كیف یسقط الثوار جماهیریًا؟

لما كان الوصول للجماهیر من أهم قیم الثورة بدأت الأنظمة في اتباع استراتیجیة ثابتة تجاه المطالبین بالتغییر، وهي استراتیجیة (التشویه)، التشویه الإعلامي هو وسیلة النظام الأولى لإسقاط الثوار أفرادًا وكیانات ولذلك یكاد یكون نهجًا ثابتًا ومتبعًا عند كل الأنظمة، ولكن التشویه سهل مواجهته بالوصول للناس والتعامل معهم على الأرض وكسر كل صور العزلة عنهم، وإذا كان هذا واضحًا في العزلة المادیة فإنه یجب أن یُعلم أن العزلة الشعوریة والوجدانیة أخطر، وقد حاولت حصر ما یعزل الثوار عن الشعب وجدانیًا فوجدت الآتي:

عزلة بسبب الخطاب

سیأتي الحدیث لاحقًا عن الخطاب وكیف یجب أن یكون، ولكن ما أود التنبیه علیه هنا هو أن الخطاب السيء وغیر الاحترافي هو أحد أكبر الأسباب في إسقاط أي كیان جماهیریًا، والثورة لا تكون ثورة بغیر خطاب محترف ذكي، بل إن الثوار الذین یهدفون إلى التغییر الحقیقي یجب أن یظلوا منشغلین بتطویر خطابهم وتحسینه للوصول به لأفضل صورة شعبیة ممكنة تصل إلى الشعب باختلاف شرائحه وطبقاته.

عزلة بسبب اختلاف الاهتمامات

أعني باختلاف الاهتمامات هو أن یظهر الثوار في واد والناس والشعب في واد آخر، ویحدث هذا إما بسبب عدم اهتمام الثوار فعلًا بما یشغل الناس، أو بسبب عدم القدرة على صیاغة الفكرة الثوریة بأسلوب یمس اهتمامات الناس ومعاشهم وحیاتهم، وهذا الاختلاف في الاهتمامات أثره خطیر جدًا على الفكرة الثوریة، فهو یظهر المتكلم وكأنه یعیش في قریة منعزلة عن الناس وأنه لا یبحث ولا یهتم إلا بشيء یخصه ویتعلق به مما یفقد الشعب التعلق بالفكرة الثوریة والشعور بالانتماء لها وهو ما یسهل على الأنظمة محاصرتها والقضاء على أصحابها بعد ذلك.

ولذلك یجب ألا تتحول قضایا المعركة الرئیسیة وعناصر المنهج إلى كلمات مستهلكة جامدة لا تمس حیاة الناس ومستجدات أوضاعهم، بل یجب أن یستمر الإبداع في ربط قضایا الثورة بقضایا الناس المستجدة، یجب ألا ینفصل الثائرون عن واقع الناس وعن اهتماماتهم وحوائجهم.

والإسلام جاء بصلاح الدین والدنیا، والذي یتصور تعارض هدف إقامة الدین مع هدف إصلاح أوضاع الناس المعیشیة فإنه لم یفهم طبیعة الإسلام، بل هذا جزء من ذاك في الحقیقة، والله تعالى رغب الناس في الدین فقال: (وَلَوْ أَنَّ أَھْلَ الْقُرَى آمَنُواْ وَاتَّقَواْ لَفَتَحْنَا عَلَیْھِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ).

كما أن تحریك الناس لأجل قضایاهم وحقوقهم هو شيء مشروع، وهي نیة سلیمة إن احتسبوا فیها الأجر عند الله، وقد قال صلى الله عليه وسلم: “من قتل دون ماله فهو شهید، ومن قتل دون أهله فهو شهید، ومن قتل دون دینه فهو شهید، ومن قتل دون دمه فهو شهید” وفي روایة: “من قتل دون مظلمته فهو شهید”.

یجب أن نعلم أن معركة التغییر الیوم قد صارت ضخمة وكبیرة ومتشعبة ومتعددة الاتجاهات وهذا یسھّل تحریك الناس في المعركة وحضهم على خوضها، مهما اختلفت عقولهم:

فبعض الناس حدود عقله أن یدرك الاعتداء على ماله ویُستفز له، فنحن یجب أن نحركه بذلك، ونقول له: من قتل دون ماله فهو شهید. وبعض الناس یدرك الاعتداء على أهله وعرضه فنحن یجب أن نحركه بذلك، ونقوله له: من قتل دون أهله فهو شهید. وبعض الناس یدرك الاعتداء على دینه ولا یرى في المعركة غیر ذلك فنحن یجب أن نحركه بذلك، ونقول له: من قتل دون دینه فهو شهید.

وبعض الناس یدرك الاعتداء على روحه وحیاته وأن دمه قد صار أرخص شيء عند النظام فنحن یجب أن نحركه بذلك، ونقول له: من قتل دون دمه فهو شهید. وبعض الناس یدرك أنه مظلوم بصورة عامة، مسلوب الحقوق، والكرامة، ولا یفهم أكثر من ذلك، فنحن یجب أن نحركه بذلك ونقول له: من قتل دون مظلمته فهو شهید.

وبعض الناس یدرك المعركة كاملة تامة بكل أبعادها وأبوابها، فهو یتحرك مرتبًا أولویاته لدینه ودمه وعرضه وماله وكل مظالمه، فهذا هو الوعي الذي نحاول توصیله للشعوب أثناء تحریكنا لهم.

وإدخال الشعوب في المعركة من أي باب من هذه الأبواب سیسھّل بعد ذلك الارتقاء بوعیهم وتكمیله وهذا جربناه بأنفسنا مع الكثیرین، وحتى إذا لم نتمكن من الارتقاء الكامل بوعیهم فیكفي أنهم قد خاضوا المعركة ولم یجلسوا في مقاعد المشاهدین أو یتحولوا لصف النظام ضد الثوار!

عزلة بسبب اختلاف الشكل

من أكثر ما یؤثر في النفوس تآلفًا وتناكرًا هو الاختلاف الشكلي، ولاختلاف الظاهر تأثیر على الاختلاف في الباطن، یقول النبي -صلى الله عليه وسلم-:

لا تختلفوا فتختلف قلوبكم.

هناك حدود قد یحدها الشرع فیما یتعلق بالظاهر كالأمر باللحیة والنهي عن القزع وغیر ذلك، إلا أن بعض التیارات والجماعات والتنظیمات “الإسلامیة” صارت تتوغل في مخالفة الناس شكلیًا أكثر مما جاء به الشرع بكثیر، كإصرار بعضهم على الثوب الأفغاني أو على العمامة أو على تطویل الشعر في مجتمعات لم تعتد على ذلك بما یجعل الشعوب تعتقد أنهم غریبو الأطوار!!

كذلك على الجانب الآخر كثیر من التیارات اللیبرالیة والیساریة تتوغل في التمایز الشكلي عن باقي الناس وهو ما ساعد على عزل كثیر من هذه التیارات أیضًا عن عموم الشعب وصارت الناس تنظر إلى مظهر أفرادها بنظرة ریبة وشك متأثرین بما تُرمى به هذه التیارات من كونهم شواذًا أو من كونهم یحملون عقائد شیطانیة أحیانًا أو من كونهم یتبعون جماعات ماسونیة سریة إلى آخر ما یحرك به النظام آلته الإعلامیة لرمي بعضهم به.

ختامًا

فملخص الأمر أن تعرف أن أهم شرط للوصول بالقضیة للشعوب هو البعد عن كل ما یفصلك عن الناس شعوریًا ووجدانیًا بدون داع، یجب أن یستشعر الناس أن الثوار هم منهم ومثلهم ویتحدثون بنبضهم، وأن فكرة الثورة هي فكرة كل واحد فیهم، ولیس المراد أن تعجبهم الفكرة وكفى، بل مقصدي أن ینتموا هم إلیها ویحسوا أنها تعبر عما في أعماقهم، ولذلك طریقة العرض السیاسي والدعایة الانتخابیة المعهودة لا تحقق ثورة لأنها تخلق أنصارًا بینما الثورة تخلق تیارًا، والفارق بین خلق الأنصار والتیار كبیر جدًا.

فالأنصار هم مجموعة من المصفقین والمشجعین والمتفاعلین معك بسبب انفعال عاطفي لحظي ومن السهل أن یسرقهم منك غیرك وهم مرتبطون بك أو بكیانك أكثر من ارتباطهم بفكرك ومنهجك، ولو قلّت إنجازاتك وهدأ “رِتمك” في فترة من الفترات ستفقد قطاعًا كبیرًا منهم، والأنصار سهل خداعهم وصرفهم من حولك، أما التیار فهم أفراد انتموا إلى فكرتك وحملوها وصار كل واحد منهم یحمل همها ویعمل لها ومستعدًا لرفع لوائها وإعلاء رایتها حتى ولو لم تكن أنت موجودًا.

اضغط هنا لتحميل كتاب معركة الأحرار كاملًا PDF – الطبعة الثانية

أحمد سمير

ناشط ومهتم بالشأن الإسلامي والعالمي.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى