مراجعة كتاب شروط النهضة.. للمفكر مالك بن نبي
يعتبر مالك بن نبي المولود في الجزائر عام 1905م أحد أعلام الفكر الإسلامي المعاصر، وأحد روّاد النهضة الفكرية في القرن العشرين، بالإضافة إلى كونه من أكثر المفكرين المعاصرين الذين نبّهوا إلى ضرورة العناية بمشكلات الحضارة.
كان بن نبي فيلسوفًا كاتبًا إلى جانب كونه مهندسًا، ويمكن اعتباره امتدادًا لابن خلدون لتأثره الواضح في فلسفته وأفكاره، كما أنّ له العديد من المؤلفات المهمة والتي ابتدأها بسلسلة تحمل عنوان “مشكلات الحضارة”، وأهم تلك الكتب ما جاء تحت مسمى “شروط النهضة”، والذي احتوى في طياته منهاجًا نهضويًا للأمم المتخلفة. ولا تخفى المسحة الروحية والفلسفية في صفحات كتابه الذي استسقى أفكاره من استقرائه للتراث الإنساني بجملته: مؤرخيه، ومفكريه، وفلاسفته. بالإضافة لدراسته الواقع الجزائري في فترة تاريخية معيّنة.
تضمن الكتاب عدة فصول أساسية ابتدأها بتقديم مسحة للتاريخ والحاضر، ثم انتقل إلى المستقبل في فصله الثاني، وأخذت الأبواب الثلاثة التالية عناوين ما عدّه مقومات الحضارة وهي: الإنسان، والتراب، والوقت. بينما انفرد الفصل الأخير بمفهومه عن الاستعمار والشعوب المستعمرة، كما تضمّن الكتاب أبرز فكرة أثارت ردود أفعال وهي ما سمّاها بـ: “قابلية الاستعمار”.
ونحنُ في هذه المادة لن نناقش شخص الكاتب ومواقفه، بل نقتصر على كتابه “شروط النهضة” نحاول تلخيص ما جاء فيه من أفكار.
أفكار كتاب شروط النهضة
أن نصنع نهضة يعني أن نحدث تغييرًا، وحتى يحدث هذا التغيير لا بد بأن ندرك مكاننا من الدورة التاريخية التي قسّمها علماء الاجتماع والتاريخ إلى ثلاثة مراحل، وهي:
مرحلة الروح
تتسم هذه المرحلة بتحكيم فكرة دينية أو أخلاقية تنقل المجتمع من براثن الجهل، واتباع الغرائز إلى الإيمان بتلك الفكرة، يتبعه تنظيم للغرائز، فيصبح المجتمع أكثر فاعلية، وأتقن عملًا، ويعمل بما لا يحتمله عقل أو غريزة، ومن أمثلة تلك المرحلة:
- انتقال المجتمع الجاهلي من الجهل والتخلف إلى الرقي والحضارة بعد إيمانه بفكرة، وهي الرسالة السماوية. فأصبحت أهدافه أسمى، وأولوياته أرقى. ولقد رأينا صورًا من الإرادة يحملها من تشّرب تلك الروح، أمثال: عمار بن ياسر، وبلال بن رباح، وغيرهم.
- انتقال المجتمع الأوروبي من مرحلة الانحطاط والتخلف الحضاري إلى مرحلة النهضة بعد إيمانه بمبادئها.
- انتقال شعب اليابان من واقع اليأس أمام الدمار الذي أُلحق بهم إلى الفاعلية والمسؤولية بعد ما أشربوه من معانٍ لحب العمل، وإيجابية العمل الجماعي، والإرادة، والأخلاق.
مرحلة العقل
وتعد هذه المرحلة أطول مرحلة من مراحل الدورة التاريخية حيث تتميز بسيطرة العقل مقابل سيطرة الروح، وتبدأ الغريزة بالتحرر تدريجيًا، كما تتسم تلك المرحلة بالتوسع الفكري وغزارة الموروثات الحضارية، يرافقها التوسع في البلاد.
تمتد مرحلة العقل منذ بداية العصر الأموي وحتى سقوط الخلافة العثمانية والتي وصلت فيها الدولة الإسلامية إلى أوسع بقعة جغرافية، إضافة لريادة العلم وبروز مفكرين وعلماء أمثال ابن خلدون والفارابي وابن سينا وابن رشد.. إلخ.
أما النهضة الأوروبية فبدأت منذ أواخر العصور الوسطى واستمرت إلى يومنا الحالي وتميزت بازدهار علمي وفكري يرافقه توسع في البلاد.
مرحلة الغريزة
تتسم هذه المرحلة بتراجع مرحلة العقل، وعجز الروح والفكرة، وسيطرة كاملة للغريزة من جاه وسلطة ومال وغيرها. وإذا ما قمنا بتطبيق هذه النظرية على واقع الأمم اليوم لوجدنا أن الحضارة الغربية في مرحلة العقل وسيطرة جزئية للغريزة تزيد يومًا بعد يوم، أما الأمة الإسلامية فهي تعاني من عجز للفكرة وغياب تام للعقل وبالتالي فهي في المرحلة الثالثة من مراحل الدورة التاريخية أي في مرحلة الغريزة.
لذلك فالأمتين ليستا في نفس المرحلة ومشاكلنا مختلفة تمامًا عن مشاكلهم، فالتقليد الأعمى لهم، واستيراد حلولهم هو تضييع للوقت والجهد ومضاعفة للداء، بل هذا التقليد هو جهل وانتحار لأمتنا حيث إن لكل مرحلة مشاكلها وخاصيّاتها.
ثم يتوسّع الكاتب بمرحلة الغريزة التي تعيش بها أمتنا فيذكر أنّ غياب الفكرة يؤدي إلى الوثنية، والتي تحمل صورًا عدة ليست مقتصرة على أحجار الجاهلية، بل تمتّد لتشمل الأشخاص والمؤسسات. ولقد مثّل القساوسة أوثان العصور الوسطى لدى الغربيين، فكان شعارهم يوم نهضتهم:
اشنقوا آخر ملك بأمعاء آخر قسيس.
كما مثّلت السياسة والسياسيّون أوثان أمتنا في العصر الحاضر فصارت أمنياتنا معلقة بهم، وصار الاهتمام بنهضة الأمة مقتصر على التسبيح بإله السياسة في المقاهي والحدائق، والمطالبة بالحقوق دون الالتزام بالواجبات. غير أن الشعب لا يمكن أن ينشئ دستور حقوقه إلا إذا عدّل وضعه الاجتماعي المرتبط بسلوكه النفسي “غيّر نفسك تغيّر التاريخ” تلك هي السنة الكونية والشرعية، يأمر بها القرآن ويلتزمها كل صاحب فكرة. قال تعالى: (إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ).
يعتبر بن نبي أن الحكومة ما هي إلا آلة اجتماعية مسيّرة لوسط اجتماعي تتغير تبعًا للوسط الذي تعيش فيه، فإذا كان هذا الوسط نظيفًا حرًا فحكومته من جنسه، أما إذا كان الشعب يتصف بالقابلية للاستعمار فحكومته لا بد وأن تكون حكومة مستعمرة.
قابلية الاستعمار عند مالك بن نبي
ذكر مالك بن نبي في كتابه عاملين كان لهما الأثر في الإنسان المستعمَر وهذين العاملين هما: “العامل الاستعماري” و “عامل القابلية للاستعمار”.
أما العامل الاستعماري فهو الجهود التي يبذلها المستعمر لجعل المستعمَر قابلًا للاستعمار، من حملات تجهيل وتغريب وإفقار وتسيس، وبما أن الكاتب ينطلق في نظريته من دراسته للواقع الجزائري فالتجربة الجزائرية حاضرة في خاطره، إذ أن المحتلّ الفرنسي كان أقل تحضّرًا وثقافة من البلد المحتَلّ: الجزائر، فكان على المحتل حتى يروّج ثقافته أن يحقق تفوقًا ثقافيًا، فعمد إلى إفقار الشعب الجزائري وتجهيله حتى تركه ونسبة الأمية فيه بلغت 93 %. فالفكرة التي يخلص إليها الكاتب أن الغرب تحضّر بعدما استعمر، ولم يستعمر بعد تحضّره.
أما الجزء الثاني من هذه النظرية وهو “معامل قابلية الاستعمار” فيرى الكاتب أن جهود المستعمِر تثمر في الشعوب المستعمَرة، فيستبطن الثاني ثقافة الأول، ويراعي حدوده التي خطها في نفسه، وتتطور القضية من تبنيه لثقافته إلى مدافعته عنها، حتى تصل إلى رفضه للمصلحين ودعاة الفضيلة، إذًا فالعامل الثاني هو عامل داخلي يستجيبُ للعامل الأول وهو العامل الخارجي المتمثل بالاستعمار.
ولكنّ تلك الفكرة يتم استعمالها في غير مراد الكاتب في واقعنا المعاصر، فقرأها أناس على أنها دعوة إلى الرضوخ للمستعمر، والتركيز باللوم على مجتمعاتنا، والتسوية بين صاحب الحق وسالبه، وبين الظالم والمظلوم، حيث إن للمسلوب والمظلوم شطر من الجريمة إذ سمحوا للظالم بتماديه في الظلم، ويحجبوا النظر عن القوة الضاربة التي تُضرب بها كل حركة للنهضة في مجتمعاتنا.
كيف تنتقل الأمة من السبات إلى النهضة
تمخّضت الأمة عن عدة محاولات فاشلة للنهضة حيث إنها كانت تحارب أعراض المرض لا المرض ذاته، وذلك مِثْل مرض جرثومي له أعراض كالحمى والصداع، فبدل أن يأخذ المريض عقاقير تقاوم الجرثومة نفسها، أخذ عقاقير للصداع والحمى، فصار لديه ألف دواء لألف مرض وما زالت الجرثومة تكبر وتزداد خطرًا.
وتمثيل ذلك على واقع الأمة أن هناك من المصلحين من رأى أن مشكلة الأمة في الاقتصاد فبنى لذلك مصنعًا، وآخر يراه بالعلم فبنى مدرسة، وأناس رأوه في السياسة فسعوا إلى تغيير النظام، ولم تصل الأمة إلى حلّ لمشكلة نهضتها لأنها لم تصل إلى المشكلة الأساسية.
مشكلات النهضة
يرى مالك بن نبي أن حلّ مشكلة النهضة يتوجب له حلّ ثلاثة مشاكل: وهي الإنسان، والتراب، والوقت يمزجهن معًا الفكرة الدينية أو المبدأ الأخلاقي.
أما المبدأ الديني فقد سبق ذكره في الدورة التاريخية ويتلخّص في أن المبدأ الديني أو الأخلاقي هو من يشحن الروح في المرحلة الأولى من النهضة، أما عن العناصر الثلاثة، فهي:
عنصر الإنسان
يعتبر الكاتب أنّ الإنسان هو نقطة البدء، ومحور التغيير، ولا بد لأي مشروع إصلاحي أن يمرّ به أولًا فيعلّمه أخلاق الجماعة ثم التنظيم ثم يبني فيه النقد البنّاء. ومن هنا جاءت أهمية العلوم الإنسانية، والتي تعد الأساس في بناء الأمم. وإنّ الإنسان يؤثر في مجتمعه بثلاثة عوامل هنّ: الفكر والعمل والمال.
- الفكر: ويقصد بالفكر الثقافة التي يحملها أفراد المجتمع متعلمهم وجاهلهم. بمعنى آخر هي السلوك الذي يعيشه أفراد المجتمع. والواقع أن الفكر هو مقياس تقدم الشعوب أو تأخرها، لا عدد مصانعها ومعاملها. فالفكرة إما أن تكون عوامل نهوض بالمجتمع أو عوامل ممرضة فيه.
ويتعين لبناء الثقافة وضع أسس للسلوك الذي يبدأ بتغيير النفس، ولا بدّ لتغيير النفس من فصل عن الأفكار البالية في الماضي والوصل بمقتضيات المستقبل. ثم لا بد لهذا السلوك من مراقبٍ يُلزم أفراد المجتمع به. فعندما يتعدل سلوك الفرد يتبعه بصفة آلية تعديل سلوك المجتمع والشعب والحكومة. - العمل: يعدّ توجيه العمل أكثر العناصر التي تفتقد لها أمتنا، فحاملي الأفكار فيها كُثُر، إلا أن المطبّقين لها قلة، ومن هذا المنطلق اتُّهم المسلمون بالتخلف، وأرجع السبب في ذلك جهلًا أو عمدًا إلى تعاليم دينهم، وشُكّك المسلمون بمعتقداتهم، إلا أن الحقيقة هي في انفصالنا عن تعاليم ديننا الذي أعطى مكانة للعمل لا تقل أهمية عن العلم الذي يسبقه.
كما العمل في نشأة أي نهضة لا يجب أن يركز على الناحية الكسبية بل كل ما يهمّ هو الناحية التربوية وما يفيد الصالح العام، حتى تقف النهضة على قدميها، وننتقل إلى مرحلة العقل التي يلزم فيها مقابلة العمل بالأجر. - المال: من العوامل المهمّة في النهضة هو توجيه رأس المال. فالمال في البلدان المتقدمة اقتصاديًا يكون على هيئة رأس مال لا على هيئة ثروة، لأن الثروة تزيد الطبقية في المجتمع إذ أنها مال ثابت مكدّس ملك لإنسان، بينما تشغيل رأس المال يحرّك الدولة اقتصاديًا، ويتنقل بين الأفراد لا ينحصر في ملك فرد بعينه.
عنصر التراب
ينظر بن نبي إلى التراب من وجهة نظر قيمته الاجتماعية فقيمته تسمو بسموّ أصحابه، وتدنو بتدنيهم، فإن كانت الحضارة متقدمة فترابها يصبح غالي الثمن، وحين تكون متخلّفة يصير رخيصًا حتى يُباع ويُشترى.
ويتلخّص العامل الثاني في استغلالٍ رشيدٍ للثروات والمواد الأولية: كالبترول والغاز والذهب بالإضافة إلى التركيز على الثروة الزراعية.
عنصر الزمن
إن أمتنا في واقعها الحالي لا تعطي أيّة قيمة للوقت، مع أن تعاليم الدين ما تزال تذكّر بأهمية الوقت وتحضّ على استثماره، وبينما الدول المتقدمة تدفع المال لتوفر الوقت، نرى أنّ أبناء الأمة يشترون المال بالوقت، ومن أسباب ذلك ولا شكّ الفقر الذي سببه الخلل في العامل الثاني، وهو استغلال ثروات الأرض. فلذلك يجب توعية الفرد منذ طفولته في المدرسة وحتى ينشأ ويكبر على أهمية الوقت وتقديره. فالوقت نهر صاخب ثمين يمر على رؤوس الناس، يسمع صوته اليقظون، ويغفل عنه الغافلون.
يدعو بن نبيّ من أجل تحقيق نهضة إلى الاهتمام بالذات لا الاعتماد على الغير، وتقديم الواجبات قبل المطالبة بالحقوق، والاهتمام بالأفكار لا الأشياء والأشخاص، والانتقال من التكديس إلى الاستثمار. ولا بد من الوصول بالشعوب إلى حالة استكبار شعوري أمام المستعمر، وتخليصه من سلطة ثقافته الغالبة المسيطرة على شعوره وتفكيره.
انقر هنا لتحميل نسخة رقمية من كتاب شروط النهضة على موقع رشف.
المصادر
“شروط النهضة” مالك بن نبي ترجمة عمر كامل مسقاوي وعبد الصبور شاهين دار الفكر دمشق 1979م.