيسي في إحراق كتب ابن حزم، وجاء ذلك  على خلفية فضح ابن حزم لهذا المعتضد الذي ادعى أنه استمد الولاية من المؤيد هشام بن الحكم وأنه لا زال حيا. وبهذا استطاع المعتضد أن يحكم كل بقاع الأندلس بهذا الادعاء، وبعد مرور فترة من الزمن ادعى أن المؤيد مات وائتمنهُ على الحكم. فقام ابن حزم بفضح هذا الادعاء في رسالته نقط العروس: «أخلوقةً لم يقع مثلها في الدهر فإنه ظهر رجل حصري بعد اثنتين وعشرين سنة من موت هشام بن الحكم المؤيد وادعى أنه هو، فبويع له وخطب له على جميع منابر الأندلس في أوقات شتى، وسفكت الدماء وتصادمت الجيوش في أمره».

فلما سمع المعتضد بهذا غضب وأمر بإحراق كتب ابن حزم ليُسبب له صدمة نفسية، واستغل كرهَ الفقهاء له واتخذ ذلك ذريعة لينتقم من فضحه له. وذكر ياقوت الحموي في كتابه معجم الأدباء أن أبا مروان بن حيان قال: «طفق الملوك يقصونه عن قربهم ويُسيرونه عن بلادهم إلى أن انتهوا به إلى منقطع أثره بِتربة بلده من بادية لبْلة، وبها توفي رحمه الله سنة ست وخمسين وأربعمائة. وهو في ذلك غير مرتدع ولا راجع إلى ما أرادوا به، يبث علمه في من ينتابه في بادية بلده من عامة المقتبسين منهم من أصاغر الطلبة الذين لا يخشون فيه الملامة. يحدثهم ويفقههم ويُدارسهم ولا يدع المثابرة على العلم والمواظبة على التأليف والإكثار من التصنيف حتى كمل من مصنفاته في فنون من العلم وقر بعير لم يعْدُ أكثرها عتبة باديتهِ لتزهيدِ الفقهاء طلاب العلم فيها حتى أُحرق بعضها بإشبيلية ومزِّقت علانيةً»».

المصادر

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى