مراجعة كتاب دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب
كتاب «دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب»، أحد أكثر الكتب أهمية في علم التفسير، فقد عرض به الشيخ أمين الشنقيطي رحمه الله الرد على أشهر الاضطرابات التي قد تصل إلى الذهن عند قراءة القرآن، ومنه قوله تعالى: {سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنْسَى * إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ}، وقوله: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ}، أليست آيات القرآن في الأولى تنسى وفي الثانية محفوظة؟ أليس في ذلك تعارض؟ هذا وغيره مما استطاع الشيخ رحمه الله الجمع بينه من آيات الكتاب، وسنبينه في هذا المقال إن شاء الله.
من مؤلف الكتاب؟
ألف كتابَ (دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب) الشيخُ والعلامةُ محمد الأمين الشنقيطي الموريتاني الأفريقي، رحمه الله تعالى، صاحب كتاب أضواء البيان في تفسير الكتاب، أحد علماء القرن الرابع عشر الهجري، وكانت وفاته سنة 1393هـ، وهو من علماء المغرب، يسر الله له المجيء إلى السعودية، في رحلةِ حجٍّ، فعرف علماءُ السعودية ما لديه من علم غزير ومنهج أصيل في مسائل الاعتقاد والفقه والحديث، فأكرموه، فبقي فيها.
درَّس الشيخ محمد الأمين في المعهد العلمي في الرياض وفي كلية الشريعة في الرياض، وقد درس على يده الشيخُ ابن عثيمين رحمه الله، وجملةٌ من العلماء المعروفين في عصرهم.
ثم انتقل ودرَّس في المدينة المنورة في المسجد النبوي، واشتغل في تعليم التفسير، وامتاز الشيخ محمد الأمين بالتفنن بالعلوم الشرعية، فكان عالمًا بالقرآن عالمًا بالسنة عالمًا بالفقه عالمًا بالعربية عالمًا بأصول الفقه، وهذا التفنن أكسبه رسوخًا في العلم، حيث يجد من قرأ مؤلفاته أن الشيخ قد امتلك من التمكن ما لم يوجد عند غيره.
أهمية علم التفسير
علم التفسير هو أصل من أصول العلوم، فهو علمٌ لا بد للشخص منه مهما علتْ رتبته وكثُر علمه، فمن فقد هذا الأصل فقدَ ركنًا أصيلًا من أصول العلوم، وأصبح فهمه أقلَّ ممن تمكن من هذا العلم، وكما قال الشيخ خالد المصلح: «إذا علتْ قدمُك في فهْم كلام ربَّك سَهُل عليك كل علم، وإذا استغلق عليك القرآن ولم تفهمه فأنت لما سواه أبعد فهمًا وأقل نصيبًا”»، وكيف لا وأهل القرآن هم أهل الله وخاصته.
عمَّ يتكلم كتاب «دفع الإيهام»؟
تضمن الكتاب موضوعًا واحدًا، وهو التوفيق بين آيات القرآن التي ظاهرها التعارض، وهذا الموضوع هو أحد أبواب التفسير وعلوم القرآن، وقد لخص المصنف رحمه الله تعالى مراده وهدفه من الكتاب بعنوان الكتاب (دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب)، وتفصيل ذلك:
دفع
استخدام الشيخ محمد الأمين كلمة (دفع الإيهام) بدل (رفع الاضطراب)؛ دلالةً على عدم وجود اضطراب في آيات القرآن ليرفع، وإنما قصد الشيخ دفع التوهم والظن بوجود اضطراب؛ سببه نقص علمٍ وتأملٍ في معاني آيات وكلام رب العالمين.
إيهام
الإيهام هو ظن الشيء على غير حقيقته، وهو من أقل درجات الإدراك، وهو جهلٌ في الحقيقة وليس إدراكًا، لأن الإيهام هو إدراك الشيء على غير ما هو عليه، وهذا جهلٌ بالشيء.
الاضطراب
يقصد بالاضطراب الاختلال وعدم الانتظام وتحرك الشيء وعدم ثباته.
الكتاب
قصد رحمه الله بالكتاب القرآن الكريم، واختار هذا الاسم دون غيره لأنه أول اسمٍ سماه الله تعالى للقرآن، وذلك في أول سورة البقرة: {الم * ذلك الكتاب لا ريب فيه}.
باختصار أصبح معنى عنوان الكتاب:«إزالة ما يمكن أن يرِد إلى الذهن من التَّعارض بين آيات القرآن الكريم».
هل احتوى الكتاب على جميع اضطرابات الفهم؟
يعتبر باب دفع إيهام الاضطراب، أحد أبواب التفسير الواسعة جدًا، والتي لا يمكن الإحاطة بها، وكيف يمكن الإحاطة بها، وكل شخص منا يمتلك فهمًا خاصًا به، فما هو واضح وسويٌّ عند شخص ربما يكون مضطربًا عند آخر، ولذا فلا يمكن جمع كل اضطرابات الفهم التي قد ترِد إلى الأذهان، وعمل الشيخ محمد الأمين على جمع أشْيع الاضطرابات، والتي قد أشار إليها علماء القرآن في كتبهم ودروسهم، فالاضطرابات التي في الكتاب ليست من باب الحصر.
على ماذا احتوت مقدمة الكتاب؟
بيَّن المصنف رحمه الله تعالى في مقدمة الكتاب موضوع الكتاب وطريق سير الكتاب، وقد احتوت المقدمة -بعد حمد الله تعالى والثناء عليه- أمرين هامين، وهما:
الأمر الأول
ذكّر الشيخ محمد الأمين المسلمين بأن كتاب الله تعالى محكم لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، فأخباره كلها صدق، وأحكامه كلها عدل، وأنه يصدّق بعضه بعضًا، وأن على كل مسلم أن يحصن نفسه بذلك، وعندها يستطيع أن يزيل كل اضطراب قد يرد على قلبه، فإن حدث لديه إشكال طلَب حلَّه بالنظر والتأمل والتدبر في كتاب الله، فإجابة أي إشكال في فهم آيات الله لا يحله إلا التدبر في آيات الله والنظر فيها، وهذا من عجيب قدرته سبحانه، أنه اذا اضطرب عليك شيء ليس عليك البحث في مصدر أجنبي، وإنما عليك البحث في كتاب الله وستجد الإجابة حاضرة بين يديك، ودليل ذلك أن الله تعالى خاطب الذين كذبوا بالقرآن وشككوا فيه أن يتدبروا آياته، فقال سبحانه: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ ۚ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا (82)} النساء.
الأمر الثاني
كان بيان طريقة سير الكتاب، وهو بأن يبين ما تيسر من أوجه الجمع بين الآيات التي يُظن بها التعارض في القرآن الكريم، وقد رتب ذلك بحسب ترتيب السوَر، فيأتي على كل سورة من أول القرآن إلى آخره، يذكر ما في كل سورة من الاضطرابات التي قد يُتوهم تعارضها من آيات السورة مع غيرها من الآيات، فيذكر جواب ذلك وما يسر الله له، ويكتفي بذكر الاضطراب في موضع الآية الأولى، وفي بعض الأحيان في موضع الآية الثانية، وربما يذكره في موضع الأولى ويشير له بموضع الثاني.
أمثلة من الكتاب
من أجل توضيح طريقة عمل الكاتب، كان لا بد من طرح بعد الأمثلة من الكتاب وكيف أن الشيخ أجاب عليها، وهي:
المثال الأول
في سورة الأعلى
قَوْلُهُ تَعَالَى: {سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنْسَى * إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ}.
هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَنْسَى مِنَ الْقُرْآنِ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَنْسَاهُ، وَقَدْ جَاءَتْ آيَاتٌ كَثِيرَةٌ تَدُلُّ عَلَى حِفْظِ الْقُرْآنِ مِنَ الضَّيَاعِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ * إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ} ، وَقَوْلِهِ: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ}.
وَالْجَوَابُ: أَنَّ القرآن وَإِنْ كَانَ مَحْفُوظًا مِنَ الضَّيَاعِ فَإِنَّ بَعْضَهُ يَنْسَخُ بَعْضًا، وَإِنْسَاءُ اللَّهِ نَبِيَّهُ بَعْضَ الْقُرْآنِ فِي حُكْمِ النَّسْخِ، فَإِذَا أَنْسَاهُ آيَةً فَكَأَنَّهُ نَسَخَهَا، وَلَا بُدَّ أَنْ يَأْتِيَ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا، كَمَا صَرَّحَ بِهِ تَعَالَى فِي قَوْلِهِ: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلها}.
المثال الثاني
من سورة الأنفال
قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ}.
هَذِهِ الْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنْ وَجَلَ الْقُلُوبِ عِنْدَ سَمَاعِ ذِكْرِ اللَّهِ مِنْ عَلَامَاتِ الْمُؤْمِنِينَ.
وَقَدْ جَاءَ فِي آيَةٍ أُخْرَى مَا يَدُلُّ عَلَى خِلَافَ ذَلِكَ، وَهِيَ قَوْلُهُ: {الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ * أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ}.
فَالْمُنَافَاةُ بَيْنَ الطُّمَأْنِينَةِ وَوَجَلِ الْقُلُوبِ ظَاهِرَةٌ.
وَالْجَوَابُ عَنْ هَذَا أَنَّ الطُّمَأْنِينَةَ تَكُونُ بِانْشِرَاحِ الصَّدْرِ بِمَعْرِفَةِ التَّوْحِيدِ، وَالْوَجَلُ يَكُونُ عِنْدَ خَوْفِ الزَّيْغِ وَالذَّهَابِ عَنِ الْهُدَى، كَمَا يُشِيرُ إِلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ}، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا}، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ}.
الخاتمة
كتاب دفع إيهام الاضطراب في آيات الكتاب أحد الكتب التي ينصح باقتنائها، لتكون حصنًا للمسلم من نفسه ومن وساوس شيطانه، فيدفع هذا الكتاب ما يلقيه الشيطان من شُبه وتشكيك في قلبه، ويعود بالمسلم إلى جادة الفهم الصحيح لآيات الله سبحانه وتعالى.
المصادر:
دروس الشيخ خالد بن عبد الله المصلح لكتاب دفع إيهام الاضطراب في آيات الكتاب، الرابط