معركة الأحرار .. ھل نحن مخیرون في خوضها؟
معركة الأحرار لیست معركة سیاسیة تخص السیاسیین وحدهم، ولیست حربًا على السلطة بین طلاب الدنیا لتعلن اعتزالك لها، ولیست فتنة اختلط فیها الحق بالباطل كما یزعم الزاعمون، إنها معركة فاصلة واضحة، بین الحق والباطل، وبین الحریة والعبودیة، وبین الإسلام والجاهلیة، معركة الأحرار التي لا یسع أحدًا أن یتخاذل عنها، وأن یدیر وجهه لغیرها، إنها معركة یدفعك إلیها دینك قبل كل شيء، معركة سیسألك الله عما قدمته فیها، وعما بذلته في أحداثها، فلا تتأخر عنها.
فإنما ذلت هذه الأمة عندما تخاذل أفرادها عما أوجبه الله علیهم، وعلى رأس ذلك الجهاد، والجهاد كلمة أشمل من مجرد القتال، فهي تشمل القتال وتشمل دفع العدو في كل الساحات التي هجم علینا فیها ومنها بلا شك ساحة الفكر والوعي، وبصورة أوسع تشمل حتى مجاهدتك لنفسك، فإننا بحاجة إلى إصلاح قلوبنا ونفوسنا، كما أننا بحاجة إلى مخاطبة الشعوب بما یعقلون ویفهمون ودعوتهم إلى الحق الكامل ودفع الشبهات والزیف الذي یُلقى إلیهم، كل هذا مع حاجتنا لمواجهة العدو على الأرض بكل ما نملك، فالمعركة تشمل كل ذلك وكل جوانبها مرتبطة ببعضها.
ولأننا نعلم أننا في عبادة نرجو منها رضا الله فلا ینبغي أن نتعلق كثیرًا بالنتائج وأن نحمل همها، فاﻟﻠﻪ قد تكفل بها، ولن یسألنا الله إلا عن أفعالنا، فالتمكین هو وعد الله لمن اتبع رضاه، وقد نرى النصر بأعیننا وقد لا نراه، فما یهمنا هو ألا نلقى الله مستسلمین خاضعین لأعدائنا، مقصرین في حق المعركة، خاذلین لدیننا الذي أمرنا بالجهاد، ولأمتنا المستضعفة التي تحتاج إلى من ینقذها.
السعي للتمكين
ولذلك من أكثر الكلمات التي لا أرى استعمالها موفقًا كلمة (السعي للتمكین)، فالصحیح هو أننا نسعى لإقامة الدین وتنفیذ أمر الله لنا، فلیس التمكین شیئًا یُسعى له ولا واجبًا ستُسأل عن تحقیقه یوم القیامة، وإنما هو وعد الله لمن آمن وأصلح واتبع منهاجه، قال تعالى: (وَعَد اللّهُ الَّذِینَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَیَسْتَخْلِفَنَّھُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِینَ مِنْ قَبْلِھِمْ وَلَیُمَكِّنَنَّ لَھُمْ دِینَھُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَھُمْ وَلَیُبَدِّلَنَّھُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِھِمْ أَمْنًا).
وقد قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: “إن قامت الساعة وفي ید أحدكم فسیلة فإن استطاع أن لا يقوم حتى یغرسها فلیغرسها”، أنت تعلم أن القیامة قد قامت وأنه في كل الأحوال لا یوجد من سیستفید من زرع هذه الفسیلة فلماذا تغرسها؟، تغرسها لأنك ستحاسب یوم القیامة عن أفعالك نفسها ولیس على النتائج، ومادمت قد فعلت ما أمرك الله به فقد نجوت والنتائج ﻟﻠﻪ.
وحتى لو لم یكن الله قد وعدنا بالنصر والتمكین لما جاز لنا أن نترك المعركة، لأننا خضناها طاعة ﻟﻠﻪ وتنفیذًا للواجب الذي أوجبه علینا، وقد نقلنا الكلمة الموفقة الحاسمة لابن تیمیة -رحمه الله-:
العدو الصائل الذي یفسد الدین والدنیا لا شيء أوجب بعد الإیمان من دفعه.
فأنت بخوضك للمعركة تنجو بدینك قبل دنیاك، فكیف وقد وعدك الله بالنصر إن نصرته، وتكفل سبحانه بألا یضیع سعیك هباء في الدنیا ولا في الآخرة، أیمكن بعد كل هذا أن تتكاسل عن المعركة وأن تصرف وجهك عنها؟
ألا فلینطلق كل حر على بركة الله، فإن المعركة محسومة لأهل الحق ولا محالة، وإن من سنن الله -عز وجل- أن كل ما یبذله أصحاب الدعوات والأفكار من مال أو وقت أو حیاة ینتقل إلى كفة أفكارهم ودعواتهم مباشرة، فالدعوات تعیش بأرواح من ماتوا في سبیلها، وتغتني بما أنفقوه من أموالهم، وتتحرر بأوقات سجنهم، هذا غیر أجرهم في الآخرة، فأبشر بكل ما تبذله فإن له أثرًا في الدنیا قبل الآخرة حتى وإن لم تشهد أنت هذا الأثر في حیاتك.
أصحاب الأخدود ومعركة الأحرار
فارفع رایة الحق واستقم على المنهاج ولا تنظر لفارق القوة بینك وبین عدوك ولا تهتم كیف سیأتي النصر أو كیف سیكون أثر عملك، فالأمر كله بید الله تعالى، وإن في قصة أصحاب الأخدود لعبرة كبیرة، حیث اختار الغلام أن یضحي بروحه في سبیل الله فكان أثر عمله في الدنیا أن آمن الناس جمیعًا بعد موته، ثم اختار الناس من بعد الغلام أن یضحوا كذلك بأرواحهم وآثروا نار الأخدود على الكفر باﻟﻠﻪ، فأین أثرهم في الدنیا وهم آخر من آمن حینها؟
إن الله قد أبى إلا أن یجعل لهم أثرًا في الدنیا فأنزل سورة البروج تخلیدًا لأثرهم ولیكونوا نبراسًا لكل مؤمن إلى یوم القیامة.
وإذا كنا غیر مخیرین في خوض المعركة فنحن كذلك غیر مخیرین في الطریقة التي سنخوض بها المعركة، فنحن في عبادة، والعبادة تكون بالصورة التي حددها الله، وإن الله قد بین لنا الوسائل التي یجب أن نسلكها في مثل هذا الواقع، هذه الوسائل هي جزء مما نعنیه بكلمة المنهج.
إننا یجب ألا ننظر أبدًا إلى تكلفة المنهج الثوري ولا إلى صعوبة طریقه، إنه یكفینا أننا نتبع المنهج السلیم وأننا نسلك الوسائل الصحیحة، وهذا نراه في حد ذاته انتصارًا، فالهزیمة عندنا هي أن نحید عن الحق وأن نتجرد من منهجنا، ولا نرى أي قیمة لانتصار الأشخاص والكیانات إذا كانوا قد فرطوا في منهجهم وداسوا على مبادئهم!
فهذا لا یُسمى انتصارًا ولا تمكینا بل هو مجد شخصي یحققونه لذواتهم على حساب الحق، فالانتصار یعني انتصار الحق حتى ولو كان ثمن ذلك هو موتنا وفناء كیاناتنا، والحق لا ینتصر بالباطل! إننا نؤمن أن الوسائل والغایات وجهان لعملة واحدة، ولا یجوز التفریط في الوسائل بحجة حسن الغایات، فالغایة لا تبرر الوسیلة، والغایات لیست مطلوبة منا ولم یكلفنا الله بها إنما هي النتیجة الطبیعیة لاتباع الوسائل الصحیحة قال تعالى: (إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ) فإن تنصروا الله بالوسائل ینصركم بالنتائج، فالنصر الأول هو تكلیف الله لنا، والنصر الثاني هو ما تكفل الله به، فاهتم بتصحیح وتنقیة ما كلفك الله به، ودع ما تكفل هو به.
الثورة الحقيقية
وبذلك تفهم أن الثورة بهذا المعنى الذي شرحناه لیست مجرد وسیلة للتغییر من ضمن وسائل أخرى، بل هي منهج التغییر الذي لا نحید عنه، ولا نستبدله بمنهج آخر، فالواقع فاسد الأصل، باطل من جذوره، وأي تحرك سیاسي ترقیعي مع هذا الواقع یعني أنك قد تصالحت مع أصله الفاسد وجذوره الباطلة حتى ولو استطعت تغییر بعض الفروع والسلوكیات.
والثورة بالمعنى الذي شرحناه هي عملیة طویلة الأمد مستمرة متنوعة المسارت ولیست مجرد حدث انفجاري یحدث في یوم وینتهي، والمعركة لیست سلطویة فقط تنتهي بالحصول على الزعامة كما یروج السیاسیون بل إن إصلاح كل شخص لنفسه وتنقیة عقله وقلبه وسلوكه من الباطل وإصلاحه لغیره هو جزء من نفس المعركة!
فالنظرة السلطویة للمشكلة والحل هي نظرة قاصرة، وفكرة تحویل الإسلام إلى منتج یتم عرضه عرضًا انتخابیًا، وشعارات یسهل الترویج لها حزبیًا، هي فكرة تنقض تمامًا منهج التغییر الذي نعتقد صحته، وهذا ما یفرق المتحركین بالثورة حاملین منهج الإسلام وبین من أطلقَ علیهم “تیارات الإسلام السیاسي”، فإن مشكلة الواقع عند الثوار لیست منحصرة في الوجوه الموجودة في السلطة، والحل عندهم -كذلك- لیس منحصرًا في تغییر تلك الوجوه، والإسلام عند الثوار لیس وسیلة یُطلب بها الوصول إلى السلطة المتغیرة تحت رعایة المفسدین.
إن الإسلام هو منهج یدفعنا للبذل والتضحیة، منهج نتحرك به لتحقیق أهداف ولیس لاستجداء مطالب من الطغاة، منهج یرسم واقعًا جدیدًا ویؤسس فیه لسلطة من نوع مختلف، منهج ینتزع الحق ولا یشحذه من المبطلین، منهج یصلح ما أفسده العدو في كل النواحي، وإن سنة الله في كل شيء أنه یُبنى من أسفل إلى أعلى، وإن التغییر كذلك لن یكون حقیقیًا ما لم یمس القاع والجذور وحتى یصل إلى أعلى نقطة، وهذا لا یمكن حدوثه إلا بخوض المعركة ثوریًا على كل المستویات، فإن خوض المعركة على النحو الذي شرحناه سیبني الحق في الوقت الذي یهدم فیه الباطل.
اضغط هنا لتحميل كتاب معركة الأحرار كاملًا PDF – الطبعة الثانية