لا تودع رمضان
يأتي رمضان وقلوبنا جافَّة متشققة تهفو لغيث السماء، فإذا ما وقفنا تحتها متعرِّضين للوابل الصَّيب وأخذنا منه بنصيب ترعْرعت بذور الإيمان في القلوب وفاح العطْر في جوانبها لننْتبه أن الرَّوْح والرَّاح يأتي مِن هناك.. مِن التعرض للنفحات، من الإقبال على هدى السماء، من المسارعة لاستقبال الرحمات.. ولا يمضي الشهر إلا وأهل المحبة قد ارْتاضت نفوسهم ونالت ولو قطرة من بركات الشهر ومن آيات الرحمن ما يشوقها للمزيد فيما تستقبل من أيام.
وإن من رحمة الله بعباده أنه لم يجعل الصيام يزيد عن الشهر فتملَّ النفس أو تكْسل، ولم يجعله أقل من ذلك فتقصر النفوس البعيدة عن اللحاق، فناسب من استعد واسترْوح في ظلال الشهر ومن غفل ثم انتبه على صوت الماء يفيض في الأودية وعلى رؤية البراعم تنبت في الشقوق وبين أحضان الجبال الجافة فأقبل في المنتصف أو التحق قبل أن تبتعد سحابة الخير المباركة.
ويمضي الشهر ويترك لنا من ورائه ظلالا، أيامًا للصوم وعبادات أخرى لا تنقطع وإن انتهى الموسم الإيماني، وهنا يأتي أثر القطرات، فهل سنترك القلوب ينتقص ماؤها حتى يتسلل إليها حجاب الغفلة وتغادرها نسمات الرحمة؟
قد يبتعد القلب قليلًا ويلهو ساعات أو أيامًا لينال مكافأة الجد والاجتهاد السابق وليجدِّد ما خفت من نشاطه وطاقته، لكنه إن ترك ما كان بيده يسيرًا هيِّنا قبل أيام وأفْلته غفلة واستثْقالا قد تصبح استعادته عبئًا يعجز عنه أو يكسل عن بذل جهد كان هو في غنى عنه. فلنشدَّ عزم النفس ونذكرها ببعض ما حصّلت خلال الشهر لتحمله معها خلال العام:
أثر التقوى
إن النفس خلال الشهر المبارك تتدرب على التقرب والإقبال بصدق، فهذا الصوم يجعلها تتذكَّر أنها لله وإليه، وأنها تأتمر بأمره فتفطر حين يأمر، مثلما تكفُّ وتتوقف إذا سمعت النداء، وأن العمل المقبول ما كان لله لا لغيره من الأنداد، وأن ما يسعد النفس حقًا ويمنحها طمأنينة ورضا أن تكون ملبِّية لخالق عظيم قد اختار لها ما يصلحها وقد عرَّفها وأمرها بما فيه قِوام حياتها وما يحقق فوزها الصادق.
وهذه آيات الله التي تُتلى على المسامع تصبح قريبة تُزاحم غيرها من المسْموعات التي طالما اتَّخذت مكانها فسيحًا في الآذان والصدور لتنبهِّها إلى ما غاب عنها ولتذكرها بما يجب أن تنشغل به، وتعدُّ له وتسعى تبعًا له. وهذه الركعات الليلية في المحاريب وفي جوف الحجرات قد ليَّنت الأعضاء اليابسة التي كانت قبلُ تتعلَّل بالانشغال وبضعف البنيان لتذكرنا بحاجات الروح والقلب، وهذه الدعوات تخرج من الحناجر قوية متضرعة قد أسالت الدموع أو قد ألانت الألسنة المتحجِّرة ولو يسيرا لتختبر النفس بعض ما لديها من أسباب القوة والنعيم في هذه الحياة، فكانَ من العقل ألا نتْرك هذه الهدايا التي اكتسبتها النفس وتدرَّبت عليها تذهب هباء كأن لم تكن. إننا حين ندفع الأموال لنتدرب على مهارات العمل والحياة، نكون أكثر حرْصًا على استخدام تلك المهارات في عمل وفي خدمةٍ وتطبيق كيلا تذهب أموالنا وجهودنا هباء. وإننا ننفق في رمضان من الأنفاس والأعمار ما لن يعود إلى يوم الدين، أفلا يَليق بنا أن نحمِل ما اكتسبناه في قلوبنا ولا نُفلته بلا رعاية أو اهتمام؟
عزيمة القليل الدائم
لدى كثير منا حرصٌ على الإكثار من العبادات والاستزادة من العلم بالله والتقرب إليه بما يريح أنفسنا المكْدودة، لكننا كثيرًا ما نبكي حالنا التي لا تلبث أن تفتُر وتغفل ويغطيها الرَّان وصدأ الأقفال، ولو نظرنا إلى مِنح الرحمان في تنوع الأزمنة ومواسم الخير لوجدنا أنها تعالج تلك الطبيعة التي يستسلم لها من ينفض يديه سريعًا ولا ينتبه. فإن ما يقوله فقهاء النفوس أن النفس إن أُشغلت مرة واحدة وأكثرت على نفسها لا تلبث أن تترك مرة واحدة، لذلك فنحن نرُوضُها بأقل ما يمكنها المداومة عليه، ثم إذا جاء الشهر ارتفع منسوب الإيمان واتسعت مجاري النفس لتتقبل الزيادة تدريجيًا حتى ينتهي الشهر وقد أضافت إلى قائمتها عباداتٍ كانت تستثقلها وتفرُّ منها، فإذا أخذت منها ما يمكنها الاستمرار عليه لم يلحقها الجفاف سريعًا، بل ستكتسي النفس تدريجيًا بِوُرَيْقات خضراء صغيرة تطرد عنها حر البعد وتمدُّها بنبضات الإيمان.
وإن الرحمات التي خصَّ الله هذا الشهر بها وما تشيعه من أجواء إيمانية يحرص أهل الإيمان على اقتناصها والتلاقي على العبادة في ظلالها والاجتماع لنيلها والظفر بالأجور المضاعفة فيها مما يجعل طريق العزيمة ممهدًا وبناء العادات الإيمانية ممكنًا، وتمكين العبادات وتحسينها غاية متراكمة متواصلة بالليل والنهار. إلا أن هذا التدرُّب يجب أن يحمل النفس على العبادة والتقرب على كل الأحوال التي تعترضها وعلى اختلاف الأزمنة التي تمر بها، فإن مقصد العبادة أن تكون ذاتية وأن تغالب النفس بها رغبة التفلت والفجور أو الغفلة والكسل. فإذا غفلت أو فترتْ كان زادها الأخير حاضرًا ليعيدها سريعًا، وهكذا حتى يأتيها موسم جديد تشتدُّ فيه وتكمل كساءها حتى يعيد إليها رمضان التالي ببركته كساءَها الأخضر المشتمل على كل خير، فإذا هي خلال السنوات تكبر وتقترب وتسعد، ولا تعود عارية من الخيرات والرحمات كما كانت أول مرة.
الاجتماع على الطاعات
وإذا كان التدرب على العبادة في جو جماعيِّ مما يحفز النفس ويروضها على العبادة، فإن اختبار الإخلاص والصدق الذي يعقب الشهر الكريم حين ينفضُّ الجمع المبارك وتعاود الشياطين نشاطها المحموم، يحتاج منا أن نطيل أمد اليقظة قليلًا حتى تعتاد النفس أن تقبل وحدها وأن يكون لها حال مع الكريم لا ينقطع أبدا وإن كان بأقل القليل. ومع ذلك فإن تلك اللمحة الجماعية التي أضافت إلى العبادة روحًا وقبولًا، لتُعّلم النفس أن تشد إلى جوارها من تظن فيه الخير ومن تلتمس حرصه على التزكية، وإن قدرتَ أن تدعو كل بعيد وأن تذكِّر الناسي والغافل فأنعم بها من نعمة وأعظم به من قول وعلم. ثم لا تكسل النفس عن أن تبحث لنفسها عما يقوِّيها ويصلها بربها، عن صحبة تظن بهم خيرًا، أو دروسِ علم ومجالس وعظ تذّكرها حين الغفلة، وعن مواطن يذكر فيها اسم الله كثيرًا ويتواصى فيها المؤمنون بالحق والصبر. فإذا عدمت النفس تلك الأرواح فيمن حولها، فإن لها في سير الصالحين زادا تتقوى به وتقتدي، وتفرُّ من ضعفها ووحدتها إلى مدائنهم الممتلئة بأنواع العبادات والطاعات والأعمال، فلعلنا نجد لنا شبهًا يسد علينا باب السقوط والغفلة الطويلة ولعلنا نعود أصْلب عودًا إلى من حولنا فنشد من أزْرهم فلا تطول غفلتهم كذلك.
شهود النعمة وشكر المنعم
وإن رؤية هذه النعم لتذكرنا بأن من وَهب في رمضان يهب بعد رمضان، غير أن الله المتفضل على عباده يحب أن يَرى أثر نعمه على عباده، وإن أجل النعم كما نعلم نعمة الهداية والتوفيق للإيمان وللعمل الصالح، فإذا سعد بها العبد وأدى شكرها بتنْميتها والحفاظ عليها تبعتها العطايا الربَّانية التي يترقى بها فيجد من الفهم وخشوع القلب والعلم ما يرتفع به في منازل الإيمان.
مما يجهد فيه الشيطان أن يُوئِسنا من أنفسنا وأن يقطع أواصر القرب التي تشكلت خلال الشهر كي لا نظفر بعطايا الكريم التي لا تنقطع خلال العام، وإن التأمل في الرحمات والمنح الربانية التي نتلقاها في الشهر المبارك يجلي أمامنا حقيقة أننا بفضل الله وعطاءاته مغمورون، وأنَّ ما كان فيه من خير ومن صلاة ودعاء وذِكْر إنما كان بتوفيق منه، بما هيَّأ وقدر من أسباب وبما جمع عليه القلوب التي ما زالت بها فطرة الخير واشتياق القرب وطلب الجنان.
إن من مقاصد الصيام والعبادة في رمضان أن يصل العبد المؤمن لمقام الشكر، فهو يرى نعم الله حوله فيما لديه من أسباب الحياة، وفيما ييسر الله له من الطاعة، وفيما يهبه من مواسم الخير ومضاعفة الحسنات، وفيما يجازيه به من أيام الفطر وما يتخللها من سرور وطمأنينة ورضا بهذا الدين الجليل الذي تتوازن به النفوس، وتنال به حظوظها المادية والإيمانية بلا إفراط أو تفريط.
وإن رؤية هذه النعم لتذكرنا بأن من وَهب في رمضان يهب بعد رمضان، غير أن الله المتفضل على عباده يحب أن يَرى أثر نعمه على عباده، وإن أجل النعم كما نعلم نعمة الهداية والتوفيق للإيمان وللعمل الصالح، فإذا سعد بها العبد وأدى شكرها بتنْميتها والحفاظ عليها تبعتها العطايا الربَّانية التي يترقى بها فيجد من الفهم وخشوع القلب والعلم ما يرتفع به في منازل الإيمان.
فإذا كان رمضان قد ودعنا فلا يجب أن نودع ما ألفناه فيه من طاعات وعبادات وروح مُقبلة، فليكن العهد مستمرًا بكتاب الله وبصلواتٍ وأذكار تزيح عنا شبح الغفلة وتجعل سنة الفتور قصيرة عابرة، وربنا غفور شكور يعطي على القليل الكثير ويزيد الشاكرين من فضله العظيم، فنسأله سبحانه ألا يحرمنا من فضله وعطائه.