أوراق شينجيانغ.. لا رحمة على الإطلاق
نيويورك تايمز
كتبه: أوستن رمزي وكريس بكلي | 16 نوفمبر 2019
ترجمة: أسامة خالد
كشفت ملفات مسرَّبة كيف نظَّمت الصين عمليات اعتقال جماعي للمسلمين.
أكثر من أربعمائة صفحة من الوثائق الصينية الداخلية تتيح إلقاء نظرة داخلية غير مسبوقة على حملة قمع الأقليات العرقية في منطقة شينجيانغ.
هونغ كونغ – حجَز الطلاب تذاكر العودة إلى بيوتهم نهاية الفصل الدراسي وهم يأملون بعطلةٍ مريحة بعد الامتحانات وصيفٍ فيه لقاءٌ عائلي سعيد في أقصى غرب الصين. إلا أنهم سيُعلمون بدلاً من ذلك قريباً بأن أهليهم وأقاربهم قد اختفوا وأن جيرانهم مفقودون – جميعهم محبوسون في شبكة معسكرات اعتقالٍ تزداد اتساعاً وقد بُنيت لاحتجاز أقليات عرقية إسلامية.
تشعر السلطات في منطقة شينجيانغ بالقلق من أن يكون الوضع هناك قنبلةً موقوتة.. ولذلك تأهَّبت. وزعت القيادة توجيهات سرية تنصح فيها الموظفين المحليين بالالتفاف على الطلاب العائدين بمجرد وصولهم وإسكاتهم. تضمَّنت التوجيهات دليلاً بيروقراطياً تقشعر له الأبدان عن كيفية التعامل مع أسئلتهم المعذبة، بدءاً بالسؤال الأكثر بداهة: “أين عائلتي؟”
تبدأ الإجابة المقررة: “إنهم في مدرسة تدريب مهني أنشأتها الحكومة”. وإذا تعرض الموظفون للضغط فإنهم يخبرون الطلاب بأن أقاربهم ليسوا مجرمين، إلا أنهم لا يمكنهم مغادرة هذه “المدارس”.
تضمَّن نص الأسئلة والأجوبة أيضاً تهديداً شبه صريح: يُبلغ الطلاب بأن سلوكهم يمكن أن يقصِّر أو يزيد مدة احتجاز أقاربهم.
يُنصَح الموظفون أن يقولوا: “أنا متأكد من أنك ستساندهم، لأن هذا لصالحهم.. ولصالحك أيضاً”.
كانت التوجيهات ضمن أربعمائة وثلاث صفحات من الوثائق الداخلية التي أُطلِعَت عليها صحيفة نيويورك تايمز في واحدة من أهم تسريبات الأوراق الحكومية من داخل الحزب الشيوعي الحاكم في الصين منذ عقود. وتتيح إلقاء نظرة داخلية غير مسبوقة على التضييق المتواصل في شينجيانغ، حيث احتجزت السلطات ما يصل إلى مليون من الإيغور، والكازاخيين وغيرهم في معسكرات الاعتقال والسجون على مدى السنوات الثلاث الماضية.
رَفَضَ الحزب الشيوعي الانتقادات الدولية للمعسكرات ووصَفَها بأنها مراكز تدريب مهني تستخدم أساليب معتدلة لمحاربة التطرف الإسلامي. إلا أن الوثائق تؤكد الطبيعة القسرية لحملة القمع من خلال كلمات وأوامر الموظفين أنفسهم الذين وضعوها ونظموها.
حتى عندما عرضت الحكومة جهودها في شينجيانغ على الجمهور على أنها خيِّرة وعادية جداً، فقد ناقشت ونظمت حملة قاسية وغير عادية في مناسبات التواصل الداخلية هذه. كبارُ قادة الأحزاب يصوَّرون وهم يأمرون باتخاذ إجراءات صارمة وعاجلة ضد العنف المتطرف – من ضمنها الاعتقالات الجماعية – ومناقشة العواقب بنوع من اللامبالاة الباردة.
وأشارت التقارير إلى أن الأطفال رأوا أهليهم وهم يُقتادون بعيداً، وتساءل الطلاب عمن سيدفع الرسوم الدراسية، وأن المحاصيل الزراعية لم يكن بالإمكان زرعها أو حصادها بسبب نقص القوى العاملة. ومع ذلك، وُجِّه الموظفون لإخبار الأشخاص الذين اشتكوا بأن يشعروا بالامتنان للمساعدة التي يقدمها الحزب الشيوعي لهم وأن يصمتوا.
تقدم الأوراق المسربة صورة ملفتة للنظر عن كيفية قيام الماكينة الخفية للدولة الصينية بتنفيذ أكثر حملات الاعتقال انتشاراً في البلاد منذ عهد ماو تسي تونغ. تشمل الأمور الرئيسية التي أُفشي عنها في المستندات ما يلي:
- وضع الرئيس شي جين بينغ، رئيس الحزب، الأساس لحملة القمع في سلسلة من الخطابات التي ألقيت في جلسات مغلقة مع مسؤولين أثناء وبعد زيارةٍ إلى شينجيانغ في أبريل 2014، بعد أسابيع فقط من قيام مسلحين إيغور بطعن أكثر من مائة وخمسين شخصاً في محطة قطار.. قُتِل منهم واحد وثلاثون شخصاً. دعا السيد شي جين بينغ إلى “كفاح شامل ضد الإرهاب والاختراق والانفصالية” باستخدام “الأدوات الديكتاتورية”، والتعامل “بلا رحمة على الإطلاق.
- أدت الهجمات الإرهابية في الخارج وتراجُع القوات الأمريكية في أفغانستان إلى زيادة مخاوف القيادة وساعدتا في صياغة حملة القمع. رأى مسؤولون أن الهجمات في بريطانيا ناتجة عن سياسات فيها “حقوق الإنسان مقدمة على الأمن”، وحثَّ السيد شي جين بينغ الحزب على محاكاة جوانب من “الحرب الأمريكية على الإرهاب” بعد هجمات الحادي عشر من سبتمبر.
- توسعت معسكرات الاعتقال في شينجيانغ بسرعة بعد تعيين تشن كوانغو المتعصب للحزب في أغسطس 2016 زعيماً جديداً على المنطقة. ووزَّع خطابات السيد شي جين بينغ لتبرير الحملة وحضَّ الموظفين على “إلقاء القبض على كل من ينبغي القبض عليه”.
- واجهت حملة القمع شكوكاً ومقاومة من الموظفين المحليين الذين كانوا يخشون أن يؤدي ذلك إلى استفحال التوترات العرقية وخنق النمو الاقتصادي. وردَّ السيد تشن كوانغو بتصفية الموظفين المشتبه بوقوفهم في طريقه، بمن فيهم زعيم المقاطعة الذي سُجن بعد أن أطلق آلاف السجناء من المعسكرات سرَّاً.
تتكون الأوراق المسربة من أربعٍ وعشرين وثيقة، بعضها يحتوي على مواد مكررة. وتشمل هذه الأوراق حوالي مائتَي صفحة من الخطابات الداخلية للسيد شي جين بينغ وقادة آخرين، وأكثر من مائة وخمسين صفحة من التوجيهات والتقارير بخصوص مراقبة سكان الإيغور في شينجيانغ. هناك أيضاً إشارات إلى خطط لتوسيع نطاق القيود المفروضة على الإسلام لتشمل أجزاء أخرى من الصين.
تشمل الوثائق:
96 صفحة من الخطابات الداخلية للسيد شي جين بينغ.
102 صفحة من الخطابات الداخلية لمسؤولين آخرين.
161 صفحة من التوجيهات والتقارير بخصوص مراقبة سكان الإيغور في شينجيانغ.
44 صفحة لمواد مأخوذة من تحقيقات داخلية مع موظفين محليين.
بالرغم من عدم وضوح كيفية جمع الوثائق واختيارها، إلا أن التسريبات تشير إلى سخطٍ – أكبر مما كان معروفاً من قبل – داخل جهاز الحزب بسبب الحملة القمعية. كشف عن هذه الأوراق أحد أعضاء المؤسسة السياسية الصينية، وطلب عدم الكشف عن هويته، وعبَّر عن أمله في أن الكشف عن هذه الأوراق سيمنع قادة الأحزاب، بمن فيهم السيد شي جين بينغ، من الإفلات من المسؤولية عن الاعتقالات الجماعية.
تقوم القيادة الصينية بعملية وضع السياسات بسريَّة، خاصة عندما يتعلق الأمر بشينجيانغ، وهي منطقة غنية بالموارد وتقع على الحدود الحساسة مع باكستان وأفغانستان وآسيا الوسطى. تشكل الأقليات العرقية ذات الأغلبية المسلمة أكثر من نصف سكان المنطقة البالغ عددهم خمسٌ وعشرون مليون نسمة. وأكبر هذه المجموعات هم الإيغور الذين يتحدثون لغةً تركية ويعانون منذ فترة طويلة من التمييز في المعاملة ومن القيود المفروضة على أنشطتهم الثقافية والدينية.
سعت بكين لعقود إلى قمع المقاومة الإيغورية للحكم الصيني في شينجيانغ. وبدأت حملة القمع الحالية بعد موجة من العنف ضد الحكومة والصين، ومن ضمنها أعمال الشغب العرقية عام 2009 في مدينة أورومتشي – العاصمة الإقليمية – وهجوم في مايو 2014 في أحد الأسواق قُتل فيه تسعة وثلاثون شخصاً قبل أيام من عقد السيد شي جين بينغ مؤتمراً للقيادة في بكين لرسم مسار سياسي جديد في شينجيانغ.
منذ عام 2017، احتجزت السلطات في شينجيانغ مئات الآلاف من الإيغور والكازاخيين وغيرهم من المسلمين في معسكرات الاعتقال. يخضع السجناء لأشهر أو سنوات من التلقين العقائدي والاستجواب بهدف تحويلهم إلى مؤيدين علمانيين وموالين للحزب.
التوجيهات المتعلقة بكيفية التعامل مع طلاب الأقليات العائدين إلى شينجيانغ في صيف عام 2017 تقدِّمُ المناقشةَ الأكثر تفصيلاً – من بين أربع وعشرين وثيقة – بخصوص معسكرات التلقين العقائدي، وتُعَدُّ المثالَ الأوضح للطريقة المنظمة تنظيماً صارماً والتي يروي فيها الحزب للناس قصةً ما.. بينما يحشد داخل منظومته لأحداث أقسى بكثير.
حتى عندما تنصح الوثيقة الموظفين بإبلاغ الطلاب بأن أقاربهم يتلقون “علاجاً” بسبب تعرضهم للإسلام الراديكالي، فإن عنوانها يشير إلى أفراد الأسرة الذين “يُتعامَل معهم”، أو’chuzhi’، وهي كناية تستخدم في وثائق الحزب ويُقصَد بها ‘يعاقبون’.
كتب الموظفون في توربان، وهي مدينة في شرق شينجيانغ، نصَّ الأسئلة والأجوبة بعد أن حذرت الحكومة الإقليمية الموظفين المحليين للاستعداد للطلاب العائدين. وقامت الوكالة القائمة على تنسيق الجهود “للحفاظ على الاستقرار” في شينجيانغ بتوزيع الدليل في جميع أنحاء المنطقة وحثت الموظفين على استخدامه كنموذج.
تُرسل الحكومة أذكى الشباب الإيغور من شينجيانغ إلى الجامعات في جميع أنحاء الصين، بهدف تدريب جيل جديد من موظفين حكوميين ومدرسين إيغور ولاؤهم للحزب.
تُظهِر التوجيهات أن الحملة كانت واسعة النطاق لدرجة أنها أثرت حتى على هذه النُخب من الطلاب.. وهذا ما جعل السلطات متوترة.
وأشارت التوجيهات إلى أن “الطلاب العائدين من أرجاء الصين الأخرى لديهم روابط اجتماعية واسعة النطاق في جميع أنحاء البلاد، وفي اللحظة التي يُبدون فيها آراء خاطئة على وسائل التواصل الاجتماعي”WeChat” و”Weibo” ومنصات أخرى للتواصل الاجتماعي، سيكون التأثير واسع النطاق وسيصعب القضاء عليه”.
حذرت الوثيقة من أن هناك “احتمالاً خطيراً” أن يقع الطلاب في حالة من “الاضطراب” بعد معرفة ما حدث لأقاربهم. وأوصت أن يلتقي بهم رجال شرطة يرتدون ملابس مدنية وموظفون محليون من ذوي الخبرة بمجرد عودتهم “لإبداء قلقهم وعطفهم وللتأكيد على الالتزام بالقواعد”.
تبدأ التوجيهات المتعلقة بدليل الأسئلة والأجوبة بلطف، حيث يُنصَح الموظفون بإخبار الطلاب بأن “لا داعي للقلق مطلقاً” بشأن الأقارب الذين اختفوا.
أُخبِر الموظفون بأن يقولوا: “الرسوم الدراسية لفترة دراستهم مجانية وكذلك تكاليف الإطعام والمعيشة، ويتمتعون بمستوىً معيشيٍّ عالٍ جداً” قبل أن يضيفوا أن السلطات تنفق أكثر من ثلاث دولارات في اليوم على وجبات الطعام لكل معتقل، وذلك “أفضل من مستويات المعيشة لبعض الطلاب في بلادهم”.
وتنتهي الإجابة على النحو التالي: “إذا كنت ترغب في رؤيتهم، فيمكننا اتخاذ الترتيبات اللازمة لعقد اجتماع مصوَّر عبر الانترنت”.
ومع ذلك، توقعت السلطات أن من غير المرجح أن يؤدي ذلك إلى تهدئة الطلاب وقدَّمت ردوداً على سلسلة من الأسئلة الأخرى:
متى سيُطلَق سراح أقاربي؟ إذا كان هذا للتدريب، فلماذا لا يمكنهم العودة إلى المنزل إذاً؟ هل يمكنهم طلب إجازة؟ كيف سأدفع تكاليف المدرسة إن كان والداي يدرُسان ولم يكن هناك أحد يعمل في المزرعة؟
أوصى الدليل بردود حازمة على نحو متزايد تخبر الطلاب أن أقاربهم قد “أصيبوا” بفيروس التطرف الإسلامي ويجب عزلهم ومعالجتهم. ووُجِّه الموظفون بأن يقولوا حتى الأجداد وأفراد الأسرة الذين كان يبدو أنهم أكبر سناً من أن يستطيعوا ممارسة العنف لم يكن إعفاؤهم ممكناً.
وذُكر في إحدى الإجابات، مع الاستشهاد بالحرب الأهلية في سوريا وظهور تنظيم الدولة الإسلامية: “إن لم يُدرّبوا ويُدرَّسوا، فلن يفهموا تماماً وبشكل كامل مخاطر التطرف الديني.. بغضِّ النظر عن العمر، يجب على أي شخص مصاب بالتطرف الديني أن يُدرَّس”.
وقالت الوثيقة إن الطلاب يجب أن يكونوا ممتنين للسلطات لإبعادها أقاربَهم.
وذُكِر في إحدى الإجابات: “قدِّروا قيمة هذه الفرصة للتعليم المجاني التي قدَّمها الحزب والحكومة للقضاء التام على التفكير الخاطئ، وكذلك تَعلُّم المهارات المهنية واللغة الصينية إن هذا يوفر أساساً رائعاً لحياة سعيدة لعائلتك”.
يبدو أن السلطات تستخدم نظام تسجيل النقاط لتحديد الأشخاص الذين يمكن إطلاق سراحهم من المعسكرات: حَوَت الوثيقة تعليمات للموظفين بإخبار الطلاب بأن سلوكهم قد يضر سجل نقاط أقاربهم، وحوت تعليمات بتقييم السلوك اليومي للطلاب وتسجيل حضورهم في الدورات التدريبية والاجتماعات وغيرها من الأنشطة.
أُخبِر للموظفين بأن يقولوا: “يجب أن يلتزم أفراد الأسرة، بمن فيهم أنت، بقوانين الدولة وأنظمتها، وألا يصدِّقوا أو ينشروا الشائعات.. عند ذلك فقط يمكنك إضافة نقاط لأفراد أسرتك، وبعد فترة تقييم يمكنهم مغادرة المدرسة إذا استوفوا معايير إكمال الدورة”.
نُصِح الموظفون إن سئلوا عن تأثير عمليات الاحتجاز على الشؤون المالية للأسرة أن يطمئنوا الطلاب أن “الحزب والحكومة سيبذلان قصارى جهدهما لتخفيف الصعوبات التي تواجههم”.
ومع ذلك، قد تكون العبارة الأكثر بروزاً في النص هي الإجابة النموذجية على كيفية الرد على الطلاب الذين يسألون عن أقاربهم المحتجزين، “هل ارتكبوا جريمة؟”
حوت الوثيقة تعليمات للموظفين بالإقرار بأن أقارب الطلاب لم يفعلوا ذلك. وجاء في نص الوثيقة: “الأمر وما فيه أن تفكيرهم انتقلت إليه أفكارٌ غير سليمة”.
الحرية ممكنة فقط عندما يُقضى على هذا “الفيروس” في تفكيرهم ويصبحون سليمي التفكير.
خطابات سرية
يمكن إرجاع الأفكار المحركة للاعتقالات الجماعية إلى زيارة شي جين بينغ الأولى والوحيدة لشينجيانغ كرئيس للصين، وهي جولة يخيِّم عليها العنف.
في عام 2014، بعد أكثر من عام بقليل من توليه الرئاسة، قضى أربعة أيام في المنطقة، وفي اليوم الأخير من الرحلة قام مسلحان من الإيغور بتفجير انتحاري خارج محطة قطار في أورومتشي أدى إلى إصابة ما يقرب من ثمانين شخصاً، كانت إصابة واحد منهم قاتلة.
قبل ذلك بأسابيع، قام مسلحون بطعن الناس بالسكاكين في حالة من الهياج في محطة قطار أخرى في جنوب غرب الصين.. قُتِل فيها واحد وثلاثون شخصاً وأصيب أكثر من مائة وأربعين. وبعد مرور أقل من شهر على زيارة السيد شي جين بينغ، ألقى مهاجمونَ متفجرات في سوق للخضروات في أورومتشي، فأُصيب أربعة وتسعون شخصاً وقتل تسعة وثلاثون شخصاً على الأقل.
وإزاء حالات سفك الدماء هذه، ألقى السيد شي جين بينغ سلسلة من الخطابات السرية راسماً المسار المتشدد الذي انتهى بالهجوم الأمني الجاري الآن في شينجيانغ. في حين ألمحت وسائل الإعلام الحكومية إلى هذه الخطابات، إلا أنها لم تخرج إلى العلن.
على الرغم من ذلك، كانت نصوص أربعة من تلك الخطابات من بين الوثائق التي سُرِّبت، وهي تتيح إلقاء نظرة نادرة وغير منقَّاة على جذور حملة القمع ومعتقدات الرجل الذي حرَّكها.
قال السيد شي جين بينغ في إحدى كلماته بعد رؤيته فرقة شرطة لمكافحة الإرهاب في أورومتشي: “الأساليب التي يحوزها رفاقنا بدائية للغاية.. ولا يصلح أي من هذه الأسلحة في الرد على سواطيرهم الكبيرة وفؤوسهم وأسلحتهم البيضاء”. وأضاف: “يجب أن نكون قُساةً مثلهم.. وألا نرحمهم أبداً”.
وفي خطاباته الحرة في شينجيانغ وفي مؤتمر لاحقٍ للقيادة بشأن سياسة شينجيانغ في بكين، صُوِّر السيد شي وهو يفكر مليَّاً فيما سمَّاه قضية أمنية قومية بالغة الأهمية ويطرح أفكاره بشأن “حرب شعبية” في المنطقة.
على الرغم من أنه لم يأمر بالاحتجاز الجماعي في هذه الخطابات، إلا أنه دعا الحزب إلى إطلاق أدوات “الديكتاتورية” للقضاء على الإسلام المتطرف في شينجيانغ.
أبدى السيد شي جين بينغ اهتماماً كبيراً بقضية بدت وكأنها ذهبت أبعد بكثير من ملاحظاته المعلنة بخصوص هذا الموضوع. فقد شبَّه التطرف الإسلامي بشكل متناوب بعدوى شبيهة بالفيروسات وبمخدرات تسبب الإدمان بشكل خطير، وصرَّح أن التصدي لها يتطلب “فترة من العلاج المؤلم الذي يتطلب تدخُّلاً”.
قال السيد شي جين بينغ للموظفين في أورومتشي في 30 أبريل 2014، وهو اليوم الأخير من رحلته إلى شينجيانغ: “يجب ألَّا يُقلَّل من شأن التأثير النفسي للفكر الديني المتطرف على الناس. الأشخاص الذين يسيطر عليهم التطرف الديني – ذكوراً كانوا أو إناثاً، مسنّون أو شباباً – تموت ضمائرهم ويفقدون إنسانيتهم ويقتلون دون أن يرفَ لهم جفن”.
في كلمة أخرى في مقر القيادة في بكين بعد ذلك بشهر حذر من “سمِّيّة التطرف الديني”. قال: “بمجرد أن تؤمن به، فإنه يشبه تناول المخدرات.. تفقد إحساسك، وتصاب بالجنون، وتفعل أي شيء”.
في العديد من المقاطع المفاجِئة – بالنظر إلى حملة القمع التي تلت ذلك – أخبر السيد شي جين بينغ الموظفين أيضاً بعدم ممارسة التمييز ضد الإيغور واحترام حقهم في العبادة. وحذر من المبالغة في رد الفعل تجاه الاحتكاك الطبيعي بين الإيغور وطائفة الهان الصينية – وهم الطائفة العرقية المهيمنة في البلاد – ورفض مقترحات لمحاولة القضاء على الإسلام بالكامل في الصين.
وقال خلال مؤتمر بكين “بالنظر إلى القوى الانفصالية والإرهابية تحت راية الإسلام، يرى بعض الناس ضرورة تقييد الإسلام أو حتى القضاء عليه”. ووصف وجهة النظر هذه بأنها “منحازة.. أو حتى خاطئة”.
لكن النقطة الأساسية للسيد شي جين بينغ كانت واضحة: كان يقود الحزب في منعطف حاد نحو مزيدٍ من القمع في شينجيانغ.
قبل عهد السيد شي، كان الحزب في كثير من الأحيان يصف الهجمات في شينجيانغ بأنها من عمل عددٍ قليل من المتعصبين الذين حركتهم ودبَّرت لهم جماعاتٌ انفصالية غامضة في الخارج. لكن السيد شي جين بينغ قال إن التطرف الإسلامي قد ترسخت جذوره في شرائحَ من مجتمع الإيغور.
في الواقع، تلتزم الغالبية العظمى من الإيغور بمعتقدات معتدلة، على الرغم من أن البعض بدأ في التسعينيات بتبني ممارسات دينية أكثر تحفُّظاً ومعلنة بشكل أكبر، على الرغم من الضوابط التي فرضتها الدولة بخصوص الإسلام. تشير ملاحظات السيد شي جين بينغ إلى أنه خشي أن يُعاد إحياء ظاهرة التقوى العلنية. وألقى باللوم على القيود المتراخية المفروضة على الدين، مشيراً إلى أن أسلافه لم يأخذوا حذرهم كما ينبغي.
في حين أكد القادة الصينيين السابقين على مسألة التنمية الاقتصادية لإخماد الاضطرابات في شينجيانغ، قال السيد شي جين بينغ إن هذا غير كاف. وطالب بعلاج أيديولوجي – محاولةٍ لتجديد تفكير الأقليات المسلمة في المنطقة.
وقال السيد شي جين بينغ في مؤتمر القيادة الذي عُقِد لمناقشة سياسة شينجيانغ بعد ستة أيام من الهجوم المميت على سوق الخضراوات: “يجب استخدام أسلحةِ ‘ديكتاتورية الشعب الديمقراطية’ [ديمقراطية بين الشعب، دكتاتورية ضد الخصوم] دون أي تردد”.
الموشور السوفيتي
السيد شي جين بينغ هو ابن زعيم من أوائل زعماء الحزب الشيوعي، وكان في الثمانينيات يؤيد السياسات الأكثر ليناً تجاه طوائف الأقليات العرقية، وكان بعض المحللين يتوقعون أنه قد يتبع أساليب والده الأكثر اعتدالاً عندما تولى قيادة الحزب في نوفمبر 2012. لكن الخطابات تؤكد كيف يرى السيد شي جين بينغ مخاطر على الصين من خلال موشور انهيار الاتحاد السوفيتي، وكان يلقي باللوم لانهياره على التهاون الإيديولوجي والقيادة الضعيفة.
بدأ في كافة أنحاء الصين بالقضاء على التحديات التي تواجه حكم الحزب. اختفى المنشقون ومحامو حقوق الإنسان في موجات من الاعتقالات. وفي شينجيانغ، أشار إلى أمثلة من التكتُّل السوفيتي السابق كحجَّة بأن النمو الاقتصادي لن يحصِّن المجتمع بوجه الانفصالية العرقية.
وقال في مؤتمر القيادة إن جمهوريات البلطيق كانت من بين الدول الأكثر تطوراً في الاتحاد السوفيتي ولكنها كانت أول من غادر عندما انهار البلد. وأضاف أن الرخاء النسبي في يوغوسلافيا لم يحُل دون تفككها أيضاً.
وقال السيد شي: “نحن نقول إن التنمية هي الأولوية العليا وهي الأساس لتحقيق أمنٍ دائم، وهذا صحيح، ولكن سيكون من الخطأ الاعتقاد أن بالتنمية تحُّل كل مشكلة نفسها”.
لكن الخطابات، أبدى السيد شي جين بينغ دراية عميقة بتاريخ مقاومة الإيغور للحكم الصيني، أو على الأقل نسخة بكين الرسمية منه، وناقش وقائع نادراً ما ذكرها القادة الصينيون علناً – إن كانوا ذكروها أصلاً – من ضمنها فترات قصيرة من حكم الإيغور الذاتي في النصف الأول من القرن العشرين.
العنف الذي قام به مسلحو الإيغور لم يهدد السيطرةَ الشيوعية على المنطقة أبداً. على الرغم من أن الهجمات أصبحت أكثر فتكاً بعد عام 2009 عندما توفي ما يقرب من مائتي شخص في أعمال شغب عرقية في أورومتشي، إلا أنها ظلت صغيرة نسبياً ومبعثرة وغير معقدة.
ومع ذلك، حذر السيد شي جين بينغ من أن العنف ينتشر من شينجيانغ إلى أجزاء أخرى من الصين ويمكن أن يشوه صورة قوة الحزب. وقال السيد شي جين بينغ في مؤتمر القيادة: “ما لم يُخمَد التهديد، سيعاني الاستقرار الاجتماعي من الصدمات، وستتضرر الوحدة العامة للناس من كل عرق، وستتأثر التوقعات العامة للإصلاح والتنمية والاستقرار”.
وبوضع المجاملات الدبلوماسية جانباً، فقد وَجد أن جذور التطرف الإسلامي في شينجيانغ تأتي من الشرق الأوسط، وحذّر من أن الفوضى في سوريا وأفغانستان ستزيد المخاطر على الصين. وقال إن الإيغور قد سافروا إلى كلا البلدين، وقد يعودوا إلى الصين مقاتلين متمرسين يسعون إلى إقامة وطن مستقل، أطلقوا عليه اسم “تركستان الشرقية“.
وقال السيد شي جين بينغ: “بعد أن تسحب الولايات المتحدة قواتها من أفغانستان، فإن التنظيمات الإرهابية المتمركزة على حدود أفغانستان وباكستان قد تتسلل بسرعة إلى آسيا الوسطى”. وقال: “قد يشنُّ إرهابيو تركستان الشرقية الذين تلقوا تدريبات في حرب حقيقية في سوريا وأفغانستان في أي وقت هجمات إرهابية في شينجيانغ”.
ردَّ هو جين تاو – سَلَف السيد شي جين بينغ – على أعمال الشغب التي وقعت في أورومتشي عام 2009 بحملة قمع، لكنه شدد أيضاً على التنمية الاقتصادية كعلاج للسخط العرقي – سياسة الحزب طويلة العهد. لكن السيد شي جين بينغ أشار إلى خروجٍ عن نهج السيد هو جين تاو في خطاباته.
وقال: “في السنوات الأخيرة، نَمَت شينجيانغ بسرعة كبيرة وارتفع مستوى المعيشة بشكل ثابت، وبالرغم من ذلك ما تزال الانفصالية العرقية والعنف الإرهابي في ازدياد”. وقال: “هذا يدل على أن التنمية الاقتصادية لا تجلب تلقائياً نظاماً وأمناً دائمَين”.
وقال السيد شي جين بينغ إن ضمان الاستقرار في شينجيانغ يتطلب حملة واسعة من المراقبة وجمعِ المعلومات الاستخبارية لاجتثاث المقاومة في مجتمع الإيغور.
وقال إن التكنولوجيا الجديدة يجب أن تكون جزءاً من الحل، منذراً بنشر تقنية التعرف على الوجه، والفحوص الجينية ومعالجة البيانات الضخمة في شينجيانغ. لكنه شدد أيضاً على الأساليب القديمة – مثل المُخبِرين في الأحياء السكنية – وحثَّ الموظفين على دراسة كيفية ردِّ الأمريكيين على هجمات الحادي عشر من سبتمبر.
قال إن الصين – كما فعلت الولايات المتحدة – “يجب أن تجعل عامَّة الناس مورداً هاماً في حماية الأمن القومي”. وقال: “نحن الشيوعيون يجب أن نكون أشخاصاً طبيعيين في خوضنا حرباً شعبية”. وقال: “نحن الأفضل في التنظيم لمهمة ما”. وكان الاقتراح الوحيد في هذه الخطابات وقد تصوَّر السيد شي جين بينغ معسكرات الاعتقال الآن في وسط حملة القمع هو اعتماد برامج تلقين عقائدي أكثر شدة في سجون شينجيانغ.
وقال للموظفين في جنوب شينجيانغ في اليوم الثاني من رحلته: “يجب أن يكون هناك قولبة وتغيير ثقافيَّين فعالَين للمجرمين. وحتى بعد إطلاق سراح هؤلاء الأشخاص، يجب أن يستمر تعليمهم وتحوُّلهم”.
في غضون أشهر بدأ فتح مواقع التلقين العقائدي في أنحاء شينجيانغ – معظمها كانت في البداية منشآت صغيرة استوعبت عشرات أو مئات من الإيغور في آن معاً لجلسات تهدف إلى الضغط عليهم ليتخلوا عن ولائهم للإسلام ويقروا بامتنانهم للحزب. ثم في أغسطس 2016، تم نقل أحد المتعنِّتين واسمه تشين كوانغو من التبت ليحكم شينجيانغ. ودعا الموظفين المحليين خلال أسابيع إلى “إعادة حشد الطاقات” من أجل تحقيق أهداف السيد شي جين بينغ وأعلن أن خطابات السيد شي جين بينغ “حددت الاتجاه الذي سيؤدي لإنجاح شينجيانغ”.
وتبع ذلك ضوابط أمنية جديدة وتوسع كبير في معسكرات التلقين العقائدي.
وقال السيد تشين كوانغو في كلمة ألقاها أمام القيادة الإقليمية في أكتوبر 2017: “إن الكفاح ضد الإرهاب ولحماية الاستقرار هو حرب طويلة الأمد، وهو كذلك حرب هجومية”. وكانت هذه الكلمة من بين الأوراق التي تم تسريبها.
– في وثيقة أخرى – وهي سجلٌّ لملاحظاته في مؤتمر مصوَّر عبر الانترنت في أغسطس 2017 – استشهد بـ “مراكز المهارات المهنية ومراكز التدريب التثقيفي ومراكز التغيير” كمثال على “الممارسات الجيدة” لتحقيق أهداف السيد شي جين بينغ في شينجيانغ.
يبدو أن الحملة القمعية أدت إلى إخماد الاضطرابات العنيفة في شينجيانغ، ولكن العديد من الخبراء حذروا من أن الإجراءات الأمنية الشديدة والاعتقالات الجماعية من المرجح أن تولد استياءً قد يؤدي في نهاية المطاف إلى اشتباكات عرقية أسوأ.
أُدينت المعسكرات في واشنطن وعواصم أجنبية أخرى. توقع السيد شي جين بينغ النقد الدولي في وقت مبكر – في مؤتمر القيادة في مايو 2014 – وحث الموظفين الذين كانوا يعملون في الخفاء على تجاهل ذلك.
وقال: “لا تخافوا إن كانت هناك قوى معادية تولول، أو إن كانت القوى المعادية تشوه صورة شينجيانغ”.
“اعتقلوا الجميع”
تظهر الوثائق أن هناك مقاومة للحملة القمعية داخل الحزب أكثر مما كان معروفاً سابقاً، وتُبرز الوثائق الدور الرئيسي الذي لعبه رئيس الحزب الجديد في شينجيانغ في التغلب على تلك المقاومة.
قاد السيد تشين كوانغو حملة تشبه إحدى حملات ماو تسي تونغ السياسية المضطربة، والتي كانت فيها ممارسة الضغط على الموظفين المحليين من الأعلى إلى الأسفل قد شجعت حدوث تجاوزات، وكان أي تعبير عن الشك يعامَل كجريمة.
في فبراير 2017، أَخبَر الآلاف من رجال الشرطة والقوات الواقفة بانتباه في ساحة واسعة في أورومتشي أن يتجهّزوا “لهجوم مبيد وكاسح”. تشير الوثائق إلى أن القيادة اتفقت في الأسابيع التالية على خطط لاحتجاز الإيغور بأعداد كبيرة.
أصدر السيد تشين كوانغو أمراً كاسحاً: “ألقوا القبض على كل من ينبغي القبض عليه”. تَظهَر العبارة الغامضة بشكل متكرر في مستندات داخلية منذ عام 2017.
سبق أن استخدم الحزب عبارة “ying shou jin shou” باللغة الصينية – عند مطالبة الموظفين باليقظة والشمولية في تحصيل الضرائب أو حساب كمية المحاصيل. الآن تم تطبيقها على البشر في التوجيهات التي أمرت – بدون ذكر إجراءات قضائية – باحتجاز أي شخص أبدى “أعراضاً” للتطرف الديني أو آراء معادية للحكومة.
حددت السلطات العشرات من هذه العلامات، من ضمنها تعلق بالسلوك الطبيعي بين الإيغور المتدينين مثل إعفاء اللحى، وترك التدخين أو شرب الخمر، ودراسة اللغة العربية، والصلاة خارج المساجد.
عزز قادة الحزب الأوامر المفروضة بتحذيرات من الإرهاب الحاصل في الخارج ومن هجمات مماثلة محتملة في الصين.
على سبيل المثال، في توجيهات من عشرة صفحات في يونيو 2017 وقَّعها تشو هايلون – المسؤول الأمني الأعلى في شينجيانغ وقتها – وصفٌ للهجمات الإرهابية الأخيرة في بريطانيا بأنها “تحذير ودرس لنا”، وإلقاء باللوم على الحكومة البريطانية “لتركيزها المفرط على ‘حقوق الإنسان مقدَّمة على الأمن’ وعدم كفاية الضوابط المفروضة ضد انتشار التطرف على الإنترنت وفي المجتمع”.
كما اشتُكي فيها من ثغرات أمنية في شينجيانغ، من ضمنها التحقيقات الضعيفة، والأعطال في معدات المراقبة، وعدم احتجاز الأشخاص المتهمين بسلوك مشبوه.
وردت أوامر في وثائق التوجيهات بأن تستمر الاعتقالات، جاء فيها: “تقيدوا باعتقال كل من ينبغي اعتقاله… إن كانوا هناك، فاعتقلوهم”.
عدد الأشخاص الذين تم سَوقهم إلى المعسكرات ما يزال سراً تحت الحراسة المشددة. إلا أن إحدى الوثائق التي سُرِّبت تعطي إشارة لحجم الحملة: فيها تعليمات للموظفين بمنع انتشار الأمراض المعدية في المرافق المزدحمة.
“لقد خرقتُ القوانين”
كانت الأوامر ملحَّة ومثيرة للجدل بشكل خاص في مقاطعة ياركاند، وهي مجموعة من البلدات والقرى الريفية في جنوب شينجيانغ التي فيها تقريباً كامل السكان – البالغ عددهم تسعمائة ألف نسمة – من الإيغور.
في خطابات عام 2014، أشار السيد شي جين بينغ إلى جنوب شينجيانغ بالتحديد كخط المواجهة في كفاحه ضد التطرف الديني. يشكل الإيغور ما يقرب من تسعين في المائة من السكان في الجنوب، مقارنة مع أقل من النصف في شينجيانغ عموماً، وقد حدد السيد شي جين بينغ هدفاً طويل الأجل لجذب المزيد من مستوطني عرق الهان الصينيين.
وأظهرت الوثائق أنه هو وزعماء الحزب الآخرين أمروا منظمة شبه عسكرية – وهي شركة شينجيانغ للإنتاج والبناء – بتسريع الجهود لتوطين المنطقة بمزيد من طائفة الهان الصينيين.
وفقاً لتقارير حكومية، بعد بضعة أشهر هاجم أكثر من مائة من مسلحي الإيغور يحملون فؤوساً وسكاكين مكتباً حكومياً ومركزاً للشرطة في ياركاند، فقتلوا سبعة وثلاثين شخصاً. قَتَلت قوات الأمن تسعة وخمسين مهاجماً في المعركة حسبما ذكرت التقارير. عُيِّن مسؤول يدعى وانغ يونغ تشي لإدارة ياركاند بعد ذلك بوقت قصير. كان يبدو بنظارته وقَصَّة شعره القصيرة وكأنه صورةٌ معبِّرة لتكنوقراطيٍ في الحزب. نشأ وقضى حياته المهنية في جنوب شينجيانغ وكان يُرى مسؤولاً متمرساً قادراً على إنجاز الأولويات العليا للحزب في المنطقة: التنمية الاقتصادية والسيطرة المُحكَمة على الإيغور.
لكن من بين المستندات الأكثر كشفاً للأمور في الأوراق المسربة وثيقتان تصفان سقوط السيد وانغ – تقرير من إحدى عشرة صفحة يلخص التحقيق الداخلي للحزب بخصوص تصرفاته، ونصٌ لاعترافٍ من خمس عشرة صفحة قد يكون أدلى به تحت الإكراه. وُزِّع كل منهما داخل الحزب كتحذير للموظفين لينصاعوا للحملة.
يعمل مسؤولون من الهان كالسيد وانغ مرساةً للحزب في جنوب شينجيانغ، يراقبون موظفين من الإيغور في مناصب أدنى، ويبدو أنه يستمتع بمباركة كبار القادة، بمن فيهم يو تشنغ شنغ، الذي كان آنذاك أكبر مسؤول صيني مكلف بالقضايا العرقية، وقد زار المقاطعة في عام 2015.
بدأ السيد وانغ بتعزيز الأمن في ياركاند، لكنه دفع أيضاً بالتنمية الاقتصادية لمعالجة الاستياء العرقي، وسعى لتخفيف حدة السياسات الدينية للحزب معلناً أن لا حرج من وجود القرآن في المنزل ومشجعاً موظفي الحزب على قراءته لفهم تقاليد الإيغور بشكل أفضل.
عندما بدأت الاعتقالات الجماعية، فعل السيد وانغ كما قيل له في البداية وظهر عليه أنه تبنَّى المهمة بحماس. فقد بنى مركزين شاسعين للاحتجاز، واحد منها بمساحة خمسين ملعب كرة سلة، واقتاد إليهما عشرين ألف شخص. وزاد من تمويل قوات الأمن بسرعة إلى حدِّ كبير في عام 2017.. زاد الإنفاق إلى أكثر من الضعف على مصارف مثل المراقبة ونقاط التفتيش لتصل إلى 1.37 مليار رينمينبي.. ما يعادل مائة وثمانون مليون دولار. وجعل أعضاء الحزب يصطفون في تجمُّع في ساحة عامة وحثهم على المضي في الحرب ضد الإرهابيين. قال: “أبيدوهم بالكلية… اقضوا عليهم كلهم”.
لكن كان لدى السيد وانغ مخاوف على المستوى الشخصي، وفقاً للاعتراف الذي وقعه لاحقاً، والذي كان سيفحصه الحزب بعناية.
كان يتعرض لضغوط شديدة لمنع اندلاع أعمال عنف في ياركاند، وكان قلقاً من أن تؤدي حملة القمع إلى رد فعل عنيف.
حددت السلطات أهدافاً عددية لاعتقالات الإيغور في أجزاء من شينجيانغ، وفي حين لم يكن واضحاً ما إذا كانوا قد فعلوا ذلك في ياركاند، شعر السيد وانغ بأن الأوامر لم تترك مجالاً للاعتدال وستسمِّم العلاقات العرقية في المقاطعة.
كما أنه كان قلقاً من أن الاعتقالات الجماعية ستجعل من المستحيل تحقيق التقدم الاقتصادي الذي كان يحتاجه لكسب ترقية. حددت القيادة أهدافا للتخفيف من حدة الفقر في شينجيانغ. ولكن مع إرسال الكثير ممَّن هم في سن العمل إلى المعسكرات، كان السيد وانغ يخشى أن تكون الأهداف بعيدة المنال.. مع آماله في الحصول على وظيفة أفضل. وكَتَبَ أن رؤساءه كانوا “مفرطين في الطموح وغير واقعيين”. وأضاف أن “السياسات والتدابير التي اتخذتها المستويات العليا من القيادة كانت على خلاف مع الوقائع على الأرض ولا يمكن تنفيذها بالكامل”.
وللمساعدة في إنفاذ حملة القمع في جنوب شينجيانغ، قام السيد تشين كوانغو بنقل المئات من الموظفين من الشمال. على المستوى العلني، رحب السيد وانغ بالموظفين المكلفين بـ ياركاند والبالغ عددهم اثنين وستين موظفاً. وعلى المستوى الشخصي، كان مغتاظاً لكونهم لم يفهموا كيفية العمل مع الموظفين المحليين والسكان.
كان الضغط مستمراً بلا هوادة على الموظفين في شينجيانغ لاحتجاز الإيغور ومنع أعمال عنف جديدة، وقال السيد وانغ في اعترافه – الذي يُحتمل أنه أدلى به تحت الضغط – أنه شرب الخمر أثناء العمل. ووصف حادثةً انهار فيها من السُكْر خلال اجتماع بخصوص الأمن.
وقال: “أثناء تقديم تقرير عن عملي في الجلسة المسائية، تحدثت بكلام غير مترابط… لقد تحدثت ببضع جمل فقط وانهار رأسي على الطاولة. أصبحَتْ تلك الواقعة أكبر نكتة في جميع أنحاء المقاطعة “.
عوقب الآلاف من الموظفين في شينجيانغ لمقاومتهم أو إخفاقهم في إنفاذ الحملة بحماسة كافية. وتشير الوثائق إلى أن موظفين إيغور اتُّهموا بحماية زملائهم من الإيغور، وسُجن غو وين شنغ – زعيم طائفة الهان في مقاطعة جنوبية أخرى – لمحاولته إبطاء عمليات الاعتقال وحماية موظفين إيغور.
سافرت فِرَق سرية من المحققين في جميع أنحاء المنطقة للتعرف على من لم يقوموا بما فيه الكفاية. وتشير إحصائيات رسمية أن الحزب فتح في عام 2017 أكثر من اثنَي عشر ألف تحقيق مع أعضاء في الحزب في شينجيانغ بسبب مخالفات في “الحرب ضد الانفصالية”، أي ما يزيد عن عدد التحقيقات في العام السابق بعشرين ضعفاً.
قد يكون السيد وانغ ذهب أبعد من أي مسؤول آخر.
أمر سِرَّاً بالإفراج عن أكثر من سبعة آلاف من نزلاء المعسكر – وهو عملٌ فيه تحدٍّ وسيُعتقل بسببه ويُجرَّد من سلطته ويُحاكَم.
وقد كتب السيد وانغ قائلاً: “لقد قمت بإجراءات تخفيفية وتصرفت اختياريَّاً وقمت بتعديلاتي معتقداً أن إلقاء القبض على الكثير من الناس سيؤدي إلى إثارة الصراع وزيادة الاستياء عن معرفة مسبقة”. وأضاف: “بدون موافقة مسبقة وبمبادرةٍ مني.. خرقت القوانين”.
تحدٍّ صريح
اختفى السيد وانغ عن الأنظار بصَمت بعد سبتمبر 2017.
بعد حوالي ستة أشهر جعل الحزب منه عبرة معلناً أن تحقيقاً كان يُجرى معه بسبب “عصيانه الخطير لاستراتيجية القيادة المركزية للحزب لحكم شينجيانغ”.
كان التقرير الداخلي بخصوص التحقيق أكثر صراحة، جاء فيه: “كان ينبغي أن يبذل قصارى جهده لخدمة الحزب.. لكنه بدلاً من ذلك تجاهل إستراتيجية القيادة المركزية للحزب في شينجيانغ، ومضى بذلك لدرجة التحدٍّي الصريح”.
قُرِئ كل من التقرير واعتراف السيد وانغ بصوت عالٍ للموظفين في جميع أنحاء شينجيانغ. كانت الرسالة واضحة: لن يتسامح الحزب مع أي تردد في تنفيذ الاعتقالات الجماعية.
ووصفت منافذُ دعائية السيد وانج بأنه فاسد لدرجةٍ لا يمكن إصلاحها، واتهمه التقرير الداخلي بتلقي رشاوٍ على صفقات بناء ومناجم ودفْعِ أموال لرؤسائه للحصول على ترقيات.
وأكدت السلطات أيضاً أنه ليس صديقاً للإيغور. ولتحقيق أهداف الحد من الفقر، قيل إنه أجبر ألفاً وخمسمائة أسرة على الانتقال إلى شقق غير مزودة بالتدفئة في منتصف فصل الشتاء. وورد في اعترافه أن بعض القرويين أحرقوا الحطب في منازلهم للتدفئة مما أدى إلى إصابات ووفيات.
إلا أن أعظم خطيئة سياسية للسيد وانغ لم يُكشَف عنها على العلن. وبدلاً من ذلك، أبقت السلطات عليها مخفيَّة في التقرير الداخلي، وهي:
“لقد رفض إلقاء القبض على كل من ينبغي القبض عليه”.