
غزة في العقل الاستراتيجي الصهيوني في اليوم التالي بعد اتفاق تبادل الأسرى
ليس لليهود عهد يحفظونه، وكل ما يوقعوه من اتفاقات أو ما يتعهدون به من معاهدات؛ يضمرون نقضها قبل توقيعها، مجرد إذعان مؤقت لضرورات أُمليت عليهم وهزائم تجرعوا مراراتها، وما إن تسنح لهم الفرصة لتغييرها حتى يهتبلوها خائنين لكل عهد ووعد واتفاق، هكذا يخبرنا تاريخهم الذي سجله القرآن المجيد والسيرة المشرفة وشهد عليه التاريخ البعيد والقريب مما سجله أبناء البشر الذين اكتوَوا بنار خيانتهم، أو الذين درسوا تلك الخيانات وسطّروها في مؤلفاتهم.
والاتفاق الأخير مع حماس لوقف إطلاق النار لا الحرب مقابل تبادل الرهائن، هو واحد من هذه الاتفاقات التي عزموا على نقضها من قبل توقعيها متى سنحت لهم الفرصة. لكنهم، أيضًا، لا ينقضون العهود هكذا دون تفكر في مآلات ذلك، بل يعدون العدة لما بعد نقض الاتفاقات ويرسمون السيناريوهات، ولديهم من مراكز البحث والتفكير المئات التي تحتشد بآلاف الخبراء في كل صغيرة وكبيرة في الشأن الفلسطيني والعربي والإسلامي، المدججين بترسانة من العلم والخبرة الغربية الاستعمارية في كيفية هدم الأمم وتخريبها بكل طريقة مادية كانت أو معنوية.
ومن هؤلاء الخبراء الذين يعملون على توجيه الرأي العام والقيادات الصهيونية اللواء (احتياط) “تمير هايمان“. وهو المدير التنفيذي لمعهد دراسات الأمن القومي أحد أهم مراكز الدراسات الاستراتيجية في الكيان. والذي خدم في جيش الاعتداء الصهيوني لمدة 34 عامًا، شغل خلالها مجموعة واسعة من المناصب القيادية في القوات البرية بما في ذلك الخبرة القتالية العملياتية في المنطقة الأمنية في لبنان وفي الساحة الفلسطينية، حتى صار رئيسًا لمديرية استخبارات جيش الاعتداء الصهيوني من عام 2018 إلى عام 2021م .
في هذا المقال نعرض لتصور هذا الجنرال لكيفية التعامل مع غزة بعد اتفاق تبادل الأسرى، كما جاء في مقاله على موقع المعهد يوم 21 يناير الماضي بعنوان: (المخاوف الأمنية بشأن اتفاق وقف إطلاق النار وإطلاق سراح الرهائن في غزة) Security Concerns of the Gaza Ceasefire and Hostage Release.
يبدو “تمير” في كل كلمة من المقال متوترًا وخائفًا مثله مثل كل صهيوني محتل لفلسطين، هكذا ينطق تحليل كلماته وجمل مقاله وجوهره، وما وراء الكلمات خوف أكبر وتوجس من مستقبل مجهول لا يمكن لهم منعه مع علمه بحتميته، مستقبل مرعب لكل صهيوني محتل يختبئ في صدور الأسرى المحررين قادة الجهاد القادمين، والأطفال الصغار خريجي الملاجئ والكرافانات، وإخوانهم الذين في أرحام الأمهات وفي أصلاب الرجال الذين لا يعلمهم إلا الله.
خلاصة المقال

تقوم الفكرة الرئيسية للمقال على أن الخطر الجوهري على الكيان هو استمرار فكرة الجهاد ضده في الأجيال الجديدة من الفلسطينيين، ومن ثم فإن الهدف الرئيسي يجب أن يكون إنهاء الصراع تمامًا؛ لأن بقاء الصراع يعني انضمام الأطفال من الأجيال التي شهدت الإبادة الحالية ومن بعدهم حتمًا إلى صفوف المجاهدين. ومن ثم فإنه بدون معالجة جذور المشكلة، فإن الكيان سوف يستمر في معالجة الأعراض فحسب.
إن الخطر الحقيقي، كما يقول “تمير”، يكمن في إعادة بناء البنية التحتية للجهاد الذي يسميه “الإرهاب”. فحتى لو استخدمت قوات الكيان نهجًا مختلفًا واستراتيجية أكثر عدوانية من أسلوب عملها قبل السابع من أكتوبر مع أهل غزة، فإن ذلك لن ينهي الصراع ما دام هناك فلسطيني على الأرض. ومن ثم فالتفكير يجب أن يصرف بأكمله لليوم التالي، وكيف يتم التصرف مع فكرة الجهاد في غزة؟
وهو لذلك يدعو لضرورة استعداد الكيان الصهيوني لليوم التالي بعد انتهاء الحرب على غزة سواء باستمرار الاتفاق الذي تم منذ أيام أو حتى بالقضاء تمامًا على قوة حماس وباقي الجماعات المجاهدة في غزة، والإجابة على سؤال: ماذا يفعل الكيان بغزة ساعتها، وكيف يجعلها خالية من المجاهدين وفكرة الجهاد؟
بعد أن يُعدّد “تمير” مخاوفه؛ والتي تُعبّر عن مخاوف باقي مجتمع العصابات الصهيونية، من تداعيات اتفاق الأسرى، والمتمثلة في: ردود أفعال الأسرى المحررين وعودتهم للجهاد بل وقيادتهم له، ومخاوفه من عودة أهل غزة المهجرين من الشمال وعودة مجاهدي حماس بينهم وفي حمايتهم، بل وظهور أجيال جديدة من المجاهدين، وما يترتب على ذلك من احتمالات قوية لإعادة بناء قوة حماس العسكرية مجددًا، هذا في حالة إتمام الاتفاق وعودة أسراهم الأحياء والموتى كاملين.
وبعد أن يفترض فشل الاتفاق؛ وهو الاحتمال الأكبر الذي يوحي به المقال! يُشير “تمير” إلى المعضلة التي ستواجَه ساعتها والمتمثلة في: كيف سيواجه مشكلة باقي الأسرى واحتمال عدم عودتهم؟ بل وربما مقتل ما تبقى منهم، وما سيفجره ذلك من مشاعر الغضب والخوف والاضطراب لدى ذويهم، وفي عمق الكيان ذاته؛ والتي قد تؤدي إلى نتائج خطيرة تسهم في تفكك مجتمعه الاستعماري، وهو الأمر الذي قد يمثل ضربة قاصمة للمناعة المجتمعية للكيان القائم على تضامن هؤلاء الغزاة مع بعضهم البعض؛ لأن الفشل في تحقيق عودتهم جميعًا أحياءً وأمواتًا يعني بحسب كلماته: «إثارة الشكوك حول التزام إسرائيل بمبادئ المسؤولية المتبادلة والتضامن : كل إسرائيل ملتزمة ببعضها البعض».
وليس ذلك وحسب ما يخاف منه “تمير” لكنه يخشى أيضًا من أنّ إتمام الاتفاق بمراحله وتخطيطه بالشكل الذي تم به سيجعل حماس تبدو في وضع المنتصر لا المهزوم؛ وهو ما يُضيع آثار انتصارهم الحربي داخل الكيان وخارجه طوال أكثر من عام من الإبادة.
وفي ضوء هذه المخاوف التي تعكس عقلية ونفسية المحتل المرعوب من أهل البلاد الحقيقيين وأصحاب الأرض والمقدسات، ينطلق “تمير” في باقي المقال مستخدمًا خبرته العسكرية وعلمه وما لديه من معطيات وبيانات وحقائق تاريخية وراهنة ليقترح على قادة الكيان ضرورة «وضع خطط أمنية واستراتيجية تحسبًا لاحتمال انهيار الاتفاق أو بقائه غير مكتمل»، فماذا يقترح كخبير أمني واستراتيجي؟
ينطلق “تمير” من أن كيفية التعامل مع غزة في اليوم التالي؛ القادم لا محالة، هو التحدي الرئيسي الأكبر الذي تندرج تحته المخاوف السابق الإشارة إليها أعلاه يكون من خلال الإجابة على السؤال التالي: كيف يمكن منع حماس من البقاء حاكمًا فعليًا لغزة؟ فكل هذه الأخطار السابقة يمكن التعامل معها: فالأسرى الفلسطينيون المحررون يمكن قتلهم أو إعادتهم للسجون كما سيتم نفي الأخطر منهم خارج فلسطين، والعائدون للشمال يمكن مجددًا تهجيرهم، وقدرات حماس يمكن كذلك تدميرها مجددًا (يتغافل تمير هنا عن وضع الأسرى الصهاينة أو يفترض تحريرهم بالكامل قبل الشروع في مخطط إعادة حكم غزة دون حماس)، لكن يظل استمرار حماس بعقيدتها الجهادية في حكم غزة هو التحدي الخطير.
كيف يمكن منع حماس حكم غزة؟

بفرض قيام الحرب والقضاء على حماس ماذا سيفعل الكيان بغزة؟ هكذا يتحدث “تمير” بصوت مرتفع ليفكر في البدائل المتاحة، وهو يعدد أربعة بدائل رئيسية لليوم التالي وقام بتقييمها واختيار أنسبها، ليصل إلى توصياته للقيادة الصهيونية لكيفية تحقيق ذلك بشكل أكثر فعالية لتأمين حاضر ومستقبل الكيان.
البديل الأول
هو إعادة احتلال غزة وضمها إلى الكيان، لكنه يرى أنه سيناريو فاشل سيدخل الكيان في أزمات داخلية وخارجية يصعب التحكم في نتائجها، ويكبده خسائر هو أحوج ما يكون لتفاديها بعدما تكبده من خسائر طوال ما يقارب عامًا ونصف العام.
فالاحتلال سيُجبر على حكم أكثر من 2 مليون فلسطيني، وربما إعادة إجلاء نصفهم مرة أخرى لدواعي أمنه، وهو ما يعني زيادة عزلة الكيان دوليًا، وربما غضب رعاته الرئيسيين في واشنطن، وحرج شركاء التطبيع بين شعوبهم، هذا بالإضافة إلى أنه خيار غير عملي ومكلف جدًا في الأموال والأرواح للكيان.
البديل الثاني
إعادة احتلال قطاع غزة بالكامل والحكم العسكري دون ضمها للكيان، وفرض الأحكام العرفية والسعي في القضاء على حماس مع تحمل المسؤولية عن توزيع المساعدات الإنسانية وتلبية الاحتياجات المدنية. وهو يراه خيارًا مكلفًا أيضًا يستنزف الكيان بشريًا من خلال: استدعاء أعداد هائلة من جنود الاحتياط وشراء كميات هائلة من الأسلحة والذخيرة، وهو ما ستكون له آثارًا اقتصادية سلبية شديدة على اقتصاد الكيان فوق ما يحمله من فقدان أرواح جنوده قتلًا أو أسراه في معاركهم مع أهل غزة؛ وهي معضلة لا يقدر الكيان على تحملها مجددًا وهو لمّا يستفيق بعد من أزمة رهائن طوفان الأقصى التي ستترك آثارها فيه لسنوات طويلة قادمة إن قُدّر له البقاء أصلًا، ناهيك عن ردود الفعل الدولية الرافضة، وفقدانه أي قابلية لدى الفلسطينيين مما يعني ارتفاع شعبية ومنطقية الجهاد والمجاهدين، والأهم والأخطر هنا ما ينبه إليه “تمير” من خسران الكيان لأي أمل في التطبيع بين الكيان والعالم العربي، وهو ما يعني عدم استعداد أي دولة أو منظمة لتولي أي مهام أمنية أو إدارية في غزة مكان حماس حتى يتم تهيئة سلطة فلسطينية تدير القطاع كما يجري في أروقة المجموعات الاستراتيجية في واشنطن وتل أبيب للتخطيط لمرحلة ما بعد حماس.
ومن ثم فإن هذا الخيار يجعل أي دولة أو حتى سلطة فلسطينية تقدم على ذلك ينظر إليها على أنها متعاونة مع إسرائيل واستولت على غزة على ظهر القوة العسكرية الصهيونية. وبالتالي سيجد الكيان نفسه يعود ليحكم غزة بمفرده، وهي منطقة مدمرة مع أكثر من مليوني فلسطيني فقير وجائع وغاضب ويائس، وهو بديل لا يقدر الكيان على تحمله بمفرده إطلاقًا.
البديل الثالث
وفي طرحه البديل الثالث وهو بديل الفوضى المخطط لها، حيث تنسحب قوات الكيان من قطاع غزة، تاركة الوضع كما هو عليه اليوم تمامًا وتعلق كل مشاركة مدنية. فإن مثل هذا السيناريو أيضًا له مثالبه المتمثلة في مواصلة العمليات العسكرية وتكاليفها الكبيرة من ناحية، والاحتمالات الراجحة لعودة حماس للسيطرة عليه وإعادة بناء قدراتها، لأنها تعمل كسلطة فعلية تسيطر على المساعدات الإنسانية. وسرعان ما تعيد الكرة مجددًا لمهاجمة الكيان بعد استرجاع عافيتها وتزايد شعبيتها مع إدراك أهل غزة لطبيعة الحل الإبادي الذي يفرضه عليهم الكيان، خصوصًا في غياب أي أيديولوجية منافسة تتحدى سرديتها للمقاومة والجهاد.
البديل الرابع

وأما عن البديل الأخير الذي يقترحه “تمير” هو إيجاد نظام مدني بديل لحماس يقوم بتحمل المسؤولية عن إدارة القطاع وتوزيع المساعدات المدنية، في حين تظل المسؤولية الأمنية في يد جيش الاحتلال الصهيوني، وهو الخيار الذي يمنح الكيان شن غارات جوية محددة وعمليات سرية؛ وعلى الرغم من أنّ هذا الخيار أكثر تعقيدًا في التنفيذ، وهو ما يعني منع حماس من الوصول إلى السلطة، ويمكن تكراره في مختلف أنحاء قطاع غزة، كما أنه متوافق مع القانون الدولي كما يدعي، بالإضافة لكون هذا البديل يضمن بقاء جيش الاعتداء الصهيوني مسؤولًا عن الأمن الصهيوني بدلًا من إدارة البنية الأساسية للصرف الصحي في غزة على سبيل المثال كما يقول.
إلا أن هذا البديل الذي يميل إليه “تمير” يحتاج من أي كيان سيدير غزة أن يستوفيَ شرطين أساسيين: الأول: ألا يكون لحماس أي دور، والثاني: أن يتمتع الكيان بالقدرة العملية على الحكم بفعالية في ظل مسؤولية الكيان عن الأمن.
وهو يذكر أن هذه الفكرة قد نوقشت داخل المؤسسة العسكرية للكيان لعدة أشهر. ورغم وجود معارضة من السلطة الفلسطينية لتحمل مسؤولية غزة بهذه الشروط من ناحية، كما أن هناك مقاومة كبيرة داخل الإدارة الصهيونية لإشراك السلطة في تلك الإدارة المقترحة، إلا أن “تمير” يرى أن وجود ترامب قد يُسهم في الضغط على الجانبين لقبول الفكرة.
وفي ضوء هذا البديل الأخير الذي يعتبره “تمير” الأنسب في المرحلة الراهنة من الصراع، يشدد “تمير” على ضرورة قيام الكيان بتقديم خطة خروج واضحة في ضوء هذا البديل تضمن تحقيق الهدف النهائي للحرب، وهو: استبدال نظام حماس الجهادي. وهو ما يجعل التعاون مع الرياض حتميًا؛ لأنها تكون مفتاح نجاح هذا الحل، مع شقيقاتها الخليجيات اللاتي سبقنها للتطبيع مع الكيان بالإضافة إلى مصر والأردن المنخرطتين في أي حل يسهم في تحجيم فكرة الجهاد في القارة العربية، وإذا أضفنا تطلع ترامب ونتنياهو لختام مسيرتهما السياسية بجائزة نوبل، فإن خلطة يتم مزجها بعقلية صهيونية ونكهة أمريكية ومكونات فلسطينية وعربية تطبيعية قد تفي بالهدف الذي يطمح إليه مقال “تمير”.
هكذا لخّصتْ مقالة “تمير” ما يجري في الغرف العلنية والمغلقة لمجموعات الاستخبارات والاستراتيجية في واشنطن وتل أبيب وعواصم أخرى لوأد المسألة الفلسطينية، والله من ورائهم محيط. فماذا نحن فاعلون؟!