المظفر قطز.. قائد المسلمين في عين جالوت
نشأ المظفَّر قطز في رحاب الجيش الأيوبي، الذي استقدم الآلاف من العبيد من دول آسيا وآسيا الصغرى وروسيا، وقد أُطلق عليهم اسم (المماليك)، وهي كلمةٌ مشتقة من كلمة مملوك أي العبد الذي لا حرية له وأمره بيد سيده، وكان هؤلاء العبيد ملكًا للسلطان الأيوبي، الذي أدرجهم في الجيش، وأقام لهم قِلاعًا على نهر النيل في مصر، ليُعرفوا فيما بعد باسم (المماليك البحرية)، وجديرٌ بالذكر أنهم كانوا قواتٍ برية، وليسوا بحّارة، فشكلوا فيما بعد عماد الجيش الأيوبي، وقوته الضاربة، وتدرَّج غير قليل منهم في المناصب، حتى وصلوا رتبة القادة.
وكان من بين هؤلاء المماليك مملوكٌ يدعى قطز، الذي خدم في الجيش الأيوبي وترقى في المناصب حتى بلغ مرتبة القادة، وقد برز نجمه في عهد السلطان الأيوبي نجم الدين أيوب، فقد شكَّل مع كوكبةٍ من قادة المماليك نخبةً عسكرية استطاعت هزيمة الحملة الصليبية التي قادها لويس التاسع عشر ملك فرنسا، الذي اُسر وأخذ سجينًا، لكن بعد موت السلطان نجم الدين أيوب بدأ المماليك -ومن بينهم قطز- بالتمرد والتدخل في السياسة، فاتفقوا مع (شجرة الدر) زوج السلطان نجم الدين أيوب على خلع ابنه (توران شاه)، الذي كان يطمح للقضاء على المماليك، فقتلوه وعينوا شجرة الدر مكانه، التي تزوجت فيما بعد من مُعزِّ الدين أيبك، حتى يكون ملكًا في الواجهة، إذ رفض الناس حكم المرأة، فاضطرت للزواج من أيبك الذي ظنته ضعيفًا، لكنه كان على خلاف ما توقعت، فقوّى حكمه وأسَّس لنفسه مركزًا وقرّب قطز وجعله قائدًا للجيش بعد فارس الدين أقطاي، لكنه لم يسلَم من شجرة الدر التي قتلته في الحمام، بعد أن أراد التزوج بغيرها وإبعادها عن الحكم، لكن قطز أمر المماليك بالانتقام منها وقتلِها، وتنصيب ابن عز الدين أيبك سلطانًا على مصر. يقتص منها قطز وبقية المماليك، ثم يأمر قطز بخلع نور الدين علي بن أيبك، بعد أن استطاع إبعاد خطر الأيوبيين عن مصر.
سلطنة قطز
بدأ العالم الإسلامي يتعرض لهجمةٍ كبيرةٍ من المغول القادمين من الشرق، الذين دمروا أثناء تقدمهم أعتى القلاع والمدن، فاحتلوا خراسان وإيران، وأسقطوا قلعة (ألموت) معقل الباطنية والحشاشة التي عجزت عنها جيوش السلاجقة والخوارزميين، واستمر زحفهم حتى وصلوا إلى العراق واقتربوا من عاصمة الخلافة بغداد، في ذلك الوقت كان الخلاف على أشدّه بين المماليك والأمراء الأيوبيين في الشام، حتى وصل بهم الأمر إلى صِدام مسلَّح، لكن بعد أن اقترب المغول واقتحموا بغداد أحسَّ المماليك بالخطر، فعاد قطز إلى مصر لينظِّم أمر الدولة، التي ضعفت بسبب السلطان الصغير الذي يحكمها، فتوجه إلى شيوخ الدولة، وطلب منهم التوجه للسلطان حتى يخلع نفسه، لكن السلطان رفض ذلك أول الأمر، فأمر قطز بخلع نور الدين علي بن أيبك، وتولي السلطنة بدلاً منه، ولُقِّب بالسلطان المظفر قطز.
المظفر قطز والمغول
تولى قطز السلطنة في وقتٍ سيطر فيه المغول على بلاد الشام والعراق، واستباحوا دمشق وبغداد وميافارقيْن وحلبا وغيرها من البلاد، بالإضافة إلى تحالف القوى الصليبية المتبقية مع الجيش المغولي، ووصول الدولة إلى حالةٍ من الضعف ونقصٍ في الأموال، فعمد أول الأمر إلى إثارة الروح الدينية بين الناس، وذلك من خلال الفقهاء والشيوخ، حتى إنهم بدؤوا بجمع التبرعات للجيش من خلال دعوتهم، ومن ثم فرض ضريبة على الشعب لرفد موازنة الدولة التي قاربت أن تُفلس، فباع كل ما لديه وما يملك، وكذلك فعل الأمراء والوزراء والقادة، حتى يرى الناس تضحياتهم فلا يمانعوا من دفع الضريبة، وكان هذا الرأي هو رأي الشيخ العز بن عبد السلام، الذي أفتى بصحة ووجوب الضريبة.
وحتى يزيد قطز من معنوية جنوده أمر بقتل رسُل المغول، الذين جاؤوا برسالة تهديد قوية إلى قُطز، وهي تعدُّ من أشهر الرسائل في التاريخ، إذ امتلأت تهديدًا ووعيدًا في حال عدم الاستسلام، فقطعت رؤوس الرسل، وعُلقت على أسوار القاهرة لتكون إعلانًا للحرب، ومن ثمَّ توجه قُطز بجيشه نحو غزة، فعقد في طريقه معاهدةَ صُلْح مع إمارة عكا الصليبية، ليأمن على ظهر الجيش، ومن ثم اختِير موقع عين جالوت بعيدًا عن المدن لِضمان حرية الحركة، وفي هذه المعركة استطاع الجيش الإسلامي إلحاق أول هزيمةٍ بالمغول، وقُتل القائد (كتبغا) الذي عاث فسادًا في الأرض.
تطهير بلاد الشام وموت قطز
وبعد معركة عين جالوت وإبادة الجيش المغولي توجَّه قطز نحو دمشق لفتحها، لكنه أرسل رسالةً لقوات الحامية المغولية في دمشق تُعْلِمهم بهزيمة جيشهم، الأمر الذي دفع أهالي دمشق إلى إعلان الثورة والقضاء على الحامية المغولية، وفُتحت أبواب دمشق لقطز وجيشه، الذي سارع إلى إرسال بيبرس مع فرقةٍ من الجيش لتطهير بلاد الشام من المغول، فسار بيبرس إلى حماة، ومن بعدها إلى حلب، وطارد فلول الجيش المغولي وألحق بهم الهزائم، ومن ثمّ عاد ليلتحق بجيش السلطان قطز وهو عائدٌ إلى مصر، لكنه فوجئ بأنّ قطز قد وزع الإمارات وعيَّن الولاة بعد أن أعلن نفسه سلطانًا لمصر والشام، وقد كان قطز قبل قتال المغول قد وعد بيبرس بإمارةٍ يحكمها، لكنه رجع بوعده خوفًا من أن يستقلَّ بها بيبرس، الأمر الذي جعل بيبرس يُضمر الشر لقطز، فترقبه حتى خرج من عسكره للصيد، فلحق به مع جماعةٍ من المماليك البحرية فقتله، وأعلن نفسه سلطانًا من بعده وتلقب بلقب الملك الظاهر بيبرس، وبذلك انتهى حكم السلطان المظفر قطز بعد أن حقق نصرًا ساحقًا على المغول، وحرر بلاد الإسلام من شرورهم، ووحَّد مصر والشام بعد عشر سنوات من الفرقة، فكان مقتله بعد خمسين يومًا فقط من معركة عين جالوت، وقد دفن في موضع قتله إلى أن نقل إلى القاهرة ودفن هناك.
المصادر
- دولة المماليك البداية والنهاية، إيناس البهجي، دار التعليم الجامعي، الإسكندرية، ط1، 2015.
- دولة المماليك في مصر، حزام وفاء، كلية العلوم الإنسانية والعلوم الاجتماعية، مذكرة ليسانس، جامعة 8 ماي، الجزائر، 2017.
- حياة الملك المظفر قطز، محمود شلبي، دار الجيل، بيروت، ط1، 1992.