فُتِنْتُ وَنَسيتُ أَنّي مُلْتَزِم!

مَعَ مرورِ الوقتِ، و قِلّة الصُّحبة الصَّالحة التي تُعينُ على البِرِ والتقوى،  وبسبب العُجب بالنفسِ تارةً، وداء الرياء الذي يدُّب كدبيب النّمل تارةً أُخرى، و وَحشَة الطريق فطريق الرجالِ مليء بالأشواكِ والأشلاء، وجَرَّاء البُعدِ عن طلبِ العلمِ وحَلَقاتِ القرآن.

تَفْتُرُ عزيمةُ المؤمن، وتبدأ جَذوة الإيمان تنطفئ شيئاً فشيئا، فيَأْلَف الجاهليّة، ويُزيّنُ له الشيطانُ بعضَ الأعمالِ، وتَغُرّهُ الصورة الخدّاعة، ويظن السُّمَّ الزُعاف عسلاً حلواً !!

«وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ»

 فيَحُوم حَوْلَ حِمى الشهواتِ والشبهاتِ، إلى أَنْ يستسلم أمام مطارق الفِتن التي لا ترحم، و تَغتالَهُ شياطينُ الإنسِّ والجنِّ فيقع في الحِمى، قال النبي محمد صلى الله عليه وسلم: ” إِنَّ الْحَلالَ بَيِّنٌ ، وَإِنَّ الْحَرَامَ بَيِّنٌ ، وَبَيْنَهُمَا مُشْتَبِهَاتٌ لا يَعْلَمُهُنَّ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ ، فَمَنِ اتَّقَى الشُّبُهَاتِ اسْتَبْرَأَ لِدِينِهِ وَعِرْضِهِ ، وَمَنْ وَقَعَ فِي الشُّبُهَاتِ وَقَعَ فِي الْحَرَامِ ، كَالرَّاعِي يَرْعَى حَوْلَ الْحِمَى يُوشِكُ أَنْ يَرْتَعَ فِيهِ ، أَلا وَإِنَّ لِكُلِّ مَلِكٍ حِمًى ، أَلا وَإِنَّ حِمَى اللَّهِ مَحَارِمُهُ ، ألا وَإِنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ ، وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ ، أَلا وَهِيَ الْقَلْب” صحيح مسلم

صلاةُ الجماعة بالمسجد صارتْ تَخَلُّفا وتضييعاً تحت مزاعم الانشغال بالدراسة أو العمل، الخشوع لم يَعُد له طعما. السُنَن الرواتب شَغَلتهُ عنها مكاسبُ الدنيا الزائِلة. ركعاتُ القيامِ التي كان يختلى بنفسه في ظُلْمة الليالي استبدلها بالجلوس أمام الشاشاتِ أو فضول تَصَفُحِ الإنترنت حتى تتعب العين و يَغُطُ في نومٍ عميق، نومٌ كنوْمِ أهلِ الكهف إلا أنّ نوم أهل الكهف كان سيراً إلى ربّهم وفِرارا بدينهم، أمّا نوم صاحبنا الذي كان ملتزما فهو نوم عن معالي الأمور، ينام فرارا عن دينه وهروبا من صلواته، حتى المُصحف مَلّ ابتعاده عنه، الأذكار نسيَّها فبعد أنْ كانَ لِسَانُه رطباً بذكر الله صار الذكر والترتيل أثقل عليه من حملِ الحجارة، الكُتب على الأرفُف تُصدر أنيناً يُشبِهُ أزيز المِرجَل، تشتاقُ إليه لِيضُمّها إلى صدره ويرتَشِفُ رحيقها، تُنادي أَلَا من عودة !!

كان يسير مُطأطأ الرأس حتى لا تقع العينُ على المُحرمات، لقد ذهب هذا كلّه و صار يُقلّب عينيه في أعيُنِ الغيدِ دون خشية من الخالق أو خجلٍ من الخلق… تحوّلت سعادته لضيقٍ، خَفُتَ نورُ المُحيّا وحَلّتْ ظُلّمةُ المعصية مِصداقا لقوله -عزوجل-:

«وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا»

أين كلمات العِزّة التي كانت تنهمر من بين ثنايا ثغرك البسّام ؟! أين الخُطَطَ التي رسمتها لتمكين هذا الدين؟! أصبح يهيم على وجهه لا يعرف معروفاً ولا يُنكِر مُنكراً، لا يملك سوى عَضِّ أنامله تَنَدُّمَا! شخص كهذا هل يُنتظر منه أن يكون نافعاً لأمته فضلا أن يكون نافعاً في نفسه !!

أخي! ولِأنّي أُحبُ لكَ الخيرَ دعني أُمَحِضُّكَ نصيحة، نصيحة مُحبٍ، تكَالبَتْ عليه شياطينُ الإنسِ و الجنِ فترة من فترات عمري فأَثْخَنَتْ فيه الجِراح  فتعثّر على الطريق… لقد استبدلتُ حِبرَ قلمي بدمعِ المآقي، أصفُ الدواءَ وأنا بالداءِ عليلُ، لعلّ الله يكتب لي ولك الشفاء.

