هل انتشر الإسلام بحَدِّ السيف؟!
خلال القرن الثالث عشر للميلاد، وصلت الجيوش الصليبية في حملتها إلى الشرق الأوسط، وهناك واجهت جيوش المسلمين الجبارة فقابلتهم رماح المسلمين وسيوفهم فردتهم على أعقابهم خاسرين. هذا الواقع جعل من “بطرس المبجل” يتدبر حول ما سماه «قسوة الإسلام الوحشية»، ليصل بعد تدبره إلى أن الإسلام دين أسس لنفسه ركنًا بالسيف. هذا الاستنتاج يُعد أول ما أوقد لهيب خُرافة ستلاحق الإسلام إلى أبد الآباد، وسيغشى دخانها مخيلة كل غربي حين يُذكر الإسلام أمامه.
بعد انقضاء عصر الحملات الصليبية وتجلي عصر الحروب الاستعمارية، أي خلال القرن التاسع عشر للميلاد، دخلت بريطانيا العظمى الهند. ومن أجل اختراق المجتمع الهندي المُكوَّن من الهندوس والمسلمين، تبنّت بريطانيا مبدأ «فرق تسد»؛ فعمل مسؤولوها الاستعماريون والمبشرون النصارى على بث فتنة بين المجتمعين بإيقاد لهيب خرافة انتشار الإسلام بالسيف من جديد، وأعلنوا أن الإسلام ولج الهند بحد السيف، وأن قُدوم الغُزاة المسلمين مثّل نهاية عصور الهندوس الذهبية.
خرافة حدّ السيف
وفي عصر اليوم، ما زالت هذه الخرافة حاضرة وبقوة، ففي الحادي عشر من سبتمبر من عام 2006، اقتبس البابا “بندكت السادس عشر” في خطاب له كلام الإمبراطور البيزنطي “مانويل الثاني” الذي جاء فيه: “أروني فقط ما الجديد الذي جاء به محمد، وهناك لن تجدوا غير الأشياء الشريرة واللاإنسانية، كأمره لأصحابه وأتباعه بأن ينشروا دينه بحد السيــف”.
إن هذا لقول متهافت من ثلاثة أركان: الركن الأول: أنه عادة ما يخرج من لسانٍ صليبي يُمجِّد الحملات الصليبية ويعتبرها فخرًا لأمته، ويُقدس كِتابًا ويُبجِّل رجالًا باركوا هذه الحملات، وبهذا هو يرمي بالحجر قلعة محصنة بينما يختبئ خلف أسوار قلعة من زجاج.
والثاني: أن الفتوحات الإسلامية والغزوات كانت أمرًا بديهيًا في عصر ما قبل الحرب العالمية الأولى، عصر الإمبراطوريات وعصر الجبابرة، حيث حدود الإمبراطورية هي حدود ما وصل إليه جيشها من توسع، القاعدة كانت إما تغزو وإما تُغزا، ولا بــد لأي إمــبراطوريـة أو مملــكة كانت أن تتخـــذ من مما جــاورها من إمبراطوريــات وممالك غداء قبل أن تُتخذ هي عشاء من طـــرفهم، وغزْو أرض بغزْوِ أرض، وحطم بيــت بحطْم بيْــت. وعلى المرء أن يُفرق بين التوسع الســياسي وبين نشر الإسلام، فالتوسع سياســـيًا لا يـــعني بالضـــــرورة فرض الإسلام على رعية الدولــــة التي توسعت دولة الإسلام فيهـــا، وإنما تصبــح رعيتها من رعـــية دولة الإسلام، إن آمنوا فلهم ما لنـــا وعليهم ما علينا، وإن كفروا فهذا شأنـــــهم.
والثالث: أن الإســلام يُحــرِّم الإكراه في الديــن، فالإســــلام مبني على تصديق بالقلب وقــول باللسان وعمل بالجوارح، فإن ذهب التصــديق بالقلب ذهب الأساس الذي تبنى عليه الأفعــال والأقوال، ولن يكون لأي قــول باللسان أو عمـــل بالجوارح معنى ما دام مــرتكِزًا على كفر، وحاشا لدين الله أن يسقط هذا المسقط.
إن الآية الكريمة ﴿لا إكراه في الدين﴾ ليست مجرد تعلــيمة يأخــذ بها الفاتحون في غزواتــهم، وإنما هي منهــج في حيــاة كل مــسلم، ألا يُكرِه أحــدًا على الدين ما دامــت حجة الإسلام واضحة وواقعة، وإنما الدعوة إلى دين الله تكون بإيضاحها وبيانها. فالله عز وجل يقول:
ادْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ ۖ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ
تقديم الرسالة دون عوائق
وإن هذا ليفسر ظاهرة كوْن المسلمين أقلية في البلدان التي فتحوها أيام الصحابة والتابعين، فمثلًا نسبة المسلمين في مصر كانت حوالي عشرة بالمئة تقريبًا، وفي العراق كانت حوالي عشرين بالمئة، وإيران التي وصلتها جيوش المسلمين خلال القرن الثامن للهجرة لم تصل نــسبة المسلمين فيها إلى النصف حتى منتصف القرن التاسع، وبالتالي إكراه أمة تُمثل الأغلبية على الدين سيُمثل انتحارًا أو حربًا لا قِبل للمسلمين بها، فهم كانوا أقلية وسكانًا جددًا في مجتمع غير مسلم، وهذا ما أدى البعض للقول إنه لو كان هدف الفتــوحات الإسلامية هو إكـــراه الناس على الدين لأمكننا القـــول إذن إنها فــشلت فشــلًا ذريعًا.
القوْل إذن هو أن بعْد الفتح تُقدُّم الرسالة إلى رعية البلاد المفتوحة، ثم يصبح الأمر عائدًا على الرعية، إن شاءت دخلت في الإسلام فلها ما لنا وعليها ما علينا، وإن شاءت كفرت به، وإن من رفض عليه دفع الجزية إلى بيت مال المسلمين كما يدفــع المسلم الزكــاة، فكلاهما رعية لنفس الدولة ومواطنون في نفس البلاد.
إن جهاد السيف في الإسلام ليس حْربًا لإكراه قوم في الدين كالحملات الصليبية ومحاكم التفـتيـــش الإسبانية، وإنه ليس بحربٍ أو غزوٍ لنهب ثروات الأرض والإنسان كما كــانت الحملات الاستعمــارية، وإنه ليس بحرْب لسواد عِرقٍ على عرقٍ أو جنْسٍ على جنْسٍ كما كـــانت الحرب العــالمــــية الثانية. إن الجهاد فتح لإخراج الناس من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، فتْحٌ لإخراج الناس من الظلمـــات إلى النور.
السيف في موضعه لا يزيد ولا ينقص
إنا لا نُنْكر أن للسيف حظًا في انتشار الإسلام، فلو كانت الأمجاد تُأْتى بغير ضرب أعناق المُلوكِ لما فتكتْ ببعضها الضراغمُ، ولكن السيف كانت توجهه دائمًا توجيهات النبي عليه الصلاة والسلام وتعاليم القـــرآن الكـــريم، وإن خرج الســـيف عليهما فلا يعْنــي هذا أن الإسلام سمح أو أجـــاز هذا الخـــروج، ففي كل ديــن أو ملة أتبــاع يريدون استغلالــها لأغــراض سياسية، وإن ما يقوم بها الأتباع لا يُمثل بالضرورة ما يتبعونه وإن زعموا ذلك.
وإن حظ السيف في انتشار الإسلام لم يكن أبدًا للإكراه، وإنما كان لسحق القوى المــادية التي تقف في سبيل انتشار الإسلام، فالأولى أن تدخل الدولة في الإسلام إن وصلتها الرسالة، والثانية تأتي إن هي رفضت فيكون عليها دفع الجزية، مع السماح للدعاة لإيصال الرسالة إلى الرعية، والثالثة إن رفضت هذا وذاك فهنا تُفتح بالسيْف وتصير أرضها جزءًا من أرض الإمبراطورية الإسلامية، وللرعية الحرية في المُعتقد. وظاهرة كوْن المسلمين أقلية في الأراضي التي فتحوها هي لأن غزو دولة ما قد يستغرق أيامًا، وفي بعض الحالات فد يستغرق شهورًا قليلة، ولكن إقناع شخص بترك دين آبائه والدخول في الإسلام قد يصعب ويتعسر، وقد يأخذ وقتًا أطول مما تأخذ الحروب والغزوات.
نفوس تتوق إلى الفتح الإسلامي
هذا، وإن التاريخ يُثبت أن الشعوب كــانت تنتظر أن تُفتح، وأحيانًا تطلب ذلك لما رأته من رفق وإحسان من المسلمين تجاه الشعوب غير المسلمة. فهذا طارق بن زياد رحمه الله يفتح الأندلس لأن شعبها سعى إليه بعدما عانى من القوطيين الذين حكموا البلاد بالقوة واستعبدوا شعبها وساموهم سوء العذاب. وطارق بن زياد نفسه كان أسير حرب قبل الدخول في الإسلام، ولما رأى من إحسان المسلمين إليه ورفقهم به أحب الإسلام واعتنقه وجاهد في الله حق جهاده. وهذا عبد الرحمن الغافقي ومَن قبله كان يسهل عليهم الدخول إلى فرنسا والوصول إلى بوردو بلا جهد عسير، لأن الشعوب كانت تُحبهم وتريد النور الذي تعوّدت رؤيته بقدوم المسلمين.
إن نظرة محايدة إلى التاريخ تُغني عن الاستماع لهراء المستشرقين والمبشرين.
صحيح أن فتوحات الصحابة كانت المد الذي ما له جزر، فمن كل فج كانوا هم الوابل، ولكن حرية المعتقد كانت دائمًا مضمونة، ولعل ما جاء في بيان عمر ابن الخطاب رضي الله عنه لأهل القدس بعد فتحها خير دليل على ذلك. فقد جاء فيه: “بسم الله الرحمان الرحيم، هذا ما أعطى عبد الله، عمر، أمير المؤمنين، أهل إيلياء من الأمان، أعطاهم أمانًا لأنفسهم وأموالهم ولكنائسهم وصلبانهم وبريئها وسائر ملتها، أنه لا تُسكن كنائسهم ولا تهدم، ولا ينقص منها ولا من حيزها ولا من صليبهم ولا من شيء من أموالهم، ولا يُكرهون على دينهم، ولا يضارّ أحد منهم، ولا يسكن بإيلياء معهم أحد من اليهود.
وعلى أهل إيلياء أن يُعطوا الجزية كما يُعطي أهل المدائن. وعليهم أن يُخرِجوا منها الروم واللصوص. فمن خرج منهم فإنه آمن على نفسه وماله حتى يبلغوا أمنهم. ومن أقام منهم فهو آمن، وعليه مثل ما على أهل إيلياء من الجزية. ومن أحب من أهل إيلياء أن يسير بنفسه وماله مع الروم ويخلي بِيَعهم وصلبهم، فإنهم آمنون على أنفسهم وعلى بِيَعهم وصلبهم حتى يبلغوا أمنهم. فمن شاء منهم قعد وعليه مثل ما على أهل إيلياء من الجزية. ومن شاء سار مع الروم. ومن شاء رجع إلى أهله، فإنه لا يؤخذ منهم شيء حتى يحصد حصادهم. وعلى ما في هذا الكتاب عهد الله وذمة رسوله وذمة الخلفاء وذمة المؤمنين، إذا أعطوا الذي عليهم من الجزية.”
ولماذا بقي الناس على الإسلام إلى اليوم إن كانوا مُكرَهين؟
ومما يُثبت أن الفتوحات الإسلامية لم تكن غزوًا هو بقاء الإسلام في المناطق التي فتحها الصحابة رضوان الله عليهم ومن بعدهم إلى الآن، حتى بعد سقوط الخلافة وانقضاء عهد الإمبراطورية الإسلامية، وتحول الدول إلى دول علمانية فصلت الدين عن الحياة. ولكنك تجد كل مسلم فيها يتوق إلى زمان الخلافة والاتحاد، ومستعدًا للعمل على إرجاعها بكل ما أوتي من قوة، بل ومستعدًا للتضحية بحياته في سبيل ذلك. وإن ما صنعه المسلمون من حضارة خلال العصور الذهبية، وإن تحويلهم الأندلس بعد أن كانت أرضًا ضائعة يأكل القوي فيها الضعيف إلى منارة العلم والحياة لا يجب أن نتركه يُشوَّه أو يُنقَص من قدره لنثبت للغرب أن الإسلام دين سلام.
الإسلام ليس دين سلام في المطلق كما يُروَج، ولكنه دين سلام في وقت السلام ودين ملحمة وقت الحرب، أوليس هو الدين الذي علمنا أن الحياة تبدأ بعد الموت في سبيل الله؟ لذلك نقول إن ملاحم الصحابة يكاد يبيض الحبر من نورها، وإن أمجادهم هي مما يتصف به الكمال ليصبح أكمل، ويتصف به الجمال ليصبح أجمل، فهي بحق أمجاد لا تُشرى بثمن بخسٍ، وإنما تُدرّس لا يجوز لنا نخفيها خيفة لومة لائم، بل وجب أن نفتخر بها، فحقها علينا أن يعرفها كل من في المعمورة، تُنحت على كل حجرٍ، وإن حجرًا نُحتت عليه هو حجرٌ على كل الحجر له فخرُ.