الانهزامية الحضارية عند العرب وأثرها
عالمنا الإسلاميّ يواجه الكثير من المُشكلات السياسيَّة والاقتصاديَّة والاجتماعيَّة. كلُّ هذه المشكلات تواجهنا وتواجه غيرنا من المجتمعات، وكلُّها مشكلات غير مُستعصية على الحلّ، بل من المُمكن إدراجُها تحت تصنيف “مشكلات اعتياديَّة”. أمَّا ما هو أشقّ مراحل ودرجات صنفُ المشكلات التي تُسمَّى “مُشكلات حضاريَّة”؛ وهي مشكلات عُظمى لا تصيب جوانب من المجتمعات بل تصيب المُجتمع كُلًّا، المُجتمع في تكوينه وشخصه. وتؤثر أعظم الأثر على هُويَّة المجتمع ومن بعدها كيانه وتماسُكه وتضيع بوصلته.
ومن أمثال المشكلات الحضاريَّة مشكلات مثل “قضيَّة الغزو الفكريّ“، “قضيَّة التَّبَعيَّة”، “قضيَّة تفتُّت أركان الحضارة”، “قضيَّة انقسام الهويَّة أو ازدواجيتها”. هذه وغيرها كثير هي المُشكلات التي تُسمَّى بالمشكلات الحضاريَّة. وهي تمتاز بالعموم بميزة أنَّها تتداخل وتتواشَج فيما بينها؛ فمتى أُصيب المجتمع أو الحضارة الكُليَّة بإحداها تسرع بقيَّة المُشكلات بالظهور والتفشِّي. وبها تتفتَّت الأُمم وتنهار الحضارات. لذلك فهذه المُشكلات التي هي الأَوْلَى بالإبداع في حلِّها والتصدي لها. تقوم الجماعة الواعية بهذا الهمّ أفرادًا لينقلوا خطر هذه المشكلات إلى المجموع الذي بدوره يتنبَّه لها ويقوم مُواجِهًا جماعات لا أفرادًا.
وأحد أكبر نتائج تلك المشكلات الحضاريَّة هي قضيَّة “الانهزام الحضاريّ”. هذه المشكلة لمْ تصِبْ الأمَّة الإسلاميَّة كلّها. فنحن نرى أمام أعيننا نماذج قويَّة لمْ تصبها تلك الآفة اللعينة، حتى إنْ تعرَّضتْ إلى بعض منها فالاتجاه الغالب عليها هو الموجهة. لكنَّ هذه الآفة قد أصابتْ جزءًا من الأمة الإسلاميَّة هم العرب، وتفشَّتْ فيهم بضراوة وهذا مدار الحديث هنا باختصار بالغ.
لقد أبرز ضعف العرب والمسلمين في القرون الأخيرة، وتقدُّم العالَم الغربيّ في مضمار “الحضارة الماديَّة” نوعًا من الضعف الداخليّ في نفوس العرب والمسلمين، وفي الضمير الجمعيّ العربيّ. هذا الضعف أدى إلى افتقاد الثقة بالنفس العربيّة، وازدياد الثقة بالحضارة الغربيّة؛ أو ما يمكن أن نُسمِّيَه “الآخر”. فها هو العالَم العربيّ غير العالِمِ، وغير العامِلِ يرى العالَم الغربيّ يقدم عِلمًا تقنيًّا، وعملًا لا يتوقف؛ حتى يأتيه كلَّ يوم بمُنتجاته التي يخرجها من معامله ومصانعه ليبيعها لهذا الأبله الفاغر فاه، ويتقاضى منه أمواله.
توالي هذه الحال على “العالم العربيّ”، عقودًا بعد عقود أدّتْ إلى حالة من الانبهار بـ”الآخر”. ولِمَ لا؟! والآخر هو مَن يعلم، والآخر هو مَن يعمل. فيبدأ شعور الثقة الفطريّ للإنسان يذهب إلى مَن يستحق. إلى العالَم الغربيّ الذي يتحفنا كلّ مُدّة بإنتاجه؛ فيزيد من إبهارنا به. مما يُعمِّق شعور ضآلة النفس العربيَّة حيال هذا العالَم الغربيّ. ويؤدي إلى انتقال الثقة الذاتيَّة في النفس إلى ثقة في “الآخر”، الذي بدوره يولِّد ظاهرة “الانهزاميَّة الحضاريَّة”.
تعريف الانهزامية الحضارية وخصائصها
هذه الحالة هي ما تسمى بـ”الانهزاميَّة الحضاريَّة”. والتي من الممكن أن أعرّفها بالقول: “هي حالة تأتي على الأمم في أزمان تأخُّرها الفكريّ والماديّ. تفقد فيها الثقة بذاتِها وهُويَّتِها وشخصيّتِها وتاريخِها؛ فتكون غير قادرة على الالتحام بالعناصر النفسيَّة للنجاح والتقدُّم، وتصير قابلةً لتحكُّم الأمم الأخرى فيها”.
ومن خصائص هذه الحالة أنَّها من أمراض النفس الفرديَّة أيْ تصيب الفرد فيصبح الفرد بها مَهزومًا مُكبَّلًا غير قادر على التغيير أو التقدُّم، وأنَّها كذلك من أمراض النفس الجماعيَّة للأمم والشعوب. ومن خصائصها أنَّها كالأمراض حالة متطورة أيْ ليست ثابتة بل تتفاقم حتى تُفضي في تجذُّر لها وتمكُّن إلى الاكتئاب الجمعيّ، وهي درجة بالغة الخطورة على أيَّة أمة.
وهي كذلك تحبط مساعي مَن يسعون فيها إلى النهضة، وتقلل من قيمة التمسُّك بعناصر هويّتها، وتعتبرها عملًا غير مُجدٍ. وتنظر فيها الأمَّةُ للأمم صاحبة التقدُّم الماديّ نظرة التبجيل والاحترام، بل الرَّهبة إنْ أردنا الحقّ.
العوامل التي أدت إلى الانهزامية الحضارية
- الضعف العربيّ في مُدَّة القرنَيْنِ الأخيرَيْنِ.
- ساعد على ذلك إجهاضُ عمليات عدَّة للإصلاح السياسيّ والاجتماعيّ والفكريّ على مرّ القرن الفائت، والذي سبقه.
- احتلال كثير من البُلدان العربيّة من هذا “الآخر” الذي نُوليه ثقتنا. مثل “فلسطين” التي يحتّلها الكيان الصهيونيّ، و”العراق” التي احتلّها المحتل الأمريكيّ.
- استلاب مُقدَّرات الوطن العربيّ منه لصالح هذا “الآخر”. ثمّ من فرط هذا الإحساس بالقوة له، وبالضعف في أنفسنا بدأنا نفرّط فيها طواعيةً واختيارًا.
- إرادة الدول الغربيَّة إضعاف قوّة العرب والمسلمين، وإدامة هذه الحال لاستمرار نفعِهم الماديّ الاقتصاديّ حيث تعدُّ دول العرب والمسلمين من أكبر الأسواق التي يبيعون فيها هذه المنتجات التي تخرج منهم، ونفعِهم السياسيّ حيث تكون لهم اليد الطُّولى، ويكونون الطرف الأقوى بعدما ظلّ العرب ذوِيْ القوة على العالم لقرون عديدة.
ولسنا بعيدين في هذا السياق من كلمات صادقة للمُفكر الجزائريّ الكبير “مالك بن نبيّ” في كتابه “نداء الإسلام” حيث يقول: “وهكذا يجد الشعبُ المُستعمَرُ نفسَه مَحوطًا بإطار مُصطنع قد وضعت كلّ جزئيَّة من جُزئيَّاته للعمل على إبقاء وجود الأفراد بعيدًا عن حقيقتهم، ومَوَاطِن تقدُّمهم. إنَّ هذه التكنولوجيا المُضيِّعة عمليَّة تخريب حقيقيَّة، تتكيَّف دائمًا مع كلّ موقف جديد، وتقاوم الأصالة والاستقلاليَّة، وكلَّ طاقة جديدة. تلتقطها جميعًا، ثمّ تعمل فيها هدمًا ومَسخًا وتخريبًا” (صـ 133،132).
أكبر نتائج الانهزاميَّة الحضارية عند العرب
أخطر الأخطار التي نجمت عن حال “الانهزاميَّة الحضاريَّة” المُستغرق الذي أصاب الأمّة العربيّة هو تسبيبها لمرض فكريّ عُضال؛ هو “احتقار الذات والهُويَّة”. فإنه لمَّا يستقرّ هذا الشعور بالانهزام الحضاريّ تبدأ الأمة في الإعجاب والثقة بالأمم الأخرى، ثمّ يصل هذا الشعور بهم إلى حال من “الانسحاقيَّة الحضاريَّة”؛ وهي أعنف درجات الانهزاميَّة، حيث تنسحق فيها الأمّة أمام الأمم، أو الأمّة المُتقدّمة، وتقبل كلَّ ما يأتي منها، وتتابعها في كلّ نُظُمها وأعرافها، مهما كانت هذه الأعراف، ومهما بلغت من غُربتها عن ذات الأمة المُصابة. والتي أشار إلى أشياء منها العلَّامة “ابن خلدون” بقوله في كتابه “المُقدمة”:
إنَّ المغلوب مُولَعٌ أبدًا بالاقتداء بالغالب.
ومن أمثلة هذا الولوع بالآخر تلك التي أشار لها المفكر الاقتصاديّ الكبير د/ جلال أمين في كتابه اللطيف “خُرافة التقدم والتخلف”، بقوله: “وهكذا يشيع ويستقرّ في النفوس، ويدخل من مسامّ الجلد هذا الاعتقادُ بأنَّ التقدُّم في مضمار القوة والرخاء الماديّ والكفاءة لا بُدَّ أن يعني أيضًا تقدُّمًا في سائر جوانب الحياة: العلاقات الاجتماعيَّة، والتنظيم السياسيّ، والمستوى الأخلاقيّ والجماليّ، والرفاهية الإنسانيّة بكلّ عناصرها؛ ماديَّةً كانت أمْ غير ماديَّة. فإذا كان الشخص الذي يحوز القوّة والرخاء الماديّ والكفاءة “خواجة”، أُصِبْنا جميعًا بعُقدة الخواجة، ولا حول ولا قوّة إلا بالله”. ثم يُعرِّف ظاهرة “عُقدة الخواجة” في موضع آخر بقوله: “من المُفيد أن نذكِّرَ أنفسنا بأنَّ عُقدة الخواجة عند المصريين (أيْ شعورهم بالدُّونيَّة إزاءَ الأوربيّ أو الأمريكيّ) ليست شيئًا عريقًا في القِدَم، بل ظاهرة لا ترجع أكثر كثيرًا من مائة عام” (صـ16).
خطر مرض احتقار الذات والهوية
قلتُ إنَّ هذا المرض هو أخطر الأخطار التي تولَّدتْ لأنَّه يدمِّر الأمّة من داخلها، لا من خارجها. فيكون أبناء الأمّة هم أعداءَها الحقيقيِّيْن، الذين ينافسون الأعداء الآخرين في التسارع على هدمها. بل إنَّ الأعداء لأيَّة أمّة مُصابة بهذا المرض العضال لا يحتاجون جهدًا في العداء، فلقد أطلقوا جنودهم الأوفياء ببذور هذا المرض في أيَّة أمّة.
إنَّ هذا المرض خطير لأنَّه يشبه التفجُّر الداخليّ؛ حينما يريد أحدٌ هدم بناية يفجّرها من الداخل؛ فتخرّ على أركانها صرعى. كهذا المرض تمامًا؛ فهو يولِّد حقدًا على الذات، وانقسامًا على الرُّوح حتى يُشتِّت قوى الحضارة في الإنسان فيصير كائنًا لا يعرف سوى الهدم، سوى هدم نفسه، فيبدأ في الشكّ في كلّ مُقوِّمات ذاته وهُويَّتِه؛ في أنظمته الفكريّة (أقصد الثابتة لا المُتغيّرة)، في تاريخه، في كينونته.
ويظهر هذا كلّه أشدّ ما يظهر في لُغته، حيث تستبين هذه العوامل في غضبه المصبوب على اللغة؛ لأنَّ اللغة حامل الثقافة الأعظم، فما يفتأُ يُقبِّح لغته، ويغضُّ من شأنها، حتى إذا استقرّ في نفسه هذا الشعور بتقبيح لغته، يبدأ في اتخاذ لغة الغالب، الأمّة التي هو مُنسحِق أمامها، فيدخل من لغتها في لغته، ويمزج بين هذه وتلك مزجًا هجينًا لا يدلّ إلا على المرض السقيم الذي حلّ.
ما يدعم هذه الآثار
إنَّ أكثر ما يُدعّم هذه الآثار غيابُ الوعي العامّ، وغياب الدور الذي كان من المُفترض أن يلعبه الكُتّاب والمثقفون؛ لولا أنَّ طائفة عُظمى منهم مُصابة بهذا المرض بدورها، وطائفة كبرى من هؤلاء المصابين به لا يعرفون أنَّهم مصابون به، فالكثرة الكثيرة من أهل العلم والكتابة اليوم هي من أجهل الجُهّال، ولا حول ولا قوّة إلا بالله.
الجانب الإيجابي من هذا المرض
يتمثّل الجانب الإيجابيّ من هذا المرض في استنهاض هِمَم أهل العلم والوعي والدراية في هذه الأمّة للوقوف أمام هذا المرض ومقاومته، فإنَّ أعظم ما تولِّده هذه الخبائث والأمراض هو إيجاد الدافع القويّ للتغيير، وهذا هو الواجب، وتلك هي القِبلة. ومن قلب العتمة دومًا ينبثق النور.