الندم أول طريق التوبة، عليك به وسكب الدمع من محاجر العين، اظهرْ ضعفك واستكانتك بين يدي الله، عُدْ لمحرابك في ظلمة الليالي ناجي ربّك فهو -عزوجل- يحب أنين المُستغفرين..

لكن احذرْ أن تجعل من الندم وسادة تنام عليها فتُقِعدُك عن المعالي، اجعل من ندمك هذا وقودا يحترق بين جنبات صدرك وهِمّة تَتَّقِدُ في حفظ كتاب الله وطلب العلم وتلخيص الشروح والاجتهاد في العبادة فالعبرة بمن صدق وليست بمن سبق وقد قال ربُّ العِزّة –جلّ وعلا-:

«إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَٰئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ ۗ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا»

ها هو العُمير بن الحمام رضي الله عنه يدخل الجنّة ولم يُصلِ لله ركعة، بل لم يحضر مجلسا علميا نبويّا، نطق الشهادة فقط لكنه صدق في إسلامه وجاهد في سبيل الله ثم استشهد.

هذا عبد الرحمن بن صخر الدوسي أبو هريرة رضي الله عنه قضى أربعة أعوام في صحبة النبي صلى الله عليه وسلم إلا أنّه نقل لنا ما يُقارب نصف السنة لأنّه مَدّ ثوبه وصَدَق في الطلب والحفظ والتعلُّم.

ومن الأمثلة على النقيض: هل أتاك نبأ الصحابي الذي قاتل مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، قاتل ببسالة حتى أثنى عليه الصحب رضوان الله عليهم؟! إلا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم شَهِدَ بأنّهُ من ورثة الجحيم رُغماً عن جِهاده، لأنّه قتل نفسه بعدما تكاثرت عليه الجراح.

اصدقْ الله يصدُقَكَ

هل أتاك نبأ البلعام بن باعوراء أَعلمُ أحبار بني إسرائيل، ومع هذا ضلّ بعد علم، فنزل فيه أكثر لفظ ذم وأشدُّها تقريعا، قال-سبحانه وتعالى-:”وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنْ الْغَاوِينَ* وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ..”الأعراف

وكم من البلاعمة رأيناهم في عصرنا هذا قضوا أعمارهم في التصنيف والتأليف إلا أن الله ختم لهم خاتمة سوء، وما نبأ لحى السوء التي تكالبت تحت عروش الطواغيت منا ببعيد..

ابتعد عن أهل السوء ممن يُقعدونك عن معالي الأمور، فلا هم نالوها ولا هم تركوك تنجو بنفسك، عليك بصحبة صالحة تُعينك، تنَسّم رائحة العِزّة التي تفوح منهم، اقتبس من نور سَمتِهم، هم القوم لا يشقى جليسهم بهم، قال تعالى”وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ ۖ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ۖ وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا ” الكهف

اعلمْ أنّ القسوة التي تجد صداها في قلبك علامة بُعدٍ عن كتاب الله” فَوَيْلٌ لِّلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُم مِّن ذِكْرِ اللَّهِ “الزمر.

فَعُدْ إلى كتاب الله مرِّغ وجهك في رحابِه، رابط في حِلقِه حفظا وترتيلا وتدبرا وتطبيقا، قال تعالى:” اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَىٰ ذِكْرِاللَّهِ ۚ ذَٰلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ” الزمر

املأ صدرك بهموم دينك وأمّتك..فالهم المُؤَرِّق لا يَترُك للمرءِ فُسحَة التفكير في سفاسف الأمور، كما أوصى عُقلاء كل أمه أنّ قيمة المرء تكمن في الهم الذي بين جَنْبَيه. أُخيّ! انفضْ عنك غبار الوهن والكسل، عانِق الأقلام بأناملك طلبا للعلم، خير لك من أن تعضها ندما، هيهات هيهات بين وَضْعِ الخُطَطِ الصمّاء وبين مُناوشة الحمى،قال الشاعر محمود مشرف:

قد آن أنْ تَقِفَ للعلم مُعتكِفا..إنَّ الذين رضوا عن جهلهم هَمَجُ .
لا تختلطْ بِهِمُ و اركنْ لغُربَتِكَ.. إن الذى يتركُ الأحبالَ يندمجُ

تُب إلى الله حتي يَنْبَلِجَ فَجرُ مَجدِكَ من جديد، فجر العِفّة النقيّة، بعد جلاء ليل الشهوة الدامِس. أما تَاقَتْ نفسُكَ أن ترتشف من النبعِ الصافي مَرّة أُخرى بعدما ألِفَتْ المُستنقع؟!

«أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ» الحديد


حسام عبد الحكيم

د. حسام عبد الحكيم

طبيبٌ بشريّ؛ مُهتمٌ بعلوم القرآن والأدب العربيّ. له عدد من المقالات المنشورة على عدد من… المزيد »

مقالات ذات صلة

‫5 تعليقات

  1. كل شيء في الموضوع جميل، جملةً وتفصيلاً، روحاً ومعنيً، اسلوباً ولغةً. وفقك الله جل في علاه وجزاك كل الخير.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى