كيف عاد الإخوان للمشهد بعد قرار الحلّ على يد النقراشي؟
ذكرْنا في تقريرنا السابق أننا سنوضح ما ناله الإخوان من بطش السلطة ورَدَّة فعلهم على هذا البطش “في محنتهم الأولى فقط” وقد وفينا بنصف عهدنا وهو: بيان مظاهر بطش السلطة بالإخوان في محنتهم الأولى، وها أنا ذا أوفي النصف الآخر ببيان كيف ردَّ الإخوان على قرار الحلّ والتنكيل الذي أصابهم، فأرجو منك أيها القارئ أن تفيَ بمُهمتك، وتقارنَ بين ما ستقرأه وبين ما تراه اليوم، والله المستعان.
كيف واجه الإخوان في الداخل المصري قرارات الحلّ وتبعاته؟
بعد صدور قرار الحلّ كان الإخوان المسلمون إما معتقلين في معتقلات مصر، أو مسجونين داخل سجونها، أو طلقاءَ لم يهتدِ إليهم البوليس السياسي ليعتقلهم وفي طليعتهم جنودُ النظام الخاص، الذين هالتهم خيانة النقراشي باشا لقضية المسلمين المركزية حينئذٍ ألا وهي قضية فلسطين، وكذلك التنكيلُ بأفراد جماعتهم التي لم تكن تنادي إلا بالالتزام بشريعة الله في كل شيءٍ من قضاء وسياسة وحكم واقتصاد.
بدأت المقاومة قبل قرارات الحلّ واستمرت لما بعدُ، فقد لوحظ تراخي الحكومة المصرية في قضية فلسطين كما بيَّنَّا في تقرير سابق، بالإضافة إلى قضية الوحدة بين مصر والسودان إذ كانتا بلدًا واحدًا حينئذٍ، فقامت مظاهرات واضطرابات كان الإخوان هم مثيريها في محاولة لحمل الحكومة على عدم التفريط في حقوق الأمة و اتجاهَها، كان ذلك من عموم الإخوان بصفة عامة، أما أفراد النظام الخاص الطلقاء الذين لم تنلهم يد الاعتقال والبطش، فكان لهم رأيٌ آخرُ على الأرجح. فماذا كان رد فعلهم على تلك القرارات؟
رد فعل النظام الخاص على قرارات الحلّ والتنكيل بالإخوان:
لم يغنِ الحكومة شيئًا أن تعتقل قادة الإخوان أو تحبسهم في السجون والمعتقلات ولم يغنها شيئًا أن تعزل بينها وبين مرشدهم، الذي دبرت له أمرًا بليل، بل إنها واجهت هي ونظامُها أجمعَ، جهاد النظام الخاص للإخوان فرادى لا جماعاتٍ بما اشتملت عليه صدورهم من عقيدة ربانية عادلة، فوضعوا على عاتقهم حماية الدعوة من بطش أعدائها.
اغتيال النقراشي باشا في عقر داره.
كان الشهيد السيد فايز هو مسئول النظام الخاص عن مدينة القاهرة بعد اعتقال كل من يعلوه في القيادة سواء من رجال الدعوة العامة أو من رجال النظام الخاص، فقد اعتُقلَ جميع أعضاء الهيئة التأسيسية و حيلَ بين المرشد العام وبين جميع الإخوان، فأصبح سيد فايز هو المسئولَ الأول عن حماية الدعوة في هذه الظروف الشاذة وله حق الاجتهاد.
وقد نظر السيد فايز في قرار حل الإخوان المسلمين وفي الظروف التي تحيط بهذا القرار سواء في الميدان أو داخل مصر، فشعر أنه محكوم بحكومة واقعة في بئر الخيانة وأفعالها تخدم صراحةً الصهاينة والمستعمرين، فقرر الدخول معها في حرب عصابات فوق أرض مصر.
ولم يكن للسيد فايز بدٌ من تحمل هذه المسئولية، فكل إخوان الدعوة العامة معتقلون والمرشد العام محجوب عن اللقاء بالإخوان بوضعه تحت العدسة المكبرة لرجال الأمن طوال ساعات النهار والليل، فليس ثمةَ فرصة للاتصال به أو أخذ التعليمات منه.
بدأ السيد فايز معاركه برأس السلطة -محمود فهمي النقراشي-، فكوَّن سريةً من خمسة أفراد من النظام الخاص، لقتل النقراشي باشا غيلةً، ولتتحطم رأسُ الاستبداد، وقد أسند قيادة هذه السرية إلى الشهيد الضابط أحمد فؤاد، و كلل الله جهاد هؤلاء الأفراد الشبان بالنجاح، فخرّ محمود فهمي النقراشي صريعاً في عقر داره، وبين جنده وفي سلطانه.
ما الأسباب التي دفعت النظام لاغتيال النقراشي؟
وكان لذلك الاغتيال أسبابٌ ثلاثة كما أفصح عنها عبد المجيد أحمد حسن الذي اغتاله ألا وهي:
- خيانته لقضية فلسطين.
- تهاونه في شأن قضية مصر ووحدة مصر والسودان.
- حربه على دعوة إقامة الدين والتي بدأها بقرار الحلّ الذي طال الإخوان؛ حيث نصت المادة الثانية من قرار الحلّ على حظر أي جماعة أو هيئة تدعو إلى ما تدعو إليه جماعة الإخوان-ومن المعلوم أن مما كان تدعو إليه الإخوان الالتزامَ بشريعة الله في الحكم والقضاء والسياسة والاقتصاد-.
محاولة حرق أوراق قضية سيارة الجيب
بعد نجاح السَرِيَّةِ في هذا العمل، نظر السيد فايز في كل ما تنسِبُه الحكومة إلى الإخوان من جرائمَ باطلة، مدعيةً أنها تستند في كل ما تدعيه إلى حقائقَ صارخةٍ في المستندات والوثائق المضبوطة في السيارة الجيب فقرر حرق هذه الأوراق، حتى تتوقف ادعاءات الحكومة بأن لديها أدلةَ إجرام رجال دعوتهم.
وكوّن سَرِيةً لهذا الغرض بقيادة الأخ شفيق أنس، و تُنفَّذُ الخطة بنجاح، لولا إدراك أحد المخبرين للحقيبة التي تحتوي على المواد الحارقة، فيخرج بها مسرعاً إلى الشارع، وتنفجر هناك دون إحداث ضرر يُذكر، ويُقبض على شفيق. وقد كان الأخ شفيق أنس متنكرًا في زي وكيل نيابة ووضع الحقيبة الحارقة إلى جوار الدولاب الذي يحتوي على أوراق القضية في الغرفة وهي خاليةٌ من الأشخاص، ثم غادر المحكمة مسرعًا.
محاولة اغتيال إبراهيم عبد الهادي.
تضاعُف البطش والتنكيل في وزارة عبد الهادي:
تقلَّدَ مقاليد السلطة إبراهيم عبدالهادي باشا بعد اغتيال النقراشي، وإذا كان النقراشي قد بدأ فتح المعتقلات فقد كان على إبراهيم عبد الهادي أن يملأها، وإذا كان النقراشي قد بدأ سياسة البطش والتنكيل فقد فاقه إبراهيم عبد الهادي في ذلك. كما كان تكليف عبد الهادي بتأليف الوزارة من بعد النقراشي يعني – على الأقل – موافقة الملك على تلك السياسة، يروي لنا الحاج يوسُف القرش أحد أفراد الإخوان، بعضًا من الأحداث التي حدثت في عهده فيقول:
«محنة 48 كانت قاسيةً جدًا جدًا على الإخوان حتى أن إبراهيم عبد الهادي رئيس الوزارة حينئذٍ كان يَحضُر التعذيب بنفسه انتقاماً لمقتل النقراشي، وكان من يجدون عنده ملابس جوالة يُسجَنُ 6 أشهر، و من عنده ولو طلقةٌ واحدة يصبح متهمًا بمخزن ذخيرة».
مقتل الشيخ حسن البنا-رحمه الله-واستمرار مقاومة الحكومة:
ودون أن يكون لقيادة الإخوان المسلمين في اغتيال النقراشي رأيٌ أو توجيهٌ، تزلزل حكم خَلَفِه عبد الهادي زلزالًا شديدًا ولم ينفعْه قتله للإمام على قارعة الطريق في شيء، فقد كان الإمام الشهيد في تلك المحنة بعيدًا كلَّ البعد عن توجيه الإخوان في نضالهم ضد عدوهم الغادر، لأنه كان أسيرًا تحت نظر سلطات الدولة، التي تباهَتْ خُيَلاءَ، بتركها له، دون أن تحبِسه أو تعتقله، بل أبقته لتلهوَ به،وكأنه عصفورٌ في قفص، أبقته في داره، ولكنها قطعت خط التليفون الذي يمكن أن يوصله بأيٍّ من إخوانه،وسحبت مسدسه المرخص حتى يعجزَ أن يدافع عن نفسه عندما تنقض عليه كلابُها ليقتلوه.
كما اعتقلوا شقيقه الضابط عبد الباسط البنا الذي كان يلازمه، ليحميَه من العسكر والمخبرين والملازمين لباب داره ليلَ نهارَ، والمتحركين خلفه بسيارتهم إذا ما تحرك يمينًا أو يسارًا، يسعى في تحركاته لإقناع الحكومة بخطئها فيما تتخذه من إجراءات شاذة، ولكنْ هيهاتَ للحكومة أن تقتنع، فهي لا تتصرف عن عقلٍ أو وعي، ولكنها أسيرةٌ لهوى ساداتها من الصهاينة والمستعمرين.
محاولة الاغتيال:
هذا الأمر-قتلُ حسن البنا-حثَّ النظام الخاص على التفكير بإلحاق عبد الهادي بسلفه النقراشي، وبالفعل حاول جنودٌ من النظام الخاص اغتيال إبراهيم عبد الهادي لكنَّ قدَرَ اللهِ حال دون تنفيذ الأمر، ففي ٥مايو ١٩٤٩م من بيت بجهة فم الخليج-أظنها اسمَ منطقة- أُطلقت النيران بكثافة على موكب حامد جودة رئيس مجلس النواب السعدي في عهد وزارة إبراهيم عبد الهادي.
وكان الهدف في واقع الأمر هو موكبَ إبراهيم عبد الهادي نفسه، الذي كان يسلك طريقه من مجلس النواب إلى بيته في المعادي، ولكن مر حامد جودة قبله من نفس الطريق إذ كان يسكن المعادي أيضًا و في موكبٍ كموكبه، فحَسِبَه الإخوان المتربصون الموكبَ المطلوب وفتحوا عليه نيران أسلحتهم من التومي جن والبرن والقنابل اليدوية، أصابت النيران بعضَ المارة و لم تُصِبْ حامد جودة.
زلزلة عرش إبراهيم عبد الهادي وإقالته من قِبل الملك.
كان لحادث محاولة الاغتيال أثرُه في تحول السياسة الداخلية، إذ بدأ الملك فاروق يقلق من كَثرة ما رُفع إليه من التقارير التي تفيد بالقضاء على دعوة الإخوان فيتبينُ استمرارُ حوادث المقاومة، خاصة وقد توالت الكمائن العسكرية من رجال النظام الخاص ضد أفراد الحكومة بعد تلك الحادثة، ولعله أن يكون قد خشِيَ على نفسه، ولقد كان ثمةَ تفكير بالفعل عند بعض الإخوان لتوجيه ضربتهم إليه، وعلى إثر هذا الحدث أقال الملك إبراهيم عبدالهادي.
ما نتائج ما فعله النظام الخاص على الإخوان المسلمين؟
أصبحت جماعة الإخوان المسلمين تنعَم بالوجود الشرعي مرة أخرى، ولم تَجِدْ الحكومة الجديدة بُداً من الإفراج عن المعتقلين السياسيين، كما أنها لم تستطِعْ أن تقف ضد التفاف الشعب حول الإخوان المسلمين، الذين انتظمت صفوفهم بقيادة الأخ صالح عشماوي وكيل الجماعة التي فقدت مرشدها العام في جريمةِ شنعاءَ، ارتكبها الحكام السابقون، بغيًا و فسادًا، فعادتْ لجماعة الإخوان قوتُها وأثرها في مجريات الأحداث.
القيادة الجديدة للإخوان بعد المحنة:
في أول مايو 1950 رُفِعتْ الأحكامُ العرفية، و اجتمع قادة الإخوان لاختيار مرشدٍ جديدٍ لهم؛ وبالفعل وقع الاختيار على حسن الهضيبي مرشداً جديداً بطريقة مريبة جداً، و نهج الإخوان بقيادة الهضيبي الجديدة نهجاً إصلاحياً بحتاً، وتصالحوا مع الحكومة والملك، ورأوا في النظام الخاص أنه السبب فيما وقعوا فيه في هذه المحنة، فعملوا على تعطيله وإلغائه، ذاك النظام الذي لولاه بعد فضل الله تعالى لما خرجوا من غياهب السجون التي ذاقوا فيها تعذيبًا وتنكيلًا، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
حقيقةً ليس هذا كل الأمر فتفصيلاته أكبر من أن يستوعبَها هذا التقرير، لذا فللحديث بالتأكيد بقيةٌ عن جماعة الإخوان ما بعد البنا إن قُدِّر لنا ذلك.
المصادر:
1- كتاب النقط فوق الحروف الإخوان المسلمون والنظام الخاص.
2- كتاب حقيقة التنظيم الخاص.
3- كتاب التصويب الأمين.