غزة .. ورطة إسرائيل العميقة

“إسرائيل في ورطة خطيرة حقاً اليوم، وهناك أمل ضئيل في خروجها من الموقف الحالي وتمكنها من المضي قدماً”.
“ما حدث لسمعة إسرائيل هو أمر كارثي.. ولا أعتقد أنها ستتحسن حتى مع مرور الوقت”.

المتأمل في مجريات الأمور القائمة بين حركة حماس والكيان الصهيوني منذ السابع من أكتوبر في العام الماضي -والذي ما زال مستمرا حتى اليوم-، يرى بوضوح أن الخسائر الأكبر كانت للفلسطينيين، من حيث الضحايا من الرجال والنساء والأطفال والتي أصبح حصرها أمراً صعب التحقق بسبب المجازر التي يرتكبها الكيان الصهيوني في حق المدنيين بتكرار شبه يومي، ومن الدمار الذي شمل معظم المباني السكنية والمدارس التعليمية وحتى مراكز الإيواء والمستشفيات، وقد يظن البعض أن ذلك يعني أن الغلبة كانت للحكومة الإسرائيلية وقادتها العسكريين، ولكن الحقيقة هي عكس ذلك تماماً، فما تسببت به حركة حماس للكيان كان ضرراً شديد الأثر، أثّر في هيبته أمام دول العالم الأجمع، والحوار التالي يشرح الأبعاد المختلفة للخسائر الإسرائيلية منذ السابع من أكتوبر والتي ستستمر لفترة طويلة من الوقت، ويساعد في فهم مجريات الأمور بصورة أكثر واقعية.

من هو البروفيسور جون ميرشايمر؟

جون جوزيف ميرشايمر هو عالم سياسي وباحث علاقات دولية أمريكي، الذي ينتمي لمدرسة الواقعية، ولد في بروكلين في نيويورك، وبها تعلم، وفي الثامنة عشرة من عمره جُند في الجيش الأمريكي لمدة عامين، ثم درس في الكلية العسكرية ويست بوينت، وقد حصل ميرشايمر على الماجستير في العلاقات الدولية من جامعة جنوب كاليفورنيا، وحاز على شهادة الدكتوراه عام1980م، وشارك مع ستيفن والت أستاذ العلاقات الدولية بكلية جون كنيدي للدراسات الحكومية بجامعة هارفارد في تأليف ونشر بحث عن قوة اللوبي الإسرائيلي في الولايات المتحدة ودوره الرئيسي في رسم السياسات الخارجية الأميركية، وخاصة في الشرق الأوسط، إلا أن البحث قوبل بالعديد من الانتقادات من قبل اللوبي الإسرائيلي في أميركا والمتعاطفين مع إسرائيل مما دفع جامعة هارفارد إلى سحب اسمها عن الدراسة، ومع ذلك فقد نشر البحث في مجلة لندن ريفيو أوف بوكس بتاريخ 23 مارس 2006م، تحت عنوان اللوبي الإسرائيلي والسياسة الخارجية الأمريكية.

وقد قامت مجلة الشؤون الدولية بتعريف ميرشايمر بكونه أحد أشهر علماء السياسة في التاريخ، كما أن جون يعتبر شخصية عالمية في العالم الرقمي، حققت مناظراته على موقع اليوتيوب – والتي يبلغ عددها (19) مناظرة – مليون مشاهدة كحد أدنى لكل منها.

من هو توم سويتزر؟

توم سويتزر هو كاتب سياسي أسترالي، ولد عام 1971م في دالاس – تكساس ونشأ في سيدني، التحق بكلية سانت أوديسيوس في كيريبيلي، حيث كان بطلاً لسباقات المضمار والميدان في المدارس الأسترالية في عام 1989م، تخرج بدرجة ليسانس الآداب في التاريخ (مرتبة الشرف الأولى) في عام 1993م، وحصل على ماجستير في العلاقات الدولية في عام 1994م، وكلاهما من جامعة سيدني.

 وهو المدير التنفيذي الحالي لمركز الدراسات المستقلة CIS بأستراليا وهو مركز أبحاث السياسة العامة التحررية ومقره سيدني يركز على القضايا الليبرالية والذي أجري من خلاله الحوار التالي مع جون ميرشايمر في برنامج عابر القارات.

المحاور الأساسية للحوار

للتمكن من فهم مختلف الأبعاد التي تناولها لقاء توم سويتزر مع البروفيسور جون ميرشايمر، يمكن تقسيم المقابلة إلى ثلاث محاور رئيسية وهي على الترتيب كما يلي:

  • المحور الأول: العلاقة بين إسرائيل وحركة حماس وأحداث السابع من أكتوبر.
  • المحور الثاني: إيران في مواجهة الولايات المتحدة الأمريكية وإسرائيل.
  • المحور الثالث: إسرائيل في ورطة عميقة.
  • المحور الرابع: الفقرة النقاشية.
  • المحور الأول: إسرائيل في ورطة عميقة

أوضح البروفيسور جون ميرشايمر أن الهدف الأول الذي يسعى لتحقيقه من خلال هذه المقابلة الحوارية هو تحليل ما حدث منذ 7 أكتوبر 2023م (طوفان الأقصى)، وتبعيات ذلك على الطرفين.

 في البداية يؤكد جون على أن الخاسر الأكبر في هذه الحرب هو الكيان الإسرائيلي، وقد عبر عن ذلك في قوله:” إسرائيل في ورطة خطيرة حقاً اليوم، وهناك أمل ضئيل في خروجها من الموقف الحالي وتمكنها من المضي قدماً”.

 ويضيف أن الخاسر التالي في هذه الحرب هي الولايات المتحدة الأمريكية، وإن كانت خساراتها ليست في حجم الخسائر الإسرائيلية، وأن الرابح الحقيقي من هذه الحرب – وإن لم يكن ذلك محسوما حتى اليوم – هم الإيرانيون.

ولكي تتمكن إسرائيل من السيطرة كلياً على الأجزاء المحتلة من الأراضي الفلسطينية والتي تتمثل في كل من الضفة الغربية، وقطاع غزة، مع تساوي عدد السكان الفلسطينيين مع عدد السكان من اليهود فيها بما يقارب من (7.3) مليون إنسان لكل من الطرفين، يوضح جون أن الحكومة الإسرائيلية لديها أربع خيارات رئيسية وهي على الترتيب:

  • الأول: أن تصبح إسرائيل الكبرى ديمقراطية، وهو الأمر الذي لن يحدث لأنها لن تصبح دولة يهودية في حال تحقق ذلك.
  • الثاني: حل الدولتين، وهو الأمر الذي لم يعد ممكن الحدوث بعد أحداث السابع من أكتوبر.
  • الثالث: الفصل العنصري، وهو الأمر القائم في الأساس في الوقت الحالي.
  • الرابع: التطهير العرقي، والذي يعني القضاء على الفلسطينيين المتواجدين في الأراضي المحتلة كليا وتمكين الإسرائيليين فيها.

المحور الأول: العلاقة بين إسرائيل وحركة حماس وأحداث السابع من أكتوبر

ينتقل جون بعد ذلك إلى بيان الوضع الذي كان عليه قطاع غزة لفترة طويلة قبل حدوث (طوفان الأقصى)، فيصفه بكونه سجن كبير في الهواء الطلق، وذلك منذ العام 2005م، عندما قام رئيس الوزراء الإسرائيلي في وقتها (آرييل شارون) بسحب المستوطنين من القطاع ككل، وعمد إلى تركيز كافة الجهود الاستيطانية على الضفة الغربية.

 ومنذ ذلك الحين وحتى السابع من أكتوبر ظهر للجميع أن القيادة الإسرائيلية قادرة على إحكام سيطرتها على القطاع، بل إن (ببنيامين نتنياهو) كان يشعر بسعادة كبيرة لكون (حركة حماس) هي المسؤولة عن إدارة القطاع، وكان شديد الحرص على التأكد من تلقيها للتمويل المناسب وعملها بجد لتأمين حياة الفلسطينيين المتواجدين بداخله.

ويرجع جون الحقيقة السابقة إلى أن مساعي نتنياهو التي ترفض وبشدة حل الدولتين، وهو الأمر الذي يؤيده بل ويرغب في تحقيقه رئيس السلطة الفلسطينية الحالي (محمود عباس) مما جعله يشكل تهديداً حقيقياً لأهداف نتنياهو، فكان الحل هو القيام بدعم حركة حماس لعلمه برفضها التام لحل قيام الدولتين، ولكن وفي نفس الوقت حرص على إرسال رسالة مفادها أن الحكومة الإسرائيلية هي المسؤول الفعلي عن القطاع وذلك من خلال الحروب التي كانت تفتعلها إسرائيل في القطاع بشكل متقطع في السنوات الماضية والتي كانت تؤدي إلى مقتل الآلاف من الفلسطينيين.

 وعندما قامت حركة حماس في السابع من أكتوبر 2023م بالهجوم على الداخل الإسرائيلي، والقبض على عدد كبير من الرهائن قدر عددهم بما يقارب (240) رهينة، ومن ثم العودة مرة أخرى إلى داخل القطاع، شكل ذلك مفاجأة مذهلة للجميع وعلى رأسهم القيادة الإسرائيلية، التي عمدت سريعاً إلى تعزيز الوضع داخل الحدود الخاصة بها، ومن ثم الانتقال إلى الرد العنيف على الهجوم السابق، والذي ما زال مستمراً حتى الوقت الحاضر.

والسؤال هنا وهو:” ماهي أهداف إسرائيل الحقيقية من وراء هذا الهجوم”؟

والإجابة على هذا السؤال يمكن توضيحها من خلال تقسيم الأهداف إلى جزأين أساسيين، الأول هو الأهداف المعلنة التي تتناولها مختلف الوسائل الإعلامية حول العالم بالشرح والتحليل والتي تتمثل في التمكن من القضاء على حركة حماس نهائياً، والتمكن من استعادة الرهائن الإسرائيليين.

والثاني هو الهدف الحقيقي وغير المعلن والذي يتمثل في القيام بعملية تطهير كلي للفلسطينيين المتواجدين داخل قطاع غزة، وأسباب هذا الهدف كما أوضحها جون هي التالي:

  • أولاً: هذه هي الطريقة الوحيدة التي يمكن للحكومة الإسرائيلية من خلالها الخروج من الفصل العنصري.
  • ثانياً: التطهير هو الوسيلة الوحيدة التي يمكن لإسرائيل من خلالها القضاء على حركة حماس في الواقع.

ينتقل جون بعد ذلك إلى بيان الانتقادات الموجهة إلى الحكومة الإسرائيلية عموماً وإلى (بنيامين نتنياهو) خاصة، ومن أبرزها عدم امتلاك خطة حقيقية لما سيؤول إليه الوضع في قطاع غزة عند تحقق وقف إطلاق النار، وهو الأمر الذي يؤكده القادة العسكريين في جيش الدفاع الإسرائيلي من خلال شكواهم المستمرة من أن نتنياهو لا يمنحهم أي فكرة عما ستكون عليه التسوية السياسية النهائية والتي تمكنهم من تحديد الطريقة الصحيحة للتعامل مع حركة حماس والفلسطينيين داخل القطاع خلال الوقت الحالي.

والحقيقة التي تكمن وراء ذلك هو أن نتنياهو لا يرغب في وجود نهاية حقيقية للحرب الحالية، واستمراره في السعي لتحقيق التطهير العرقي داخل القطاع من خلال العديد من الممارسات البشعة من أبرزها ما يلي:

  • قتل أعداد كبيرة من الفلسطينيين الأبرياء لا ينتمون إلى حركة حماس.
  • تحويل داخل قطاع غزة لمكان غير صالح للعيش.

