هارون الرشيد: نبذة عن أحد أقوى الخلفاء العباسيين

لا يخفى على أحدٍ منا أن الدولة الإسلامية مرت بالعديد من الفترات والمراحل، فقد بدأت منذ عهد سيد البشرية محمد صلى الله عليه وسلم واستمرت مع الخلفاء الراشدين ثم إلى الأمويين ثم إلى العباسيين. وقد امتازت كل فترة من هذه الفترات بظهور خلفاءَ أقوياء سطَّروا أسماءهم بأحرف من ذهب، ومن بين هؤلاء الخلفاء الخليفة العباسي هارون الرشيد الذي اشتهر بنُبله وشجاعته، وكان له من الإنجازات ما جعله رمزا من رموز فترة الخلافة العباسية. فمن هو هارون الرشيد؟ وكيف كانت حياته قبل الخلافة وبعدها وما أبرز إنجازاته وأثرها على الحضارة الإسلامية؟ 

من هو هارون الرشيد؟

هو هارون بن محمد المهدي بن عبد الله المنصور بن محمد بن علي بن عبد الله بن العباس بن عبد المطلب. ولد في الريّ عام 145هـ، أبوه هو محمد المهدي، وأمه أم الهادي اليمنية الجرشية الملقبة بالخيزران. وأخوه الأكبر موسى الهادي الذي تولى الخلافة قبله. 

وقد جاء في صفاته أنه كان أبيض طويلًا جميلًا فصيحًا، يحب العلم وأهله، وكان يعظِّم حرمات الإسلام ويبغض الكلام في معارضة النص. وقد رُوي أنه كان يحج عامًا ويغزو عامًا ويصلي في اليوم مائة ركعة إلى أن وافته المنيَّة، وقد تولى الخلافة في عمر يناهز 22 سنة بعد وفاة أخيه موسى الهادي في عام 170 هـ، ووافته المنية عام 193 هـ بِطوس.

حياة هارون الرشيد قبل تولِّي الخلافة

لمَّا صار هارون شابًّا كان أبوه يرشِّحه بقوة للخلافة لدرجة أنه ولَّاه على بعض المهام حينها، فقد جعله أميرا على الصائفة في فترة ما بين 163-165 هـ، إضافة إلى توْليته على المغرب عام 164 هـــ من الأنبار إلى أطراف أفريقيةَ. وفي سنة 166هـ جعله أبوه وليَّ عهد الخلافة من بعد أخيه موسى الهادي، وقد أظهر هارون من الشجاعة والإقدام ما جعل محمد المهدي يغير رأيه بخصوص الخلافة بحيث أراد تولية هارون الرشيد على موسى الهادي، إلا أن الموت حال دون ذلك وصار الهادي هو الخليفة من بعد أبيه الراحل.

بموجب وصية الخليفة الراحل محمد المهدي كان هارون الرشيد هو ولي العهد من بعد موسى الهادي، إلا أن الهادي خطر له أن يخلع أخاه هارون من ولاية العهد ويعيَّن ابنَه جعفرا ولي العهد الجديد. وقد وافقه القادة على ذلك آنذاك وتكلموا مع الشيعة حول الرشيد واجتمعوا في مسجد الجماعة وقالوا لا نرضى عنه. وقد بدأت علامات عزل الرشيد بالظهور، ففي إحدى المناسبات كان هارون الرشيد راكبًا هو وجعفر بن الهادي فمروا على قنطرة والتفت أبو عصبة الشرطي إلى هارون وقال له مكانك حتى يجوز ولي العهد، وما كان من هارون الرشيد إلا أن قال: «السمع والطاعة للأمير».

استمرَّت محاولات عزل الرشيد من طرف الهادي، مما أدى إلى اجتنابه من طرف الناس وصاروا يتهرَّبون منه إلا تابعًا للرشيد وهو يحيى بن خالد الذي دائما ما كان يلازمه. وقد تقبَّل هارون قرار الخلعَ بصدر رحب ولم يكن ينوي الثورة أو أي شيء، إلا أنَّ تابِعه يحيى نصحه بألا يفعل. وبلغ ذلك الهادي فاستدعى هذا الأخير يحيى فحدثه في هذا فقال له يحيى: «يا أمير المؤمنين، إنك إن حملت الناس على نكث الأيمان هانتْ عليهم أيمانهم، وإن تركتهم على بيعةِ أخيكَ ثم بايعتَ جعفرًا من بعده كان ذلك أوْكد لبيعة هارون». فقال له الهادي: «صدقت ولي في ذلك تدبير».

لكن مستشاري الهادي ما فتئوا يحرِّضونه على الرشيد حتى صار يضيق منه ويغضب منه، واستمر الحال هكذا وألسنة الهادي ومستشاريه تتَطاول على الرشيد حتى جاء مرضُ الهادي ليقطع ذلك النزاع بأكمله. وقد اتهم الناس أم الهادي بأنها هي من قامت بتسميمه لأنه عزلها ومستشاريه من المساهمة في قرارات الحكم ولأنه كان يسيء إلى هارون الذي كان برًّا بأمه. وقد أرسلت أمُّ الهادي إلى يحيى ليقوم بتجهيز ما يلزم تجهيزه ليتولى هارون الرشيد الخلافة عام 170 هـ بعد موت أخيه موسى الهادي.

تولي هارون الرشيد الخلافة

لما مات موسى الهادي جاء يحيى بن خالد إلى هارون ليلًا وأيقظه من نومه وأخبره بما حدث، فسمَّى له جميع الأقاليم حتى يستشير معه في الولاة المناسبين. وقد عيَّن الرشيد يحيى بن خالد وزيرًا له يشاوره في أمور الحكم، فكان أول ما فعله هارون الرشيد أن صلَّى الجنازة على أخيه وأمر بدقِّ عنقِ أبي عصبة الشرطي الذي سبق له وأهان الرشيد في موكب الأمير جعفر بن موسى الهادي. وبعدها سار الخليفة هارون الرشيد إلى بغداد عاصمة الخلافة.

ولما بلغ خبر موت الهادي أرجاء البلاد، قام خزيمة بن خازم بالهجوم على جعفر بن الهادي وقال له: «والله لأضربن عنقك أو تخلعها» (أي ولاية العهد التي ولاه إياها أبوه بدلًا من هارون)، فما كان من جعفر إلا أن نادى المسلمين قائلا: «يا معشر المسلمين، من كانت لي في عنقه بيعةٌ فقد أحْلَلْتُه منها، والخلافة لعمِّي هارون، ولا حق لي فيها».

وبدأ هارون الرشيد في بسط سيطرته على الولايات والأقاليم كلها، فبدأ يعين من يراه مناسبًا ويعزل من يراه مقصرًا، كما أنه عرف بالجهاد وكثرة الحركة حتى أنه كان يحج عامًا ويغزو عامًا وكان يرتدي قلنسوة مكتوبا عليها: حاج وغازٍ. وكان الرشيد يقود جيوشه بنفسه إلى أرض المعركة وعرف أنه أكثر الخلفاء قوةً وهمَّة، حيث إنه لقب لاحقًا بجبَّار بني العباس نظرا لما حققه من إنجازاتٍ ونجاحات باهرة زادت من هيبة وقوة ومكانة الدولة الإسلامية في مختلف بقاع العالم آنذاك.

أهم إنجازات هارون الرشيد وأثرها على الخلافة العباسية

ما كانت الخلافة العباسية لتكون بهذه الشهرة والقوة لولا خلافة هارون الرشيد، فقد حقق بالجهاد ما لم يحققه سابقوه من العباسيين من قبل. فحتى في عهد أبيه محمد المهدي كانت توكل إليه مهام قيادة الجيوش للجهاد والغزو، لهذا فقد اكتسب خبرة وتجربة لا يستهان بها في هذا المجال. وأول ما افتتح به الرشيد خلافته هو السير على خطى أبيه وأخيه بالهجوم على الزنادقة والملاحدة وقتل الكثيرين منهم.

وبعد توليه الخلافة بدأ هارون الرشيد في فتح العديد من الأماكن على يد قادته، حيث فتح عبد الرحمن بن عبد الملك مدينة دبسة سنة 176 هـ، وأتبعه بعد 5 سنوات بفتح حصن الصفصاف عنوة. وكان أشهر ما عرف به الرشيد هو حربه ضد الروم لدرجة أنه كان يحاربهم كل عام تقريبًا، وقد قام الرشيد بتنظيم الثغور المطلة على الروم ووضع فيها كبار القادة وأقرب المقربين إليه لضمان حماية الحدود ضد الروم.

ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد، بل قام هارون الرشيد بتنشيط الأسطول الإسلامي على نحوٍ لم يعرف من قبل، فقام على إثر ذلك بغزو سواحل بحر الشام ومصر وفتح بعض الجزر واتخذها قواعد عسكرية له. فما كان من الروم إلا أن طلبوا الهدنة والصلح لإيقاف غارات الرشيد وغزوه، فعقدت ملكةُ الروم آنذاك (إيريني) صلحًا مع الرشيد مقابل دفع الجزية بشكل سنوي. إلا أن معاهدة الصلح نُقِضت من طرف ملك الروم الجديد (نقفور) بعد خلع إيريني، مما أدى إلى غضب الرشيد وقيادة الجيش بنفسه ليواجه نقفور ويهزمه شر هزيمة ويفتح هرقلة ويمنعه من القدوم إليها مجددًا.

ولم تنحصر جهود هارون الرشيد في الفتوحات والتحديات الخارجية فقط، بل كان أيضا منهمكًا في صد النزاعات الداخلية وإخماد نيران الثوار والمعارضين. وقد كان أشد الفئات المعارضة له والتي كانت تشكل خطرًا على حكم الدولة جماعة الطالِبيين، لكن الرشيد تصدى لهم وقام بجلبهم للمحاكمة وإعدامهم بعد الاعتراف بنيتهم الانقلاب على الحكم. وإلى جانب الخوارج، ظهرت مجموعة من الفئات الأخرى التي طالبت بالاستقلال في عدة أماكن منها مصر وإفريقيا والشام وجررحان وغيرها. لكن الخليفة هارون تصدى لها جميعا بحكمته وحنكته العسكرية.

كان الخليفة هارون الرشيد ينوي تولية الخلافة إلى ابنه عبد الله المأمون لِما رأى فيه من الشجاعة والثبات والحزم، لكن زوجته زبيدة أصرت على أن يكون ابنها الأمين هو الخليفة حيث قالت لزوجها هارون: «ابني والله خير من ابنك وأصلح لما تريد، ليس بكبير سفيه، ولا صغير فيه». ورد عليها هارون الرشيد قائلا: «ويحك إن ابنك لأحب إلي، إلا أنها الخلافة لا تصلح إلا لمن كان لها أهلا». لكنه غيَّر رأيه وولى ابنه الآخر محمدًّا الأمين بعد الإصرار والإلحاح الكبيريْن من طرف زوجته زبيدة على ذلك.

كان لجميع هذه الإنجازات العظيمة في عهد هارون الرشيد أثر عظيم في علو شأن الدولة الإسلامية، حيث اعتبر عهد خلافته واسطةَ العقد بالنسبة للخلافة الإسلامية. وقد اكتملت في عهده ألوان العظمة والازدهار والمجد في شتى المجالات، فقد اعتنى بالعلم أشد الاهتمام ومجَّد العلماء والفقهاء وكان شديد التواضع معهم والسماع عنهم بين الفينة والأخرى. وقد دامت فترة خلافة هارون الرشيد مدة 23 سنة كانت كلها ازدهاراً ورخاءً على الأمة الإسلامية آنذاك، إلى أن اشتد عليه المرض بطوس ومات بها عام 193 هــ.

بعض قصص هارون الرشيد مع العلماء والزهاد

هارون الرشيد نبذة عن أحد أقوى الخلفاء العباسيين

اشتهر الخليفة هارون الرشيد في عصره باهتمامه الكبير بالعلماء والشيوخ، فكان دائم السؤال عنهم والسماع منهم، بل إنه تتلمذ على أيديهم منذ عصر أبيه الراحل محمد المهدي. وقد وقعت للخليفة هارون رشيد مع هؤلاء العلماء بعض القصص والأحداث الشهيرة التي لا زال صداها يتردد إلى يومنا هذا.

قصة هارون الرشيد مع الإمام الشافعي

كانت بداية بزوغ حكمة الإمام الشافعي في عهد الخليفة هارون الرشيد، وقد صادف أن صاحبًا له كتب إليه هارون الرشيد ليخرج قاضيًا إلى اليمن. وهذا الصاحب هو مصعب بن عبد الله، وقد سأل الشافعيَّ عما إذا كان يريد المجيء معه، فوافق الشافعي فانطلق معه إلى اليمن. فلما وصلا إلى اليمن اشتغل مصعب بالقضاء، واشتغل الإمام الشافعي بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر حتى علا شأنه وذاع صيته في اليمن.

وقد صادف ظهورَ الشافعي انكشافُ مؤامرة بعض الطالبيين الذين كانوا يخططون للانقلاب على الحكم. فبعث عامل اليمن مطرف بن مازن إلى الخليفة هارون الرشيد قائلا: «إذا أردت اليمن لا يُفْسَدُ عليك ولا يخرج من يديك، فأخرج محمد بن إدريس (الشافعي)» وذكر أقواما من الطالبيين. فَسِيقَ الإمام الشافعي مع الطالبيين بتهمة الثورة على الحكم، فلما وصلوا إلى هارون الرشيد لمحاكمتهم تم إعدام الطالبيين بعد ثبوت محاولة انقلابهم، ولما أُتي بالإمام الشافعي بدا عليه علو الشأن والعلم، حتى إنه كان هادئ النفس أمام الخليفة فقال له: «يا أمير المؤمنين، لست بطالبي ولا علوي وإنما أُدخلت في القوم بغياً علي، وإنما أنا رجل من بني عبد المطلب بن عبد مناف بن قصي، ولي مع ذلك حظٌّ من العلم والفقه، والقاضي يعرف ذلك».

وهكذا دفع الإمام الشافعي عن نفسه التهمة بذكر نسبه الذي يعود إلى عبد المطلب بن هاشم جد رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو نفس نسب الخليفة هارون الرشيد، وشهادة القاضي محمد بن الحسن الشيباني له بقوله الحق. وفتح له هذا الباب لأن يصبح أحد الأئمة الأربعة الكبار في الإسلام، وزاد شأنه وعلا مقامه عند هارون الرشيد حتى إنه أرسل في طلبه لمناظرة القاضي محمد بن الحسن الشيباني في بعض المسائل، وما كان من الإمام الشافعي إلا أن أجاب عن جميع المسائل بفصاحةِ لسان تدل على سعَة علمه وتبحره في علوم الفقه والدين. وكيف لا وقد قال عنه عامل اليمن مطرف بن مازن إنه يفعل بكلامه ما لا يستطيع أن يفعله المجاهد بسيفه.

وبعد ما رأى الخليفة هارون الرشيد في الشافعي من سعة العلم لدى الإمام الشافعي صار محبَّبا عنده وصار يقربه من كل مجلس لدرجة أن الخليفة قال له: «أنا أمير المؤمنين وأنت القدوة، فلا يدخل علي أحد من الفقهاء قبلك».

قصة هارون الرشيد مع مالك بن أنس

ما يُعلم أن لمالك رحلة قط لطلب العلم إلا للرشيد، حيث إنه كان يسافر بولديه الأمين والمأمون لسماع الموطأ من عند مالك. وحتى من قبلُ كان أبوه المهدي يلحُّ على الإمام مالك أن يأتي للقصر ويعلم ولديه، إلا أن مالكا كان يقول للمهدي: «لا يا أمير المؤمنين، العلم يُؤتى ولا يأتي». وتتلمذ الرشيد على الإمام مالك ودرس عنده علوم الفقه والحديث، وقد كان الرشيد يحترم أستاذه مالكًا كثيرًا، حتى إن ذاك الاحترام والتوقير بقي مع الرشيد حتى بعد توليه الخلافة.

وكان دائمًا يزوره ويجلس بين يديه ويسمع منه، وفي إحدى المرات زاره الخليفة هارون الرشيد مجددًا ودخل وجلس بجانب الإمام مالك. فقال له الإمام مالك: «مَن تواضع لله رفعه، ومن تكبر وضعه». فقال له الرشيد: «ماذا صنعت؟»، فقال الإمام مالك: «إن من إجلال الله إجلال ذي الشيبة المسلم في مجلس عِلمه، فقم واقعد بين يدي»، فقام الخليفة هارون الرشيد ممتثلًا لأمر الإمام مالك.

قصة هارون الرشيد مع الفضيل بن عياض

وتستمر قصص هارون الرشيد مع العلماء وهذه المرة مع الفضيل بن عياض الذي يعتبر أحد كبار علماء مكة المكرمة. وقد حجَّ هارون الرشيد في عام 181 هـ، ودعا إليه جميع علماء مكة المكرمة وكان الفضيل بن عياض آخر من يدخل منهم. وقد وقعت بينهما قصة اشتهر بها الفضيل بن عياض وزاد بها منزلة عند هارون الرشيد، فقد خرج الخليفة ذات ليلة ومعه الفضل بن الربيع يبحثان عن بعض الإجابات للأسئلة التي راودت هارون الرشيد. فمرَّا على سفيان بن عيينة وعبد الرزاق بن همام وسألهما الخليفة فما أجاباه عما سأل، وقضى ديْنهما ورحل.

وعندما وصلا إلى الفضيل بن عياض وقرع الفضل بن الربيع الباب فأجاب ابن عياض: «من هذا؟» فقال ابن الربيع: «أجب أمير المؤمنين». قال ابن عياض: «ما لي ولأمير المؤمنين؟» فقال ابن الربيع: «سبحان الله أما عليك طاعته؟»، ففتح الباب واتكئ في زاوية بعيدة في بيته، فسبقت يد الرشيد يد ابن الربيع إليه فقال ابن عياض: «أواه من كفٍّ ما ألينها إن نجت من عذاب الله تعالى». ثم قال الرشيد: «جْد لنا ما جئنا له يرحمك الله»، فقال له الفضيل بن عياض: «وفيم جئت؟ حملتَ على نفسك وجميع من معك حملوا عليك حتى لو سألتهم عند انكشاف الغطاء عنك وعنهم».

وروى له بعض الأقوال التي أشيرَ بها على الخليفة عمر بن عبد العزيز، وذكر أنه جمع ثلاثة من كبار الفقهاء في زمانه وهم سالم بن عبد الله ومحمد بن كعب ورجاء بن حيَوة. فقال لهم إني ابتليت بالخلافة فأشيروا علي، فقال له سالم بن عبد الله: «إن أردت النجاة غدًا من عذاب الله، فصُم عن الدنيا وليكن إفطارك فيها الموت» وقال له محمد بن كعب: «إن أردت النجاة من عذاب الله غدًا، فليكن كبير المسلمين لك أبا وأوسطهم عندك أخًا وأصغرهم ولدًا. فبرَّ أباك وارحم أخاك وتحنَّن على ولدك». وقال له رجاء بن حيوة: «إن أردت النجاة من عذاب الله غدًا، فأحب للمسلمين ما تحبه لنفسك، واكره لهم ما تكرهه لنفسك، ثم متى شئت مت».

فقال الفضيل بن عياض للخليفة هارون الرشيد: «وإني لأقول لك هذا وإني أخاف عليك أشد الخوف يوم تزلُّ الأقدام، فهل معك رحمك الله من مثل هؤلاء القوم من يأمرك بهذا؟» فأجهش الخليفة بالبكاء حتى كاد يغمى عليه، فأراد الرشيد أن يكافئه، لكن ابن عياض قال له: «سبحان الله! أنا أدلك على النجاة وتكافئني بمثل هذا؟ سلمك الله ووفقك». ثم صمت الفضيل ولم يقل شيئا، وخرج من عنده الرشيد والوفد المرافق له فقال لابن الربيع: «إذا دللتني على رجل فدلني على مثل هذا، هذا سيد المسلمين اليوم».

وقد كانت هذه من بين الكلمات العميقة التي أثرت على قلب الرشيد وكانت بمثابة وقود روحي لقلبه، وهذا ما جعله أفضل الخلفاء في عصره وحقبته. وقد عرف الفضيل بن عياض أن صلاح الخليفة هو من أجلِّ النعم على العباد فقال: «لو كانت لي دعوة مستجابة لا أجعلها إلا في إمام صالح، لأنه إذا صلح الإمام أمِنَ العباد»، وقد كان الفضيل يحب الخليفة هارون ويحترمه كثيرًا، حتى إنه قال عنه: «ما من نفس تموت أشد علي موتًا من هارون أمير المؤمنين، وددت أن الله زاد في عمره من عمري». وبعد موت هارون الرشيد انتشرت الفتن وكثرت الأقاويل، فما كان من الناس إلا أن قالوا: «كان الشيخ -أي الفضيل بن عياض- أعلم بما تكلم به».

مثل هذه القصص والأحداث هي ما كان يجعل الخليفة هارون الرشيد دائمًا خاشع القلب، كلما سمع آية أو حديثًا أو موعظة من العلماء بكى حتى يغشى عليه من شدة تأثره. فكان حبه للعلماء والفقهاء وتوقيره لهم سببًا من أسباب البركة في حكمه وخلافته، وشهد له العلماء وكبار المشايخ والصغير والكبير بصلاحه وتقواه وأنهم لن يشهدوا مثيلاً لهذا الخليفة البار المتقي.

خلاصة

وهكذا فإن الدولة الإسلامية في عهد هارون الرشيد عاشت عصرًا ذهبيًا لم تشهد له مثيلاً منذ العصر الذهبي للإسلام، فما كانت الخلافة العباسية ليذيع صيتها لولا إنجازات الخليفة هارون الرشيد. وقد دبَّت أخبار هذا الخليفة المقدام في جميع بقاع العالم لِما كان له من قوة وبأس شديديْن، لدرجة أن اسمَه صار مسطرًا في أبرز كتب التاريخ والملوك. إلا أن كثرة الانقسامات بعده أدت إلى ضعف الحكم العباسي واندثاره على يد المغول والتتار.

المصادر

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى