لمحات في كتاب صهر الوعي.. معاناة الأسرى الفلسطينيين والحرب النفسية عليهم
هكذا استهل وليد دقّة كتابه (صهر الوعي) من داخل غياهب سجون الاحتلال. حيث يتحدث الكتاب عن معاناة الأسرى في سجون الاحتلال، والطرق النفسية التي يلجأ إليها المحتل لتفكيك الحركة الأسيرة وكسر قوتها.
فاعتبر الكاتب أن حل القضية الفلسطينية لن يتم إلا عن طريق تحرير الأسرى، وعدم الرضا فقط بمسكنات التبادل التي يلجأ إليها الصهاينة ضمن الاتفاقيات التي لا تنتهي، بل يتعلق الأمر بمواصلة النضال.
ناقش وليد قضية أخرى لا ينحصر وجودها في معاملة الأسرى، بل نجدها أيضًا مستخدمةً في الحرب على أرض الواقع ألا وهي إظهار ارتباك وتناقض السياسة الإسرائيلية، يرى وليد أن ذلك في الحقيقة ما هو إلا فوضى منظمة لتفكيك القوى الفلسطينية مؤسساتٍ وشعبًا، وخلق الوهم من خلال التفاوض الدائم، ووجدنا ذلك واضحًا بعد إيهامنا بالخلاف القائم في الجيش الصهيوني خلال تحرير رهائن “جباليا”؛ ليخرج الكيان الصهيوني بعد ذلك ويشير إلى أن هذا الخلاف لم يكن سوى مجرد تمثيلية من ضمن سياساتهم آنفة الذكر.
من خلال مشاهداته يؤكد وليد كذلك حرص الكيان الصهيوني بكل أنظمته على دراسة وتطبيق الأبحاث والطرق العلمية والتكنولوجية والنفسية؛ لإحكام طوق السيطرة، وقد تمت الإشارة إلى ذلك في كتب كثيرة مثل (عقيدة الصدمة) لـ”ناعومي كلاين” وغيرها.
لمحة عن الكاتب
الكاتب وليد دقّة هو أحد فلسطينيّ الداخل، كان مجاهدًا في صفوف الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، لم يكمل دراسته الجامعية والتحق بسوق العمل؛ لينخرط مع شعبه في رحلة الكفاح.
لاحقًا بعدما حُدِّدَت إقامتُه التحق بجامعة تل أبيب المفتوحة وحصل على درجة البكالوريوس في العلوم السياسية ثم الماجستير.
من أعماله: الزمن الموازي، يوميات المقاومة في جنين، صهر الوعي، حكاية سر الزيتون.
كتب وليد دقّة كتابه الذي بين أيدينا صهر الوعي من داخل سجن الجلبوع وهو الذي عاش خمسة وعشرين عامًا معتقلًا.
توفي هذا العام 2024م من أشهر مضت بعد معاناة مع مرض السرطان استمرت فترة ليست بالقليلة داخل سجون الاحتلال.
الصدمة كنموذج لصهر الوعي
على مدار العديد من السنين تمَّ استخدام الصدمة للسيطرة على الشعوب المراد إخضاعها حتى بدون احتلالها، حدث ذلك في دول أمريكا اللاتينية، وأساليب التعذيب التي تمَّ استخدامها في سجون العراق، ومع تزايد مقاومة الأسرى عبر إضرابهم عن الطعام لنيل حقوقهم والحرص على النضال الداخلي لمساندة المقاومة الخارجية؛ وجد المحتل أنَّ استخدام الصدمة هو السبيل الأسرع لكسر هذه المقاومة، ومن الخطوات التي أشار إليها وليد هي منع الملح وكل ما يساعد الأسرى في رحلة إضرابهم عن الطعام، كما لجأ المحتل إلى فصل الأسرى في سجون انفرادية أو شبه انفرادية؛ فحلول المقاومة الفردية محل مقاومة الجماعة يُخمد شوكة المقاومة.
سنة 2003م تم تعيين العُنصري “يعقوف جنوت” لقيادة إدارة السجون، والذي لم يدَّخِر جهدًا في تجهيز السجون الإسرائيلية بأحدث الوسائل لإحكام السيطرة على حياة الأسرى، كما عمل على توحيد سياسة إدارة السجون، وقام ببناء سجون جديدة لتستوعب العدد المتوالي من الأسرى منذ ذلك التاريخ، ومنذ تولّيه رئاسة السجون عَمد إلى افتعال مواجهة مع الأسرى كان من شأنها استتباب الأمر له وإخضاع المقاومة لأمره، حيث يرى وليد أن تلك المواجهات كانت مفتعلةً؛ لدفع الأسرى للإضراب عن الطعام، ووضع خطة فحواها “اللا جدوى” ليكون الإضرابَ الأخير.
وقد استغرق الإعداد لهذه الخطة الشيطانية عامًا كاملًا، تمَّ فيها أيضًا تركيب الزجاج في قاعات الزيارات، ذلك أنهم كانوا يعرفون جيدًا أن الأسرى سيُضْرِبُون عن الخروج لها، بالتالي يُفْقِدُونهم الدعم النفسي والمعنوي الذي يحصلون عليه من خلال الزيارات التي تُخفِّفُ عنهم وحدة السجن وظلام الأسر، ما يُسَهِّل على المحتل تنفيذ خطته.
لم تنحصر وسائل الصدمة داخل السجون فقط، بل كان لخارج السجون نصيب منها، من ذلك القصف غير المبرر واستخدام ترسانات الأسلحة لإحداث الصدمة عن طريق الرعب بالأصوات، في ذات الوقت الذي تتعالى فيه أبواق هؤلاء مطالبةً المقاومة بالتوقف حتى ننعم بالسلام وليتوقف هذا الجنون، ولكنه كان جنونًا استراتيجيًّا يستند لحسابات العقل.
الدور الإعلامي وغياب الوعي بالواقع
ساهم الراتب الكبير الذي يتقاضاه الأسير مقابل ما يتقاضاه خارج الأسوار في إضعاف الوعي بحجم المعاناة التي يتعرض لها هؤلاء، الأدهى أن تلك الأموال من أموال السلطة الفلسطينية التي تتلقى ميزانيات لذلك من الاتحاد الأوروبي والدول المانحة، فيظهر ذلك وكأنه تمويل لاحتجاز الأسرى والذي يصبُّ لصالح الكيان المحتل فيما بعد، ما يمكِّنُه من توفير احتياجات الأسرى، حيث يحصل على هذه الأموال حسب الاتفاقية الموقعة مع وزارة شئون الأسرى، وكالعادة يتنصَّل الكيان الصهيوني بذلك من أعباء احتجاز الأسرى، ويشمل ذلك أسرى قطاع غزة بالطبع، على الرغم أن ذلك يستوجب ملاحقة الكيان المحتل أصلًا، بسبب نقل أسرى من أرض محتلة لأرض أخرى، ما يُعَدُّ خرقًا للقانون الدولي.
من أساليب صهر الوعي كذلك خلق الفراغ القيادي؛ وذلك من خلال عزل أعداد كبيرة -وذلك من خلال الحواجز- بعيدًا عن القيادة، ما يسمح للمحتل بخلق قيادة بديلة تعمل مع -وليس ضد- إرادة السَّجَّان.
كما مُنِعَ أيُّ مظهر جماعي يجمع الأسرى معًا، كاستقبال أسير جديد أو حتى تقديم العزاء في الوفاة، وإمعانًا في فرض سياسة اللاوعي تمَّ منع الصحف العربية والسماح بقراءة الصحف العِبْرية فقط، عدا صحيفة واحدة، وأُتِيحَ التقاط محطات الراديو الصهيونية فقط، ومُنِعَ الأسرى من الاحتفاظ بصور القادة والشهداء.
كذا تمَّ فصل الأسرى أيضًا حسب المناطق، وعُيِّنَ لكل منطقة مختارٌ يقدم طلباتها، ما ساهم في منع اتحاد المطالب، فاهتم كل جمع بمشاكله دون المشاكل العامة، ولا مانع من تأجيج الصراعات بين الجموع المختلفة، ومن المحزن حدوث تلك الصراعات واستغلالها من قِبَل إدارة السجون لتحقيق أغراض الفصل، فعلى سبيل المثال حدث فصلٌ بين أسرى القوى الإسلامية وحركة فتح في سجون المنطقة الجنوبية، وقد استغلت بعض النفسيات المهزوزة -التي لا تعرف العدوَّ من الحليف- هذا الأمر وأحدثت صدعًا بين الفصائل المختلفة.
ومن تجليات ذلك: الصمت الذي ساد -إبان الحرب السابقة على غزة- من قِبَل الحركة الأسيرة، فاكتفوا بمشاهدة الشاشات الغارقة بالدم بما فيها قناة الجزيرة التي كانت ممنوعة قبل ذلك، فلم يكن مُفَاجِئًا قيام إدارة السجون برفع العلم الإسرائيلي في كل ساحات السجون.
صمتَ الأسير، واستجاب للسَّجَّان الذي عرف كيف يُرَوِّض الأسرى، كل ذلك سمح لـ”يعقوف جنوت” أن يقف في ساحة سجن جلبوع موجهًا حديثه لوزير الأمن الداخلي الإسرائيلي “جدعون عزرا” عام 2006م وعلى مسمع الأسرى، وقد قال والزهو يملؤه: «اطمئن؛ عليك أن تكون واثقًا بأنني سأجعلهم يرفعون العلم الإسرائيلي وينشدون التكفا»، وهذا ما يسعنا جميعًا القلق بشأنه.
حاول كتاب صهر الوعي تقديم لمحات عن واقع الأسرى الفلسطينيين في السجون الإسرائيلية، والأساليب النفسية المطبقة عليهم لتدمير هويتهم وقضيتهم، فرّج الله عن كل السجناء.
إعداد/ هاجر عمر