شذرات عن الاستعداد لرمضان وحُسن استغلال مواسم النفحات 

الحمد لله وبعد، 

الكلام عن التوبة وترك الذنوب وتطهير القلب وتزكيته قبل رمضان من الأهمية بمكان بحيث لا ينبغي أن يغفل عنه مسلم يحذر الآخرة ويرجو رحمة ربه جلَّ ثناؤه في موسم العتق من النار في رمضان -بلَّغنا الله وإياكم رمضان بقلب سليم- ولعل بعض المشايخ الكرام تكلم عن هذه المعاني وخصوصًا الشيخ محمد حسين يعقوب حفظه الله له دورة في شهر شعبان كل عام عن الاستعداد لرمضان وهن متوفرات على اليوتيوب ويسهل البحث عنها إن شاء الله، يتكلم فيها الشيخ عن هذه النواحي والحمد لله. 

لكن الكلام هنا عن الاستعداد النفسي قبل رمضان ثم كيفية استغلال رمضان كموسم للطاعة وسوق رائجة للأجر والتعرض فيه لرحمة الله والعتق من النار. 

بدايةً، من الجميل هذه الأيام أن يتهيأ المرء نفسيًّا بأن يطهر قلبه من أي حقد أو بغضاء أو غل لمسلم إلا لظالم ظلمه أو ظلم المسلمين.

ولاحظ أن الله تعالى شأنه حض على ذلك في ليلة النصف من شعبان -ولاحظ أنها قبل رمضان بخمسة عشر يومًا- ليكون العبد مستقبِلًا رمضان وهو سليم الصدر سويّ النفس فيثمر في قلبه -النقي من شوائب الغلّ والحسد والشحناء- ما يتعرض له من نفحات رمضان. 

في الأيام القليلة قبل رمضان يجمُل لمن كان حافظًا للقرآن أن يراجع محفوظه ولو كان قليلًا أو يقرأ تفسير المُفصّل مثلاً من كتاب المختصر في التفسير أو يقرأ بعض كتب التدبر الصغيرة التي تعينه على تدبر ما يحفظ من كتاب الله أو يسمعه في صلاته من إمامه وخصوصًا في قيام رمضان بإذن الله فليس للقلب حياة إلا بفهم ما ينزل عليه مما لو نزل على جبل لرأيته خاشعًا متصدعًا من خشية الله تعالى شأنه.

وحيث أن أنفع ما في رمضان هو تَدَارس القرآن المجيد.

فقد رأيتُ بفضل الله أن نتناصح ببعض الكتب اليسيرة المُعينة على فهم كتاب ربنا جلَّ ثناؤه وتدَّبره ثم العمل به حتى يرضى ربنا تعالى شأنه عنَّا ويرحمنا ولا يحرمنا فضله الجميل.

ولو امتَنَّ الله جلَّ شأنه على أحدنا بأن دخل رمضان وقد قرأ كتابًا من هذه الكتب -ويختار أيّها شاء- في شهر شعبان مع قراءة ولو ربع تفسير من كتاب المختصر في التفسير أو القرآن تدبر وعمل يوميًّا ثم استمر في رمضان وقرأ بعض هذه الكتب مع القراءة المستمرة في التفسير في رمضان فهذا خير كثير والحمد لله رب العالمين، ومن قرأهم جميعًا فهذا فضل الله يؤتيه من يشاء.

ولا تحقرنَّ من المعروف شيئًا ولو عشر صفحات يوميًّا، وأحب الأعمال إلى الله أدومها وإن قَلَّ، ولا حول ولا قوة إلا بالله، فلا يُستطَاع العلم إلا بالله ، وكذلك مما ينبغي الاستعداد به لرمضان أيضًا التعوّد على القيام بأن يصيب المرء نصيبًا من قيام الليل حتى يعتاد على التروايح والقيام في رمضان ففيها مغفرة ما تقدم من ذنبه ولا يفرّط في قيام رمضان من يعلم من حاله ما يعلم من ذنوب وتقصير ثم يرجو مغفرة ربه جلَّ ثناؤه، وقبل ذلك الدعاء بالتوفيق والبركة والسداد فالدعاء لا مثيل له فلولا الله ما اهتدينا ولا صومنا ولا صلينا. 

ولا ننس أن يتعاون أهل كل منزل على إغلاق التلفاز مطلقًا في رمضان طاعة لله ولا يسمحوا للصوص الآخرة أن يسرقوا منهم شهر عتق الرقاب من النار، وكذلك التدرب من الآن على التخفف من مواقع التواصل إلا لِمامًا في رمضان مما كان فيه فائدة دنيوية كالدراسة أو العمل أو ما فيه منفعة أخروية من متابعة شيخ ثقة ناصح في رمضان. 

وكذلك من الجميل معرفة أن رمضان شهر يقوى المرء فيه على نفسه لقلة غوائل الشيطان وكثرة الدواعي إلى الخير فيه فيستطيع المرء اكتساب مهارة أو صفة شخصية نبيلة بأن يتمرن مثلًا في رمضان على الحِلم فلا يغضب طيلة الشهر إلا لله وإذا غضب فليسكت ويستعذ بالله من الشيطان ويغير هيئته أو يتوضأ وهكذا  أو يتدرب على الصبر فإذا أراد فعل شيء صبر عليه ولم يعجل .أو على الكرم إن كان فيه نوع شُح بأن يبذل وينفق مما يحب ويحتسب الأجر تدريجيًّا حتى يكتسب صفة الكرم وهكذا في باقي الصفات النبيلة. 

وكذلك رمضان فرصة للتخلص من أي عادة سيئة بإذن الله، ففي رمضان من السهل جدًّا -إن شاء الله- أن ينظر المرء عادةً يشتكي منها أو يشتكي من حوله منها فيتركها في رمضان ويتعود على ما يضادها من العادات الحسنة كما ذكرت وهذا يكون سهلًا جدًّا في رمضان عن سائر السنة لتوافر دواعي الخير وقلة دواعي الشر.

ومن أبرع ما قالت العرب قول أبي ذؤيب الهذلي:

والنفسُ راغبة إذا رغّبتها *** وإذا تُردُّ إلى قليلٍ تقنعُ

ولا أقصد هنا المعاصي فهذا أمر مفروغ منه قبل الشهر إن شاء الله بل أقصد العادات الشخصية السيئة التي يريد المرء التخلص منها ولا يستطيع فإذا استعان بالله في رمضان أعانه الله بفضله. 

مثلًا من يريد التعود على ترتيب غرفته أو التخلص من العشوائية والإهمال والكسل أو غسل الأسنان أو النوم باكرًا أو التخلص من عادة سيئة مثل قضم الأظافر أو البول واقفًا أو علو الصوت بدون داع أو غيرها من العادات الصالحة سُلوكيًّا التي يتعود عليها بترك ما يضادها من العادات القبيحة.

وكذلك من يكسل عن سنة من السنن يعوّد نفسه من قبل رمضان وفي أثناء رمضان عليها حتى تصير جزءًا أصيلًا من يومه بعد ذلك طوال السنة إن شاء الله فلا يتصور مرور يومه من غيرها مثل من يكسل عن أذكار الصباح والمساء أو أذكار النوم أو دخول الخلاء أو سُنة السواك أو وِرد ثابت للقرآن أو الشرب جالسًا أو النوم على جنبه الأيمن أو الثناء على طعام والدته أو إخبار من يحبه في الله أنه يحبه أو حفظ الأدعية الموظفة مثل دعاء المطر ودعاء هبوب الرياح ودعاء رؤية ما يعجبه أو رؤية المبتلى وغيرها من السنن العظيمة والتي قد هُجِر بعضها ففي رمضان تكون النفس أكثر إقبالًا على الخير فيحملها المرء على النشاط حتى إذا انتهى موسم الحصاد وجد غلّة صالحة تدوم معه سائر العام. 

وأيضًا من المهم جدًّا في نظري هذه الأيام هو تجهيز خطة استغلال رمضان يعني كيف سيمر كل يوم إن شاء الله؟ 

ولا يشترط في التخطيط الكتابة بالورقة والقلم وإن كان هذا أفضل وكذلك لا يشترط تنفيذ الخطة بحذافيرها بل استغلال أكبر قدر من الفائدة والنظر للأجور العالية وما لا يُدرك كُلُّه لا يُترك جُلًّه أي مُعظمه.

وكُلٌّ حسب طاقته ووُسعه وعمله أو دراسته أو طبيعة حياته وما سيشغله في رمضان من أشياء ضرورية لابد منها في الحياة؛ يعني خطة الأب ليست كخطة الأم ليست كخطة الأبناء ومن يدرس ليست خطته كخطة من يعمل في وظيفة وهكذا.

كل امرئ يضع خطة تناسبه وأهم عامل فيها هو تنظيم الوقت واستغلال أوقات الفراغ أو الانتظار وهي والله فيها من البركة ما ينتهي فيها كتاب أو سماع محاضرات أو تسبيح أو تهليل أو مراجعة محفوظ وهكذا.

تنظيم الوقت يعني كل واحد ينظر إلى قوائم يومه على ماذا تقوم ثم يرتب أعمال رمضان عليها ويراعي عامل الصيام والإرهاق فيضع وِردًا للحوقلة حتى يقوى على ما لا قوة عليه إلا بالله فلا يُستطَاع شيء إلا بالله. 

فالطالب يضع خطة يوازن ويوازي فيها بين المحاضرات أو الامتحانات وبين العبادة فيكون بعد السحور وصلاة الفجر ورد الأذكار وما تيسر من القرآن مثلا ثم يستغل المواصلات في قراءة بضع صفحات من كتاب نافع أو مراجعة محفوظه ثم بعد العصر ورد من التفسير وقراءة صفحات أخرى ولو 10 صفحات ثم بعد التراويح ما تيسر من القرآن.

ويوازي بين ختمة الحسنات وختمة التدبر، وينظر مستواه في التفسير هل يبدأ بالمختصر أم أنهاه فيدخل على السعدي أم أنهاه فيدخل على ابن كثير مثلاً وهكذا، ويقرأ بعض كتب التدبر أيضًا المذكورة آنفًا والله يفتح على كل عبد بما يشاء من فضله.

والموظف يرتب يومه ما سيفعل بعد الفجر وماذا سيقرأ أثناء ذهابه للعمل أو فترات الاستراحة مثلا ثم بعد العصر ثم بعد التراويح وهكذا ولو قليل دائم.

وكذلك الأم ربة المنزل ماذا ستقرأ من القرآن والتفسير بعد الفجر وماذا بعد الظهر وماذا بعد العصر وتراجع محفوظها أو الأذكار أثناء عمل المنزل أو تستمع للقرآن أو محاضرة صوتية لشيخ بحيث تستغل وقت إعداد الطعام ثم ماذا بعد التراويح وهكذا.

وهذه نماذج سريعة عن تنظيم الوقت الذي ذكرته وكل امرئ أدرى بما يناسبه من التفاسير والكتب ومقدار القرآن الذي يقرأ في اليوم وكل امرئ بما كسب رهين ولا تحقرنّ من المعروف شيئًا.

وأيضًا تنظيم أوقات الزيارات والعزومات وصلة الأرحام حتى لا تستهلك رمضان كأنه مجرد مناسبة اجتماعية من غير إفراط ولا تفريط.

الخلاصة

أن التاجر الجيد هو من يختار مواسم الرواج ويرتب فيها بضاعته بأحسن ترتيب وأنت في رمضان كالتاجر فأحسن تنظيم بضاعتك المُزجاة فهو سبحانه يحب العمل الدائم ولو كان قليلًا والله كريم شكور يجزي على العمل القليل بالثواب الجزيل جلَّ ثناؤه، وبعد ذلك كل تقول له في سجودك في ليالي العشر الأواخر من رمضان عسى أن تدرك ليلة القدر بنبرة الأوّاه الذي يرى نفسه لم يوفّ سيده حقه يا أيها العزيز مسّنا وأهلنا الضر وجئنا ببضاعة مزجاة فأوف لنا الكيل وتصدق علينا إنك خير المتصدقين.

والحمد لله الغفور الشكور  وفقنا الله وإياكم لما يحبه ويرضاه.

د. مصطفى محمود البربري

مُهتمٌّ بالمجال الفكري الشرعي، وبالدراسات القرآنية، والطب في أوقات الفراغ ويُحِبُّ حُسن الظن، ويَبغضُ التصوُّراتِ… المزيد »

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى