الخيانة وسقوط القدس
بوادر الحروب الصليبية
ظهر في أوروبا في هذه الفترة بين 477 هـ- 1085م، بابا كاثوليكي يدعى “غريغوري السابع” وكان صاحب حماس ديني شديد بالإضافة إلى فكر ثاقب ورؤية عميقة، أخذ يحرك الرهبان لنشر ديانتهم واستغل الدين في نشر أفكاره، عظم نفوذه حتى أصبح يخافه حكام أوروبا، واستعان به أحد حكام أوروبا لإسترجاع بيزنظة من السلاجقة الأتراك، ولكن حال بالبابا الموت قبل القيام بأي حملة، وخلفه تلميذه البابا الصليبي “أوربان الثاني” واستمر بالدعوة للحملة على المسلمين واستعادة بيزنطة. في هذا العام استطاع “ألفونسو السادس” أن يسيطر على طليطلة، وكان سقوط هذه المدينة ضربة شديدة على المسلمين، وأعلن بذلك بدء الحرب الصليبية، واشتعل الحماس في أوروبا فقد كان أول انتصار للمسيحين على المسلمين. وبسقوط طليطلة أعلن البابا “أوربان الثاني” الحرب الصليبية لإسترداد الأراضي المقدسة في بيت المقدس، فأعلن دعم بيزنطة، وبدأ بنشر الإشاعات عن أذى المسلمين للحجاج المسيحين الذاهبين إلى بيت المقدس، وأنهم يدنسون قبر المسيح ويعتدون على المقدسات المسيحية، وقامت دعوات كبيرة في فرنسا وإيطاليا تطالب ببدء هجوم عسكري نحو القدس.
الحروب الصليبية
استمر الحال في أوروبا على ما هو عليه من دعوات للهجوم على بلاد المسلمين واستمرت الإشاعات الكاذبة عن المسلمين وإرهاب الناس منهم وتحريضهم عليهم، بينما كان الحال في المشرق العربي يزيد ضعفاً وانقساماً، الإنقسامات والإختلافات التي كانت سبباً في تكالب الغرب على بلاد المسلمين، وقدرتهم على تحقيق هدفهم، والضعف حل ببلاد المسلمين من تفرقهم وانقسامهم وكثرة الحروب التي نشأت بينهم.
احتل النصارى صقلية عام 483هـ وشعروا أنه نصر كبير، وبضعف الدولة الإسلامية وأنه بإمكانهم بدء الهجوم عليهم وقدرتهم عليهم. وفي هذه الأثناء شعر الفاطميين في المغرب العربي بخطورة الهجمات لكنهم كانوا يخشون أيضاً وصول السلاجقة الأتراك إليهم وأخذ الحكم منهم فما كان منهم إلا أن تحالفوا مع النصارى وقاموا بمراسلتهم ودعوتهم لدخول الشام وذلك ليضعوهم في مواجهة الأتراك وكان ذلك حمقاً وخطأ شنيعاً أن استعانوا بالنصارى على المسلمين من السلاجقة، فجر تعاونهم ذلك إلى ويلات عظيمة أدت إلى الحروب الصليبية وضياع فلسطين والقدس.
بدأت الحملات الصليبية في عام 488 هـ- 1095م، وكان أهم أسبابها: الحماس الديني والدعوة لتحرير المقدسات، والتوجيه الفكري والديني الذي قام به الرهبان من تحريض الناس على استعادة مقدساتهم، وتصويرهم للناس الفقراء الذين لم يجدوا باباً للعيش في أوروبا أن بلاد المسلمين بلاد غنية وضعيفة فكانوا يطمعون بتلك الخيرات. واستمرت الحملات والحروب ضد المسلمين، وتوجهوا إلى شمال الشام وحدث حصار أنطاكية واستمر فترة طويلة من الزمن، وقامت خلالها حركات دعوية ونهضوية في العالم الإسلامي تدعوا لإنقاذ أنطاكية لكونها بوابة الشام، وفي ذلك الوقت استغل الفاطميون انشغال الأتراك في حروبهم مع الصليبين وتوجهوا نحو فلسطين واحتلوا القدس، وأرسلوا أيضاً التهاني للنصارى لإحتلالهم قونية وتشجيعاً لهم لفتح أنطاكيا.
بدأت العواصم شعبياً بالتحرك للدفاع عن بلاد الشام وأراضي المسلمين، غير أن الحكام كانوا في شغل شاغل عن هذه الأمور، وقام جيش حلب الصغير بتقديم العون لأنطاكيا بعد تأخر وصول الدعم لهم، ولكنه أمام مائة وخمسين ألفا لم يستطع فعل شيء!. وصل المزيد من الدعم للنصارى، وبالمقابل فإن الفاطميين استمرت خيانتهم حيث عقدوا اتفاقاً مع النصارى بتقسيم منطقة بلاد الشام بعد أن هنؤوهم بالنصر، واشترطوا بقاء القدس معهم لكن الصليبيين رفضوا ذلك فقد كانت هي هدفهم ومطمعهم الأول، وبذلك اضمحل التقارب بينهم ولم تبرم الإتفاقية. وفي تلك الأثناء جهز العباسيون جيشاً وتوجهوا لمواجهة النصارى، ولما طلب النصارى قتالهم حدث خلاف في صفوفهم، قسم أراد القتال وقسم أراد غير ذلك، وكانوا على غير استعداد تام فلم يصمدوا أمام جيوش الصليبين.
سقوط الأقصى
بعد كل الخلاف وضعف الدولة الإسلامية وتفرق صفوف المسلمين، وانشغال الكثير منهم بالسلطة والحكم عن مصالح الأمة والإسلام والمسلمين، حدثت الهزيمة الثانية، وفتحت الطريق أمام الصليبين، وتقدمت جيوشهم، ولم تلقَ أي مقاومة تذكر إلا ما قام به حاكم طرابلس البلد المسلم، وأذهل أهل طرابلس من هذا التخاذل الإسلامي، وانهارت معنوياتهم فاستسلموا وتمكن النصارى من الإستيلاء على طرابلس واحتلالها، وبدأت المدن الإسلامية والسقوط.
المجزرة وسقوط القدس المريع
استطاع النصارى الصعود إلى أسوار الحصن الذي كان حول القدس، وبدأ القتال على أسوار القدس وسقطت أخيرا الحامية الفاطمية، واستسلمت القدس والواقع أن الفاطميين هم من سلم القدس بسبب خيانتهم وعدم تقديم المساعدة للمسلمين ولحمايتهم.
دخل النصارى القدس بكل وحشية وبدأ ذبح الناس في الشوارع دون تمييز بين كبير أو صغير، إمرأة أو رجل، طفل أو عجوز. التجأ حاكم القدس الفاطمي افتخار الدين مع جنوده إلى القلعة واحتمى بها، وذبح من ذبح من الشعب وفر من فر خارج القدس، واحتمى أكثر الناس في المسجد الأقصى؛ فامتلأ بهم المسجد وساحاته حتى تجمع فيه مائة ألف من الشباب والشيبان النساء والرجال والأطفال، وجعلوا ينتظرون بهلع وخوف شديد، وما كان من الحاكم النصراني بعد أن رأى هذا الجمع المسكين إلا أن أمر بالذبح، ولم يكن ثمة مقاومة من الجمع البريء.
وأخذ هذا من كتب تاريخ النصارى قبل كتب المسلمين، يروي “جوستاف لوبون” هذه القصة عن الكاهن ريمون دوجلوس الذي حضر المشهد ويقول: لقد أفرط قومنا في سفك الدماء في هيكل سليمان حتى صارت الجثث تعوم على الدماء، وصارت الأيادي والأرجل تسبح وما عاد الجنود يطيقون رائحة البخار الذي يخرج من الجثث”…
تقسيم الأقصى
بعد هذه المجزرة العظيمة قسم النصارى الأقصى أقساماً، فجعلوا الجزء الأساسي كنيسة، وقسماً خصص كمساكن للفرسان، وآخر حولوه مستودع للذخائر، وجعلوا أروقة القدس إسطبلاً للخيول. وزاد نفوذهم في بلاد الشام وأعجبوا بالحضارة والعمارة العربية، والسلاح وطريقة قتال المسلمين والملبس والمأكل فحصدوا الكثير من العرب، وأصبحوا يلبسون كلباسهم ويأكلون كأكلهم، ونهلوا من العلوم ما نهلوا من رياضيات وطب وعمارة وعلوم.
إنها كلمة للتاريخ فليقارن من يقرأ بين همجية النصارى والفتح العمري للقدس وتسامح هارون الرشيد مع النصارى والحجاج، ولينصف من شاء أن ينصف وليذعن للحقائق من شاء.
لقد استسلم الشعب في القدس من هول ما رأى من الأحداث الجسام، ولم يستطع تحريك ساكن أمام هذه الهمجية وتخاذل حكام المسلمين، ودب الرعب بينهم، وأعلنت بعض المدن الإستسلام خوفاً من تحقيق مجازر فيهم أيضاً وتفادياً لها.
رد فعل المسلمين بسقوط القدس
هكذا سقطت القدس ونشأت مملكة بيت المقدس النصرانية، وفر الهاربون ممن استطاعوا الهرب إلى المغرب، ومنهم العلماء من بينهم القاضي الهروي -رحمه الله-، فروا إلى أرض الخلافة وبدأوا يخطبون في المساجد يحثون على الجهاد والدفاع عن فلسطين والقدس، وازادت الخطب واشتعلت حمية المسلمين وبدأت المظاهرات تحيط قصر الخليفة الذي لم يتحرك، وما كان منه إلا أن خضع لهم وأرسل للولاة للتجمع للجهاد، ولكن لم يتحرك الولاة لنصرة القدس فقد كان التفتت والضياع وفساد الولاة كفيلاً بإحباط الهمم وتذويب المشاعر.
لقد قامت في القدس أبشع الجرائم التي يطوي التاريخ اليوم صفحاتها، ويعرض عن تصور آلامها، وهي التي لا تزال رائحة الدماء العربية والإسلامية تزكي أرض الأقصى الشريف، وما تزال هذه الدماء تتقاطر إلى اليوم على يد عتاة اليهود وعملائهم.
لعننة الله على الحكام الانجاس . لعنة الله على كل متعالم يقول حرام الخروج على الحاكم الظالم الخاين ابن الكلب