يضيف جون أن كافة الأهداف التي سعت الحكومة الإسرائيلية لتحقيقها قد باءت بالفشل، بل وأصبح جيشها عالقاً داخل حدود القطاع، وما زاد من صعوبة الموقف الإسرائيلي هي مشكلتهم الحالية مع حزب الله في لبنان، والتي قامت بالعديد من الهجمات على الشمال الإسرائيلي دعماً لحماس، وهو الأمر الذي أجبر ما يتراوح بين (100-60) ألف مواطن إسرائيلي على النزوح من الشمال إلى وسط إسرائيل لتفادي هجمات حزب الله، والتي أعلن الأخير عن استمرارها حتى انتهاء الحرب الحالية القائمة في القطاع.

ومن المشكلات الحقيقية التي تتعامل معها الحكومة الإسرائيلية في الوقت الحاضر هي مشكلة الحوثيين في اليمن، فهم يصوبون أسلحتهم في اتجاه إسرائيل، بل وتمكنوا من إيصال أول صواريخهم إلى داخلها، وعلى الرغم من كونه واحداً فقط إلا أنه نذير لما هو قادم وفق تعبير جون.  

المحور الثاني: إيران في مواجهة الولايات المتحدة الأمريكية وإسرائيل

يستهل البروفيسور جون ميرشايمر هذا المحور بتوضيح أن الحرب القائمة بين الولايات المتحدة الأمريكية وإسرائيل من جانب وإيران من الجانب الآخر كانت دائماً حرباً في الظل، وكان الأمريكيون دائماً شديدي الحرص على ألا تتصاعد هذه الحرب، ولم تكن لديهم الرغبة في مشاهدة حرب قائمة بين إسرائيل وإيران، وهو الأمر الذي كانت ترغب فيه الأخيرة أيضاً فلم يكون لهم أي مصلحة من التصعيد، وعلى عكسهما فقد كانت إسرائيل دائماً هي الطرف الراغب في عملية التصعيد، حيث أن بنادقها ظلت موجهة لإيران لفترات طويلة.

وقد استمر هذا الأمر حتى أحداث 1 إبريل 2024م، عندما قام الإسرائيليون بمهاجمة السفارة الإيرانية في دمشق، وهو الأمر الذي أجبر الحكومة الإيرانية على التصعيد وأوضح المسؤولون فيها أن ما حدث لن يمر مرور الكرام وأن الرد عليها سيكون قوياً، مما أشعر الولايات المتحدة بالقلق الشديد، وللحرص على جعل الضرر الناتج محدوداً قدر الإمكان بدأ التنسيق بين كل من الولايات المتحدة وإيران من خلال الوسطاء بين الطرفين، للتأكد من أن الهجوم الإيراني القادم سيكون محدوداً، وسيتم الإعلان عن موعده قبل التنفيذ، وأن الطرف الآخر سيكون قادراً على التعامل معه، مع التأكيد على ضرورة الابتعاد عن الأماكن المأهولة بالسكان خلال الهجوم، وأن يتركز الرد الإيراني على الأهداف العسكرية الإسرائيلية فحسب.

 وافقت الحكومة الإيرانية على ذلك، وفي ساعة التنفيذ في يوم 14 إبريل 2024م، عمدت إلى إنشاء خط ساخن غير رسمي بين الولايات المتحدة الامريكية وبين إيران عن طريق وساطة عمانية، لأن كلا الطرفين كانت لديهم الرغبة في إبقاء الهجوم تحت السيطرة، ومع البدء الفعلي للهجوم انخرط الأمريكيون بعمق في الدفاع عن إسرائيل، وشارك في ذلك العديد من الأطراف الأخرى، مثل البريطانيين، والفرنسيين، وكل من المملكة العربية السعودية، والأردن، سعت جميعها للتعامل مع هذا الهجوم.

على عكس المتوقع شكل هذا التضامن مشكلة كبيرة لإسرائيل، وذلك بسبب افتخارها الدائم بقدرتها على التعامل باستقلالية تامة مع أي خصم يقرر مهاجمتها، ولكن الحقائق التي أثبتت بالأدلة هي أن نصف الصواريخ والطائرات الإيرانية المسيرة أسقطت بواسطة قوات الدفاع الأمريكي وليس من قبل إسرائيل، وقد كان في إطار سعي الحكومة الأمريكية لإبقاء الأمور تحت السيطرة بالقدر الممكن.

ومع حلول 19 إبريل 2024م، قرر الإسرائيليون الرد على الهجوم الإيراني الأخير، وكانت تتملكهم الرغبة في تنفيذ هجوم مضاد كبير المدى، وهو الأمر الذي كانت ترفضه الولايات المتحدة قطعياً، ونتيجة لضغطها على إسرائيل انتهى الأمر برد محدود للغاية تمثل في إسقاط رادار عسكري إيراني -واحد فقط- في منطقة أصفهان، وكانت هذه هي نهاية الحرب الأخيرة بين إسرائيل وإيران باقتناع من الجانب الأول أنه من حقق الانتصار الأكبر في 14 إبريل 2024م.

المحور الثالث: إسرائيل في ورطة عميقة

ترتب على الأحداث السابقة العديد من العواقب لكافة الجهات التي تتمثل في إسرائيل، والولايات المتحدة الأمريكية، بالإضافة إلى إيران، ويعتبر الخاسر الأكبر بين الجميع هو الطرف الأول، ويرجع البروفيسور جون ميرشايمر هذا الأمر لمجموعة من الأسباب هي على الترتيب التالي:

  • عودة الإسرائيليين إلى قطاع غزة مرة أخرى بعد خروجهم، عام 2005، وعدم امتلاكهم طريقاً للخروج منها خلال الوقت الحالي.
  • لم يعد الجيش الإسرائيلي يمتلك هيمنة التصعيد تجاه كل من حزب الله اللبناني، وإيران.
  • أصبحت إسرائيل محاطة بعدد كبير من الأعداء الراغبين في القضاء عليها، ولديهم أعداد متزايدة من الصواريخ الفعالة والطائرات المسيرة.
  • تحول إسرائيل إلى دولة منبوذة، خاصة بعد قضيتها في محكمة العدل الدولية والتي رفعت من قبل دولة جنوب أفريقيا.

من الأمور التي أضافها جون في توضيح النقطة الأخيرة أنه بعد القيام بإجراء استطلاع للرأي داخل الولايات المتحدة الأمريكية – الحليف الإسرائيلي الأول – وكانت النتيجة صادمة، حيث أن ما يقارب من (57%) من الأمريكيين – معظمهم من الديمقراطيين-، يرون أن ما ترتكبه إسرائيل في حق فلسطيني قطاع غزة هو إبادة جماعية، ويؤكد:” ما حدث لسمعة إسرائيل هو أمر كارثي.. ولا أعتقد أنها ستتحسن حتى مع مرور الوقت”.

أما عن خسارة الولايات المتحدة الأمريكية فهي كما أشار جون ليست بهينة، فبعد خوضها لعدد كبير من الحروب أصبح من مصلحتها أن يحل السلام في الشرق الأوسط، فهي غير راغبة في حرب جديدة خاصة مع إيران، وترغب في تركيز كافة جهودها على التهديد الحالي الأكبر المتمثل في الصين، وهو الأمر الذي أصبح صعب التحقق مع الحرب الروسية القائمة في أوكرانيا، ثم الحرب التي ولدتها إسرائيل في قطاع غزة، وترتب عليها التصعيد في منطقة الشرق الأوسط ككل.

وحتى السابع من أكتوبر كانت الولايات المتحدة حريصة على إقامة علاقات مقربة مع أكبر قدر ممكن من دول الشرق الأوسط، لمنع حدوث تقارب بينهم وبين كل من روسيا التي تتواجد فعلياً الآن في الشرق والأوسط، والصين التي تسعى للدخول إلى تلك المنطقة تدريجياً من خلال الأنشطة التجارية، وإقامة علاقات جيدة مع كل من إيران، والمملكة العربية السعودية، ونتيجة للأحداث الواقعة في غزة خلال الوقت الحاضر، فإن كافة الجهود التي قامت أمريكا ببذلها مع دول الشرق الأوسط خلال السنوات الأخيرة باءت بالفشل.

أما عند ما حققته إيران من هذه الحرب فهو أن تهديدها لكل من الولايات المتحدة وإسرائيل أصبح أكبر، ففي الوقت الحاضر يقوم الإيرانيون بتخصيب ما يقارب من (60%) من اليورانيوم، أي أنها تقف على بعد نسبة (30%) لكي يصبح بإمكانها تحويله إلى قنبلة نووية وهو أمر يمكنها إنجازه بكل يسر، وقد كانت أحداث إبريل الماضي سبباً في تحفيز الجهد الإيراني لإتمام ذلك في أقرب وقت.

كما أن إيران تعمل مع وكلائها في المنطقة مثل حركة حماس في غزة، وحزب الله في لبنان، والحوثيون في اليمن، والميليشيات المسلحة في كل من سوريا والعراق، لتحقيق التأثير الأكبر في المنطقة، ومهاجمة كل من الولايات المتحدة وإسرائيل دون هجوم مباشر منها، وفي نفس الوقت تبقي إيران علاقاتها قوية مع أكبر أعداء الولايات المتحدة، روسيا والصين، وهو ما يجعل محاولات الأولى في إضعاف إيران ومحاولة السيطرة عليها أمراً مستحيل التحقق، وهو الأمر الذي يشعر الإيرانيين بقدر كبير من الراحة، وعلى الرغم من العقوبات التي فرضت عليها، فإن تأثيرها الحالي أصبح ضعيفاً حد التلاشي، وعند النظر إلى كافة المعطيات السابقة نجد أن الرابح الأكبر من كافة هذه الأحداث كانت أيران.

المحور الرابع: الفقرة النقاشية

تتمثل هذه الفقرة في أسئلة حوارية بين المقدم توم سويتزر وبين البروفيسور جون ميرشايمر، يحاول الأول من خلالها الدفاع عن الكيان الإسرائيلي من خلال التشكيك في بعض الحقائق التي أوردها جون خلال الجزء السابق، ومن أبرز الأسئلة التي تناولتها هذه الفقرة ما يلي.

-” ألا تبالغ في وجهة نظرك بشأن النظرة الأمنية القاتمة لإسرائيل، فهي – وإن لم يتم الإعلان عن ذلك رسميا – تمتلك أسلحة نووية تمكنهم من الدفاع عن أنفسهم ضد أي هجوم أجنبي”؟

= ” لا شك أن الأسلحة النووية هي الرادع المطلق، ولكن الأمر هو ان إسرائيل تمتلك مشكلة داخلية، فيمكن أن يتكون نظرية توم صحيحة في استخدام الأسلحة النووية كرادع إذا كانت الحرب قائمة بين إسرائيل وبين إيران أي قائمة بين دولتين، ولكن حماس ليست دولة، بل هي فصيل سياسي يقع داخل حدود إسرائيل الكبرى، وما تقوم به يمكن أن يوصف بالتمرد، أو بتنفيذ عصيان مسلح، ولا يمكن للأسلحة النووية أن تقدم حلاً في هذا الصدد”.

-” ألسنا نشهد اتجاهاً أوسع في الشرق الأوسط، بين وكلاء إيران في المنطقة – حزب الله والحوثيين – وبين المملكة العربية السعودية ودول الخليج السنية، أليست هذه هي القضية الأكبر، وألا يساعد ذلك إسرائيل، بسبب وجود حرب أهلية قائمة في المجتمع الإسلامي في العالم العربي”؟

=” كيف يمكن أن يكون الخلاف الواقع في العالم العربي مساعداً لإسرائيل في حل مشكلة غزة؟ وكيف يمكن لذلك أيضاً أن يكون عاملاً مساعداً في حل مشكلة الصواريخ التي تطلقها حماس، وحزب الله، والحوثيين، على إسرائيل؟”.

-” تعتقد الحكومة الإسرائيلية في الوقت الحالي أن الهجوم البري الشامل على رفح سيمكنهم من القضاء الكلي على حركة حماس، وهو الأمر الذي أنكرت إمكانية تحققه، ولكن منتقديك يقولون إن حماس تسببت في عمليات تشويه الأجساد، والتدمير، وعمليات الاغتصاب، وقتل الأطفال في السابع من أكتوبر، ولذلك يجب سحقها، وإذا استمرت حماس في سيطرتها فسوف تكون هي المنتصرة”

=” قد يرى الإسرائيليون أن حماس بحاجة إلى التدمير، ويعللون ذلك بأحداث السابع من أكتوبر، ولكن الحقيقة هي أنهم لن يتمكنوا من ذلك، ففي الوقت الحالي كما تشير العديد من الصحف اليومية فقد عادت حماس للحياة في شمال غزة، وأعاد الإسرائيليون إرسال القوات العسكرية للتعامل معهم، وقد قامت كل من صحيفة نيورك تايمز، وصحيفة وول ستريت بنشر مقالات تشير في مضمونها إلا أن هزيمة حماس أو القضاء عليها تكاد تكون من المستحيلات، وهو ما يجعل من التطهير العرقي أمراً شديد الجاذبية للإسرائيليين كونه يحل مشكلة الفصل العنصري”.

-” العديد من المُشرِّعين الديمقراطيين الداعمين جداً لإسرائيل، دعوا إلى استبدال نتنياهو، إلى أي مدى ستتغير الأمور في غزة، والعملية العسكرية الإسرائيلية فيها، إذا استبدلت فعليا”؟

=” لن يتغير شيء على الإطلاق! فهذا الجدال القائم في الولايات المتحدة من قبل اليهود الأمريكيين، الليبراليين، الذين يعتقدون أن نتنياهو هو حالة شاذة، وإذا تمكنا من التخلص منه واستبداله بشخص آخر، فإن إسرائيل ستعيش في سعادة دائمة، وهي حجة حمقاء تماماً، فمن الواضح ان نتنياهو وحكومة الحرب الخاصة به، والتي يتكون معظمها من نخبة الأمن القومي في إسرائيل اليوم، يتفقون مع السياسية التي يطبقها نتنياهو في الوقت الحاضر، ولذلك فأن تغييره لن يحدث أي فرق”. 

كما تناولت الفقرة النقاشية العديد من الأسئلة التي طرحت من قبل الصحفيين والجمهور الحاضر، وقد أجاب عنها البروفيسور جون ميرشايمر بدقة، ومن أبرز هذه الأسئلة ما يلي.

-” لقد قلت لعدة مرات أن إسرائيل عالقة في غزة، ولا يمكنهم الخروج، لماذا هم عالقون، ولماذا لا يستطيعون الانسحاب”؟

=” لقد قال الإسرائيليون بأنهم لن يغادروا غزة، ولديهم النية بالبقاء هناك، وهو خيارهم، قد لا يعجبكم الأمر في الوقت الحاضر، ولكن هذا هو القرار الذي قاموا باتخاذه، ويجب عليكم أن تتذكروا أنهم أولا لم يتمكنوا من هزيمة حماس، وثانيا يجب التساؤل عمن سيدير المكان في حال انسحابهم، وهو الأمر الذي يدفعهم للبقاء، كيف سيمكنهم تحقيق ذلك؟ هذا ما سوف نراه، سوف نرى كم من الجنود والقوات ستترك في غزة، وأين ستكون أماكن انتشارها، وكيف ستقوم بالتصرف، هذا ما سوف نراه، لكنهم الآن عالقون”.

-” في كل العقود التي كنت تتابع فيها هذا الصراع وهذا الوضع عن كثب، في أي مرحلة تعتقد أن إسرائيل تتواجد حاليا؟ لقد قلت بأنهم يخسرون على مستوى السمعة والسياسة، ولكن على وجه التحديد فيما يتعلق بحرب المعلومات، وقدرتهم على نشر المعلومات المضللة، هل تعتقد أن هذا يختلف من حيث استعداد الناس، أو استعداد الغرب بصفة عامة لتصديق كل ما نشر”؟

=” هذا سؤال مثير للاهتمام، فهو يتعلق بالكيفية التي تروى من خلالها  القصة، ولقد تمكن الإسرائيليون من إحكام الرواية وسردها بقوة حتى أواخر الثمانينات، ثم ظهرت مجموعة جديدة من المؤرخين الإسرائيليين عرفت باسم المؤرخين الجدد، ولأنهم كانوا في مرحلة الشباب فسهل ذلك عليهم الوصول الأرشيف، وحصلوا على السجلات التي تظهر الكيفية التي نشأت بها إسرائيل، وما ترتب على ذلك هو نسف كافة الأساطير المعروفة حول كيفية نشأة إسرائيل، وقد أظهروا أيضا صورة الإسرائيليين  شديدة السلبية، وكان ذلك بداية المشاكل الحقيقية.

بدأ الناس -خاصة النخبة- يفكرون بشكل مختلف عن إسرائيل، والسلوك الذي تقوم به، ومع ظهور وسائل التواصل الاجتماعي والانترنت، أصبح الأمر كارثة تامة لإسرائيل، فقد أصبح الجميع قادرون على رؤية حقيقة ما يحدث، في الوقت الذي يقوم فيه الإسرائيليون بأمر لافت للنظر، وهو تصوير أنفسهم أثناء ارتكابهم لأفعال فظيعة بحق الفلسطينيين، ثم يضعونها على الانترنت، وفيما يتعلق بقصة الإبادة الجماعية، إذا كنت تريد إثبات أن إسرائيل مذنبة بارتكاب جريمة الإبادة الجماعية، فعليك القيام بأمرين، الأول هو تقديم دليل حقيقي على النية لذلك، وثانيا تقديم أدلة تثبت موافقة التصرفات والأفعال الإسرائيلية لهذه النية.

وفيما يتعلق بالنية فإن القادة الإسرائيليون من جميع الجهات بما فيهم (بنيامين نتنياهو) بعد السابع من أكتوبر، قالوا كل الأشياء التي أظهرت من وجهة نظري نية الإبادة الجماعية، وقد وثق ذلك في قضية جنوب أفريقيا، وكل هذه الأمور تشكل كارثة لإسرائيل، إنها كارثة علاقات عامة”.

أخيرا.. تعد هذه المحاضرة لشخصية بوزن البروفيسور جون ميرشايمر من أهم المحاضرات التي كشفت عن كثير من الحقائق في الصراع القائم في وقتنا الحاضر بين الفلسطينيين والكيان الصهيوني، والاستماع إليها بتمعن يساعد في فهم مجريات الأمور بصورة أكثر واقعية، مما ينعكس علينا بعدم السلبية أو التشاؤم من المظاهر التي نشاهدها يوميا من القتل والدمار للأطفال والنساء منذ أحداث السابع من أكتوبر، فحماس وأمام أنظار العالم أجمع تمكنت من تحقيق أهداف عظيمة زعزعت ثقة الكيان في نفسه، ودمرت صورته القوية وادعاءه أنه لا يهزم، وهو ما عجزت عن فعله دول كبرى ذات جيوش وعتاد، ولذلك يحق لنا الفخر والاعتزاز بهم والاستبشار بما هو قادم.

راوبط مرجعية:

رابط الموقع الالكتروني الخاص بالمركز.

رابط المحاضرة من المركز باللغة الإنكليزية

رابط المحاضرة المترجمة إلى اللغة العربية

رضوى التركي

كاتبة، آخذة بعنان قلمي في سبيل الله، تخصص تربية

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى