دور النظام المصري في إجهاض الجهاد الفلسطيني

نبدأ حديثنا بسؤال في غاية الأهمية يوضح إلى أي مدى تواطأت الأنظمة العربية في خيانة قضية فلسطين، والسؤال قد سُئل للحاج أمين الحسيني مفتي فلسطين في شهادته في قضية سيارة الجيب عام 1949م وهو:

هل تعتقد أن الاعتماد على الحكومات وحده كافٍ لإنقاذ فلسطين؟

فأجاب قائلا: “الخطة التي كنت أعتقدها ولا زلت، وهي الخطة التي قررتها اللجنة العسكرية المختصة في أكتوبر سنة ١٩٤٧م عند اجتماع اللجنة العربية في منطقة عالية بلبنان، كانت التعويل على أهل فلسطين في الدفاع عن بلادهم، على أن تجهزهم البلاد العربية وتدربهم وتحصن قراهم، أي أن تضعهم في نفس الوضع الذي فيه الصهيونيون من حيث التحصن، ثم التعويل على المتطوعين، ثم تقف الجيوش على الحدود دون أن تدخل، وكانت هذه هي الخطة المثلى، ولكن حدث بعد ذلك وبعد أن شرع في تسليح أهل فلسطين تنفيذًا لهذه الخطة أن قدمت إحدى الدول الأجنبية (قيل إنها بريطانيا) مذكرة تحتج فيها على هذه الخطة، وبذلك وقف التسليح والتدريب، وبذلك عدل عن هذه الخطة المثلى.

لأن غرض أعداء قضية فلسطين كان إبعاد العناصر المؤمنة والمستميتة في القتال، ولأن العقيدة اليهودية والعقيدة الإسلامية عقيدتان متعارضتان فكان الإيمان بالعقيدة أول سلاح في هذه المعركة، ولهذا كان جهاد الأعداء إبعاد العناصر المقتدرة والمؤمنة والمستميتة عن ميدان القتال، وأهل فلسطين كانوا أكثر إيمانا واستماتة في الدفاع عن بلادهم، وكذلك العناصر المؤمنة بقضية فلسطين، مثل الإخوان وغيرهم من المتطوعين، وهؤلاء قُصِد إبعادهم عن الميدان ولا يبقى في البلاد إلا اليهود، وبدأت السياسة تلعب دورها والمجال لا يتسع كثيرًا لشرح أساليب السياسة التي اتُبِعت في فلسطين”.

جانب من متطوعي الإخوان في حرب 48
جانب من متطوعي الإخوان في حرب 48

كيف تم إجهاض الجهاد؟

فإذا أردنا معرفة كيف تم إجهاض الجهاد بفلسطين بإبعاد العناصر المؤمنة من المتطوعين، خاصة المجاهدين المتطوعين من مصر صاحبة النصيب الأكبر والمؤثر منهم حينذاك، فلابد من الحديث عن العلاقة بين السلطة المصرية والإخوان المسلمين قبل وبعد وأثناء معركة فلسطين 1948م والتي شابها عدة مواقف متناقضة ولا يُفهم منها إلا أنها بئر صريح من الخيانة في حق قضية المسلمين المركزية حينئذ ألا وهي قضية فلسطين ومسيرة الجهاد هناك.

  • العلاقة بين الإخوان والسلطة في مصر قبل معركة فلسطين 1948م

بداية الأمر بعد أن رفض العرب قيام دولة إسرائيل المزعومة، أعلن النقراشي أنه سيحمي المجاهدين الفلسطينيين ممثلين في مفتي فلسطين سماحة الحاج أمين الحسيني رحمه الله، الذي نزل إلى أرض مصر هو وابن أخيه القائد الشهيد عبد القادر الحسيني في عام ١٩٤٦م، حيث جاؤوا يجهزون لمعركتهم الفاصلة لاستنقاذ وطنهم السليب فلسطين، وأعطى تصريحًا للإخوان بجمع مختلف الأسلحة والمفرقعات اللازمة لهذه المعركة الفاصلة وتزويد الهيئة العربية العليا بها. وقد أدى الإخوان المسلمون هذا الدور على أحسن ما يكون الأداء وأفضل. كما صرّح لهم النقراشي بالتدريب على استعمال الأسلحة والمفرقعات على أرض مصر دون حظر أو قيد، حتى يمكنهم من المساهمة إيجابيا في تحرير فلسطين، مع إخوانهم من رجال الهيئة العربية العليا.

الملك فاروق والنقراشي باشا
الملك فاروق والنقراشي باشا

كل هذه الشواهد والأعمال جعلت الإخوان المسلمين يطمئنون تمامًا إلى صدق النقراشي باشا في كل ما يفعل أو يقول، فوقفوا بمتطوعيهم جنبًا إلى جنب مع قوات الجيش المصري مضحين بكل مرتخص وغال كما وضحنا في تقريرنا السابق.

  • توتر غير مبرر من السلطة المصرية أثناء المعركة (الصفعة الأولى في وجه مسيرة الجهاد)

بدأت المحنة بعد قبول الدول العربية الهدنة الأولى والثانية، حيث استطاع العدو خلال الهدنة الأولى جلب أنواع جديدة من الأسلحة الثقيلة والطائرات الضخمة، وحين آنس اليهود في أنفسهم القوة والإعداد ضربوا بالهدنة الثانية عرض الحائط. فبعد أن كان بين قوات الجيش المصري وبين تل أبيب عدة كيلومترات فقط، اشتد الضغط على خطوط الجيش الأمامية، مما اضطر قيادته إلى تقصير خطوطه والتخلي عن عدة مناطق منها المجدل وأسدود والتجمع في منطقة رفح-غزة، تاركين خلفهم قوة قوامها خمسة آلاف جندي محاصرة في الفالوجا، لم تستطع الإفلات واللحاق بالجيش المنسحب إلى غزة دون سبب ظاهر.

والغريب أن تصدر الأوامر بالانسحاب من هذه المناطق الشاسعة دون أن يبذل الجيش المصري أي مجهود في ضرب فصائل العدو التي أخذت تقطع الطرق على إمداداته، ودون أن يتعرض الجيش لهجوم جدي يضطر بسببه إلى الانسحاب.

الأمل في متطوعو الإخوان للسيطرة على الموقف

ولم يعد هناك من أمل في إنقاذ فلسطين، بعد أن أصبحت قوة الجيش كلها متجمعة في منطقة رفح-غزة بأوامر عليا، ولواء الفالوجا الذي كان مقررًا أن يحتل بئر سبع محاصر في الفالوجا، لا يستطيع حراكًا. وتركز الأمل في أن يقوم متطوعو الإخوان بهذا الواجب الكبير وهو فك حصار الفالوجا، وقد تقدموا فعلًا إلى قيادة الجيش بهذا الرأي الذي وافق عليه اللواء المواوي، وكتب إلى كل من الأمانة العامة للجامعة العربية وإلى رئاسة أركان الحرب يطلب تجنيد كتيبتين من  ١٦٠٠ من المتطوعين الإخوان عن طريق المركز العام وإرسالهم فورا إلى الميدان ليتمكن من السيطرة على الموقف.

يقول الصاغ محمود لبيبقائد منظمة شباب فلسطين والمسؤول عن إرسال هاتين الكتيبتين-في هذا الأمر أثناء شهادته في قضية السيارة الجيب :

قصدت مركز الإخوان وطلبت واحدًا من كل شعبة بشرط أن يكون غير متزوج وغير مرتبط بأي مسئولية أو تبعة، وفي مساء الأربعاء اتصلت بي جميع مناطق الإخوان تليفونيًا وسألوني عن مكان التدريب وفي صباح الخميس علمت أن النقراشي باشا رفض هذا الطلب!!

رفض النقراشي هذا الطلب دون أدنى تفسير واضح، لذلك كان هذا الموقف الغريب من النقراشي في أوائل فبراير عام 1948م، وأرجو من القارئ الكريم تذكر على هذا التاريخ جيدًا.

  • الصفعة الثانية والقاضية في وجه الجهاد بفلسطين

إن الموقف السابق للنقراشي غير المُبرر كان بداية أفول شعلة جهاد الإخوان بفلسطين، وقد خدم العدو الصهيوني بشكل مباشر ومؤثر. فبعد هزيمة الجيوش العربية مجتمعةً، وقبولهم بالهدنتين الأولى والثانية مع اليهود، لم يَعُد أمام اليهود من يقاوم وفيه أمل إلا المتطوعون وخاصة متطوعو الإخوان ذو النصيب الأكبر في المشاركة، ولكن جاء القرار السابق فعطل ما كان مُخطط له ولا حول ولا قوة إلا بالله.

إن دخول الجيوش العربية وتحملها مسئولية الاحتلال الشامل لفلسطين في حرب شاملة، ثم فشلها في ذلك، هو الذي عطل الاستمرار في تنفيذ ما اعتزمه الشيخ البنا من مواصلة إمداد المعركة بالمجاهدين حتى النصر، ولم يقتصر دور هذه الجيوش على إعلان الهزيمة وقبول الهدنة الدائمة في فلسطين الأمر الذي جعل إسرائيل حقيقة واقعة، بل إن النقراشي باشا كلف الجيش المصري باعتقال جميع متطوعي الإخوان من المجاهدين على أرض فلسطين، كما قررت حكومة مصر في هذا الظرف الرهيب حل الإخوان المسلمين في مصر في أوائل ديسمبر 1948م واعتقالهم لعرقلة استمرار السيل المتدفق من المجاهدين، فكانت تلك بمثابة الضربة القاضية لمسيرة الجهاد.

حل جماعة الإخوان

انهزم جيش مصر والجيوش العربية مجتمعة، وضاعت فلسطين تحت سمع النقراشي باشا وبصره، ولكنه بدلًا من أن يعد إلى جولة ثانية وأن يتخذ من الجولة الأولى عبرًا ودروسًا فيقوّم الخطأ، ويقوي الصواب، انقلب على أخلص من استبسلوا مع جنوده في الجولة الأولى حبسًا، واعتقالًا معلنًا حل جماعتهم، وتحريم قيام جماعة في مصر تدعو إلى ما تدعو إليه جماعتهم حتى لا تقوم لهم قائمة. فبعد قرار الحل سارت الأمور كالتالي:

  • في الداخل المصري: اعتقل النقراشي باشا كل أعضاء مكتب الإرشاد، إلا المرشد العام الذي حددت الحكومة إقامته في منزله، واعتقل جميع أعضاء الهيئة التأسيسية للإخوان، والأعضاء المعلومة عضويتهم لدى الحكومة من الإخوان المسلمين، وقدرًا قادة النظام الخاص.
  • في فلسطين: أصدر النقراشي باشا أمرًا إلى قادة الجيش المصري في فلسطين باعتقال جميع متطوعي الإخوان وهم في جبهة المواجهة مع العدو على أرض فلسطين، يقاتلون العدو، ويحمون خطوط الجيش المصري، وقد منع سفر أي متطوعين جدد إلى الجبهة، رغم استصراخات قيادة الجيش على الجبهة بطلب المزيد منهم. فلم يملك قادة الجيش إلا تنفيذ الأمر، وإنشاء معسكرات اعتقال في الجبهة تضم كل متطوعي الإخوان المسلمين.

على كلٍ فقد حدث ما حدث وكانت تبعاته قوية على الطرفين: الإخوان، والسلطة متمثلة في النقراشي.

ما حجج النقراشي الواهية على قرارات الحلّ والاعتقال؟!

على الرغم من التعاون الوثيق بينه وبين الإخوان المسلمين، قبل وبعد وأثناء معركة فلسطين 1948م، وعدم وجود أي خلاف على الإطلاق فيما يتعلق بهذه القضية بين الحكومة وبين الإخوان، لا من حيث الفكر، ولا من حيث الأمن، وعلى الرغم من تصريح الحكومة للإخوان، بجمع وحيازة واستعمال الأسلحة والمفرقعات تصريحًا عمليًا ولكنه غير مُسجل في الأوراق، من فرط الثقة بين الطرفين، فيما يقتضيه العمل لأجل قضية المسلمين المركزية؛ قضية فلسطين. قد جاءت الحجة الواهية المكذوبة التي أعلنتها الحكومة على الناس تبريرًا لقرار الحل على مرحلتين هما:

  • ضبط بعض الأسلحة والمفرقعات في عزبة الشهيد الشيخ محمد فرغلي واعظ الإسماعيلية، وقائد الإخوان في فلسطين. رغم علم الحكومة بأن المخزن كان لازمًا لإمداد المتطوعين في فلسطين بالسلاح والمفرقعات حسب الحاجة، أي أنه كان مركزًا من مراكز تموين المجاهدين في المواقع الخلفية للمعركة.

وقد اتخذت الحكومة هذه الحجة الباطلة ذريعة لإطلاق قرار بحل الإخوان في منطقة قنال السويس.

  • ضبط سيارة جيب بها بعض الأسلحة والمفرقعات، والأوراق التنظيمية للنظام الخاص للإخوان المسلمين، أمام منزل أحد الإخوان في منطقة العباسية، وقد اتخذت الحكومة هذه الحجة لإعلان الأمر العسكري في 8/12/1948م القاضي بحل الإخوان المسلمين في جميع أنحاء القطر ومصادرة أملاكهم، واعتقال جميع أفرادهم، وتجريم قيام نشاط يهدف إلى تحقيق مبادئهم بأي صورة من الصور أو شكل من الأشكال.

ما الأسباب الرئيسية لحلّ الإخوان والتنكيل بهم على يد النقراشي؟

في رأيي أن كلمة السرّ في التنكيل بالإخوان حينئذٍ كانت (النظام الخاص)، لكن ليس كونه جهازًا عسكريًا يمتلكه الإخوان وذو صبغة سرية أبدًا، ودليلي في ذلك: أن النظام الخاص لم يكن فكرة جديدة ابتدعها الإخوان في ذلك التوقيت، فكل القوى السياسية الموجودة بالساحة المصرية في ذلك الوقت كان لديها أجهزة عسكرية سرية مثل “الوفد” و”السراي” و”مصر الفتاة”، وعرف وقتها أصحاب الياقات الزرقاء والحرس الحديدي، وكان هدفها جميعًا مقاومة الاستعمار الإنجليزي لمصر.

لكن التنكيل الذي أصاب الإخوان، جاء بسبب أن طبيعة النظام الخاص طبيعة عسكرية إسلامية معًا لا ينفك أحدهما عن الأخرى، فمبادئ وأهداف هذا النظام هي من أهداف ومبادئ الجماعة نفسها والتي منها:

مقاومة الاستعمار ليس في مصر وحدها، بل توسعت أهدافه إلى تحرير بلاد الإسلام قاطبة من الاستعمار وأعوانه؛ وقيام دولة الإسلام التي تحكم بشريعة الله عزّ وجلّ.

مبادئ الاخوان

فلو اقتصرت أهداف النظام الخاص على مقاومة الاستعمار وفقط لهان الأمر على الحكومة، ولكن أنّا لتحرير بلاد الإسلام وقيام دولة الإسلام التي تحكم بشريعة الله أن تسمح لها حكومة علمانية تعمل تحت ظل الاستعمار!!!

على كلٍ فقد انشغل الإخوان بقضيتهم عن قضايا الوطن الإسلامي؛ عن قضية مصر وعن قضية فلسطين وعن سواهما من قضايا المصير وكان ذلك في حد ذاته هو الهدف المستهدف من حل الجماعة.

يُتبع…


المصادر:

  • كتاب نقاط فوق الحروف.
  • كتاب حقيقة التنظيم الخاص ودوره في دعوة الإخوان المسلمين.
  • كتاب التصويب الأمين مما نشره بعض القادة السابقين عن التنظيم الخاص للإخوان المسلمين.

عمّار إسماعيل

المستقبل ليس سيناريو مكتوبًا وعلينا فقط أن نقوم بتمثيله؛ بل هو عمل يجب أن نصنعه… More »

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى