المعتصم بالله: هيبةٌ وبطشٌ لم يشهد لهما مثيل في التاريخ العباسي

شكلت فترة العباسيين -من بعد الأمويين- مرحلةً لا تُنسى من تاريخ الخلافة الإسلامية وهي أطول فترةِ حكمٍ فيها، فقد تعاقب على الحكم فيها عدد كثير من الخلفاء الذين وضعوا بصماتهم وحفروا أسماءهم في كتب التاريخ بإنجازاتهم ونجاحاتهم. ومن بين هؤلاء الخلفاء الخليفة المعتصم بالله الذي اعْتُبر من أقوى خلفاء العهد العباسي وأكثرهم هيبة وشجاعة، فمن هو الخليفة المعتصم بالله؟ وما هي ظروف توليه للخلافة؟ وكيف واجه التحديات الداخلية والخارجية في دولته؟ وما حقيقة قوله بخلق القرآن؟

نسبٌ شريفٌ يلتقي مع أشرفِ الخلق

هو أبو إسحاق محمد بن هارون الرشيد من محمد المهدي بن عبد الله المنصور بن محمد بن علي بن عبد الله بن العباس بن عبد المطلب جد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولد سنة 179هـ في بغداد ووالدته تركية اسمها ماردة من مولدات الكوفة وكانت أحظى الناس عند هارون الرشيد. كان محمد أمِّيا لا يحسن الكتابة وقد رُوي أن المعتصم كان معه غلام في الكُتَّاب يتعلم معه فمات الغلام، وقال له أبوه هارون: «يا محمد، مات غلامك» فقال له المعتصم: «نعم سيدي واستراح من الكُتَّاب»، فقال الرشيد: «وإنَّ الكُتَّاب ليبلغ منك هذا؟ دعوه لا تعلموه»، ومنذ ذلك الحين وهو يكتب ويقرأ قراءة ضعيفة.

وفي المقابل كان المعتصم يحظى ببنية جسمانية قوية للغاية وكان ذا شجاعة وهيبة وكان يتمتع بالقوة والشدة وكانت له خبرة عظيمة في الحروب، حيث روى أبو عبد الله بن دؤاد عنه قائلا: «كان المعتصم يُخرج ساعِده إليَّ ويقول يا أبا عبد الله عُضَّ ساعدي بأكثر قوتك فأمتنع فيقول إنه لا يضُرني، فأروم ذلك فإذا هو لا تعمل فيه الأسِنَّة فضلًا عن الأسنان». وقيل في ذكر أوصافه أنه كان أبيض مشرَبا بالحمرة وحسَن العينين، وهو سادس أولاد الرشيد باسم محمد وثامن الخلفاء العباسيين وشُهد له بأنه كان أحد أعظم الخلفاء العباسيين وأكثرهم بطشا وهيبة.

خلافةٌ آن أوانها بموت المأمون

المعتصم بالله

قبل تولي أبي إسحاق المعتصم الخلافة كان أخوه عبد الله المأمون هو الخليفة من قبله، وهو من أوصى بجعل أخيه المعتصم خليفةً من بعده لما رأى فيه من شجاعة وصفات قيادية تؤهله لمسؤولية الخلافة. وقد فضل المأمون أخاه المعتصم على ولده العباس لتولي الخلافة وأوصى بتوليته خليفةً من بعده، لكن بعد موت المأمون استنكر بعض أمراء الدولة أمر تولية المعتصم بالله خليفةً على العباس بن المأمون لكن سرعان ما أطفأ العباس نار الفتنة وبايع عمه المعتصم تنفيذًا لوصية أبيه الراحل. وقد تولى المعتصم الخلافة في 12 رجب 218هـ بعد وفاة أخيه عبد الله المأمون وقد حضر المعتصم جنازة أخيه وعاد إلى بغداد بعد أن دُفن في طرسوس.

أوضاعٌ تغلغلت آثارها داخل الدولة العباسية

لم يلبث المعتصم طويلا حتى وجد نفسه مثقلا بالعديد من المسؤوليات والأعباء الكبيرة داخل الدولة العباسية، فقد تصادم مع الحركات الطالبية وحركة الزط وثورة بابك وحركة المازيار ومؤامرة الأفشين. وسيأتي بيان كل مرحلة على حدة وإبراز أهم أحداثها وتفاصيلها!

الحركات الطالبية

لم تكن هذه الحركات وليدة عهد المعتصم فحسب، وإنما كانت مشكلةَ جلِّ الخلفاء العباسيين السابقين قبل المعتصم. وشأنه شأن الخلفاء الذين سبقوه كانت سياسته تجاه الطالبيين شديدة للغاية، فقد خرجت في عهده الكثير من الحركات والانقلابات من هذه الفئة. ففي عام 219هـ خرج محمد بن القاسم بن علي الزيدي بالطالقان والتفَّ حوله الكثير من سكان كور خراسان، إلا أن حركته لم تشكل خطرا كبيرا بسبب عدم تنظيمها مما أدى إلى هزيمته على يد أمير خراسان عبد الله بن طاهر وأسره في سامراء. كما توفي في عهد المعتصم محمد الجواد بن علي الرضا عام 220هـ الذي كان أولاده من سلالة المأمون من زوجته أم الفضل وكان يخشى مطالبته بتولي الخلافة ومنافسته على الحكم، إلا أن الجواد مات وارتاح المعتصم لهذه الوفاة.

حركة الزط

وكانت هذه من بين الحركات التي أثقلت كاهل المعتصم أثناء خلافته بسبب ما قاموا به وما تسببوا به، فقد سيطروا على طريق البصرة وصاروا يهددون مرافق الدولة وحالوا دون وصول الإمدادات إلى بغداد. فوجه المعتصم إليهم جيشا بقيادة عجيف بن عنبسة عام 219هـ لصدهم في البطيحة، فشدد عليهم حتى طلبوا الأمان ونفاهم المعتصم إلى عين زربة.

ثورة بابك

كان المعتصم عالمًا بوجود الحركة البابكية وقد كان يرسل حملات للقضاء عليهم، إلا أن بابك الخرمي ضم بحوزته أذربيجان ونشر الرعب في المنطقة واستوجب الأمر القضاءَ على أتباعِه وقد تم ذلك بقيادة إسحاق بن إبراهيم بن مصعب عام 218هـ، وفي تلك الأثناء عيَّن المعتصم أحد أعظم قادته وهو الأفشين حيدر بن كاوس وكان قائدا مُحنَّكًا للغاية حيث وضع خططا واستراتيجيات عسكرية قلبت الموازين لصالحه. وبعدما رأى بابك أنه يواجه قائدا يمتاز بالفطنة والذكاء علم أن قد يحتاج لمساعدةٍ ما، واسْتنجد بملك الروم (ثيوفيل) ووعده بأن يعتنق النصرانية إذا ساعده على قتال المسلمين. فأغار الملك الرومي على منطقة أعالي الفرات واستولى أيضا على (زبطرة) مسقط رأس والدة المعتصم.

واعتبر المعتصم ذلك تحديا شخصيا له أكثر مما هو تحدٍّ للخلافة العباسية، فأصدر لجيشِ الأفْشين أمرًا بمهاجمة مدينة (البذ) كأول هدف عسكري وتمكن الأفشين من الاستيلاء على المدينة عام 222 هـ. وهرب بعد ذلك بابك إلى أرمينيا وكتب الأفشين إلى ملوكها بسدِّ الطرق عليه وسلمه سهلُ بن سنباط بعد أن اكتشف مكان اختبائه، وعاد به الأفشين إلى سامراء عام 223 هـ مع أخيه عبد الله وعذبهما الخليفة فصلبهما وقطع رأسيهما ليجعلهما عبرة. لتنتهي بذلك أحد أكبر المشاكل التي كانت تواجه الحكم العباسي منذ عهد الخليفة عبد الله المأمون.

حركة المازيار

يعود أصل حركة المازيار إلى زعيمها (المازيارُ بن قارن) الملقب بـ(الأصبهذ)، وهو آخر الأمراء القاريانيينَ بطبرستان الذي كان واليا في عهد المأمون على كل من طبرستان ورويان ودنباوند، وكان ذا نزعات استقلالية فأراد الانفصال عن جسم الدولة فاستغل وجود الأفشين ونيته الانقلابَ بالحديث معه وتَشارك نفس الأهداف معه. وقام المازيار بمصادرة الأراضي من الملاك وتوزيعها على الفلاحين وأمر عامله في سرخستان أن يجمع 260 من أولاد القادة ويسلمهم إلى الفلاحين لقتلهم، كما أغراهم بقتل أصحاب الضيعات الفلاحية وأباح لهم منازلهم وحرمهم في محاولة منه لضم قوى الطبقات العامة إليه ودفعها للتخلص من الحكم العباسي.

إلا أن هذه الحركة لم تكن تهديدا حقيقيا على الخلافة العباسية بحيث إنها جاءت في وقت كانت فيه الدولة العباسية مستقرة وفي أوج قوتها، كما أن المؤامرة اكتشفت بعد أن ضبط أمير خراسان عبد الله بن طاهر رسالة بين المازيار والأفْشين، وحصل الخليفة على باقي الرسائل واتضحت حينها نياتهم ومُؤامرتهم فقُبض على المازيار وأُعْدم وصُلب إلى جانب بابك.

ظهور العنصر التركي

المعتصم بالله

كان المعتصم يميل إلى الأتراك كثيرا بحكم أن والدته تركية وأوكل مهمة سلامته الشخصية وحمايته إلى فرقة من الأتراك، أعجب المعتصم بصفاتهم فهم شديدو البأس والقوة ولديهم الصفات نفسها التي اتصف بها المعتصم ولم يكن يثق بالعرب أبدا لأنهم كثيرو التقلب والاضطراب ضد الحكم. وهكذا صار العنصر التركي جزءا أساسيًّا من الدولة العباسية في فترة المعتصم، فقد صار لهم أثر كبير على الحياة السياسية والاجتماعية بالرغم من عدم كونهم أهل حضارة عريقة وباتَ الحرس التركي يمثل دعامة أساسية من دعامات الخلافة أيام حكم المعتصم بالله.

وفي الواقع فإن بداية هؤلاء الأتراك لم تقتصر على العهد العباسي وإنما ظهروا منذ عهد بني أمية على أثر الفتوحات الإسلامية لبلاد ما وراء النهر، لكن لم يكن لديهم أي تأثير سياسي على الدولة لكن سرعان ما تغلغلوا في المجتمع الإسلامي في عهد بني العباس وصاروا يتمتعون بنفوذ كبير وصاروا يظهرون في الواجهة بوضوح واستمرار. وقد استخدمهم المأمون من قبل في فترة خلافته في الجيش لتحقيق نوع من التوازن بين العنصرين العربي والفارسي، وجاء المعتصم ليعتمد عليهم بشكل شبه كامل ويستغلهم للحفاظ على دولته والإبقاء على خلافته فاسْتخدمَهم على نطاق واسع في الجيش والمناصب القيادية. موجها بذلك ضربة قاسية للجند والقادة العرب ومتجاهلًا سياسة جده الأكبر المنصور الذي حاول الحفاظ على التوازن في الجيش بين الفرق العربية والفرق الأعجمية.

إلا أن هذا الاعتماد المبالغ فيه على العنصر التركي كانت له آثار قريبة وبعيدة المدى غيرت العصر العباسي وجعلته أضعف بعد ولده الواثق بالله، فأما على المدى القريب فقد تسبب هذا الاهتمام بالأتراك في توليد الكراهية لدى العرب، فقاموا بتدبير مؤامرة ضد الخليفة لقتله بزعامة العباس بن المأمون وعجيف بن عنبسة لكنها فشلت وشهدت مقتل كل منهما، ثم بدأ المعتصم بإقصاء العرب والفرس تدريجيا من مهام الجيش والقيادة. وأما الننائج بعيدة المدى فقد تجَلَّت في دخول الخلافة العباسية مرحلة جديدة صار فيها الخليفة ضعيفا للغاية ومتحَكَّمًا به من طرف هؤلاء الأتراك وصاروا يتدخلون في شؤون الحكم، وأعقب ذلك ظهور دول انفصالية داخل الدولة العباسية وفي مناطق مصر وبلاد الشام مثل الدولة الطاهرية والدولة الصفَّارية والدولة السامانية والدولة الطُّولونية والدولة الأخْشيدية.

مؤامرة الأفشين

بدأت هذه المؤامرة تزامنا مع حركة المازيار عندما حرَّض الأفشين المازيار على العصيان والثورة، وكانت نوايا القائد التركي تأسيس دولة انفصالية له في (أشروسنة) وقد مهَّد طريقه للوصول إلى أهدافه عن طريق استغلال حركة المازيار ومحاولة استقطاب السكان للانقلاب على الخليفة وتحريض منكجور الفرغاني كذلك على العصيان والثورة. لكن مؤامرته انْكشفت وقُبض عليه واسْتُدعي للمحاكمة لكن محضر المحكمة لم يشر إلى أي شيء يتعلق بالمؤامرة، بل اتُّهِم بأنه لم يعتنق الإسلام أساسًا ولا زال لديه تعصُّبٌ للمجوسية، وقد اتخذ المعتصم هذه الإجراءات حتى لا يتسرب الشك والنفور عند القادة الأتراك الآخرين، وأُرْسِل الأفشين للسجن وبقي فيه حتى مات عام 226 هـ.

إخضاعٌ منقطع النظير للبيزنطيين

المعتصم بالله

شهدت الدولة العباسية في عهد المعتصم عدة أحداث دارت بينها وبين أطراف خارجية أجنبية وكانت لها علاقات مختلفة مع هذه الأطراف، وتتجلى أبرز هذه العلاقات في العلاقة مع البيزنطيين بحيث شهدت هُدوءًا في السنوات الأولى من خلافة المعتصم بسبب انشغاله بحركة بابك الانقلابية. وقد عاصره ثيوفيل كملكٍ للروم، وهو الذي حاول استغلال انشغال الخليفة بالأوضاع الداخلية لاستعادة صقلية من أيدي المسلمين بطريقةٍ ما، وشجَّعه على ذلك بابك الذي وعده باعتناق المسيحية إذا فعل. وقام بالاستيلاء على زبطرة مسقط رأس والدة المعتصم بالله وأسر فيها الكثير من المسلمين وسبى المسلمات كما هاجم سميساط وملطية وأحرقها، وأغضب هذا الأمر الخليفة فانتظر حتى تخلص من حركة بابك الخرمي ثم جهَّزَ جيشًا كثيفًا ذا عتادٍ قوي وسار به للانتقام مِمَّا فعلَهُ الملك البيزنطي.

خرج المعتصم بالجيش متَّجِهًا نحو مدينة عمورية مسقط رأس أسرة الإمبراطور الرومي ثيوفيل عازما على تدميرها، وجعل الخليفة أنقرة أول هدف عسكري لحملته وأمر الجيش بالانقسام لثلاث مجموعات والدخول إلى الأراضي البيزنطية من ثلاثة محاور مختلفة. والْتَقَت المجموعة الشرقية بقيادة الأفشين بجيش الإمبراطور بعد أن توغَّل الأفشين في آسيا الصغرى صَوْبَ (توقات) فتواجه الجيشان، وانتصر المسلمون بعد أن قلبوا موازين المعركة لصالحهم وهرب الإمبراطور من ساحة المعركة والتقت المجموعات الثلاث عند سهل أنقرة فأنزلوا بالمدينة الدمار والخراب.

بعد أن رأى الإمبراطور البيزنطي شدة وبأس الخليفة المعتصم أرسل إليه طلبًا للصلح معتذِرًا عمَّا بدر عنه من مذبحة زبطرة وتعهَّد ببنائها وإعادة السكان إليها، لكن الخليفة المعتصم بالله رفض اعتذار الإمبراطور وتابع زحفه باتجاه عمورية فهرب الإمبراطور من هناك ووصل جيش المعتصم إلى عمورية التي تميزت بقوة دفاعاتها وأسوارها فأقاموا الحصار عليها حتى استسلمت عام 223 هـ فأسر المسلمون كثيرًا من أهلها وغنموا غنائم وفيرة وهدم المعتصم أسوارها وأمر بترميم زبطرة وتحصينها.

بدعةٌ ابْتُلِيَ بها الناس في عهد المعتصم

المعتصم بالله

كما أشرنا سابقا فإن المعتصم لم يكن ذاك الشخص المُثقَّف والمُتَضلِّع في العلم بل كان أميا ضعيف القراءة والكتابة، وبهذا نادى بقضية خلق القرآن وسار على خطى أخيه المأمون باتباع أقوال المعتزلة في هذا الجانب. وقد امتُحِنَ الناس في فترة خلافته ببلاءٍ شديد حيث أمر المعتصم أن يُعَلِّمَ المعلمون الصبيان قضية خلق القرآن، وقد قتل عليه خلقًا من العلماء وضرب الإمام أحمد بن حنبل وعذَّبَهُ أشدَّ العذاب وسَجَنَه. وقد كان للأمية أثرٌ كبيرٌ على اتباع المعتصم لوصية أخيه المأمون، فلو كان عالمًا بأمور الدين لما وصل به الحال إلى اتِّباع المعتزلة وموافقتهم على بدعهم.

 وفاة المعتصم

توفي المعتصم بالله في 17 ربيع الأول عام 227 هـ بعد إصابته بمرضٍ شديدٍ قضى عليه بعد احْتِجامِه، وقد أوصى بالولاية لابنه هارون الواثق ولم يُشرك معه أحدًا في الولاية.

المصادر:

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى