نُخَبْ البانوبتيكون

  إن الحرِّية التي وهبها الله للإنسان، وفطره عليها، بل عدَّها الشرع أحد شروط التكليف، لهي من أكبر النعم التي يمكن للأفراد والشعوب أن تحقق بها الغاية التي من أجلها خلقوا في هذا الوجود، وكم تحتاج البشرية اليوم أن تتنسم عبير الحرية الحقيقية، الحرية التي حدودها السماء…

لقد تفننت الأنظمة الطاغية عبر العصور في وسائل الحد من الحرية، وأبدعت في تلك الأساليب، التي من بينها ثنائية الضبط والمراقبة، وفي زماننا هذا، في نموذج الدولة القومية المعاصرة؛ النموذج الذي بلغ الذروة في تسخير المعارف والإمكانيات، للوصول إلى درجة عالية من الضبط والمراقبة، للسيطرة أكثر على الشعوب.

ويبدو سجن البانوبتيكون أقرب نموذج تفسيري يمكن أن نصف به انطلاقة عصر الدولة القومية في تطوير عملية ضبط ومراقبة الشعوب، وما كان لذلك من آثار على النخب والأفراد، خاصة على أمتنا التي يمثل الحد من حريتها -بمعناها الشامل- هدفًا أساسيًا لمنظومة الطغيان العالمي ووكلائها العرب، لاجتناب تحرر حقيقي من اﻷصفاد، يمكن أن يلقي بظلاله التحررية على قيود بقية البشرية.

وقد بدأت قصة البانوبتيكون سنة 1785م، حين صمَّم المنظر الاجتماعي الإنجليزي (جيمي بنثام) مؤسس المدرسة النفعية في الفكر الحديث سجنًا جديدًا يتميز بطريقة بنائه، إذ يتمثل في برج مراقبة مركزي يتوسَّط الزنزانات المستديرة حوله، بحيث تكون الزنزانات مكشوفة كامل الوقت أمام غرفة المراقبة، ما يسمح للمراقب برؤية كل الغرف المحيطة بالعمود والسجناء داخلها، بينما لا يمكن للسجناء رؤية المراقب، ولا معرفة هل هو موجود في هذه اللحظة أم لا، وقد وصف بنثام سجنه بأنه «طريقة جديدة للحصول على قوة العقل على العقل»، أي طريقة جديدة في عالم المراقبة والضبط، لكن طريقة عمل السجن وفكرته تطورت، خاصة بتبني الدولة القومية المعاصرة لها، لا على السجون المغلقة فقط، بل على تلك التي أسوارها تتمثل في محددات الدولة وهيمنتها.

وأصبح للبانوبتيكون آثاره على النُّخَب وعامة الناس…

آثار المراقبة البانوبتيكية

   نُخَبْ البانوبتيكون

داخل الزنزانة لا يمكن للسجين طوال الوقت معرفة وجود مراقب في لحظة ما داخل برج الرقابة أم لا، لذا يفترض دوام وجوده، ومع معايشته لفكرة وجود المراقب الدائم، فإنه يقوم بتطويع أفعاله وتحركاته باحتساب فكرة أنه مراقب.

إن هذه العملية -عملية إشعار السجين أنه مراقب طول الوقت- مثلت تحويلًا للسلطة الممارَسة على السجين من كونها جسدية إلى نفسية، اذ تسللت فكرة المراقبة إلى عقل السجين ونفسيَّته وقلبه، فيعيد كل سجين تشكيل تصرفاته وحياته داخل السجن على افتراض تلك المراقبة، وتتحول عين المراقبة من فعل خارجي إلى داخل الإنسان ذاته.

أي يقوم السجين نفسه بعملية الضبط التي كان يقوم بها السجان، وتتحول لأمر تلقائي طوعي ذاتي، ولا يكلف هذا سوى حارس وحيد في برج المراقبة لمئات المساجين، بل قد لا يكون الحارس موجودًا في غرفة المراقبة أصلاً، بينما تتواصل فكرة المراقبة الذاتية من الداخل في ضبط السجين…

البانوبتيكون والدولة القومية الحديثة

بما أن الدولة القومية المعاصرة استأثرت بالمهام الحيوية للمجتمع، واستأثرت بامتلاك وسائل القوة، وأمَّمت المجتمع ومؤسساته تحت سلطتها، وحددت نوعية وخطاب المؤسسات الإعلامية، وسيطرت على المدارس ومناهج التدريس فيها، بل سيطرت حتى على المساجد ودور العبادة، ما يحتم إيجاد منطق ضبط ومراقبة عالٍ ممارس مع الشعوب المحكومة، فقد انتهجت الدولة القومية آلية البانوبتيكون الذي يؤدي إلى نوع من استبطان المواطن للشعور الدائم بالرقابة، بالتالي يضبط الفرد -ومن بعده المجتمع- نفسَه وتفكيره ورغباته وتطلعاته في السقف الذي وقع تحديده بالمحددات السلطوية للدولة، خوفًا من العقاب.

تأثير قبول محددات البانوبتيكون

 نُخَبْ البانوبتيكون

بمجرد أن يقبل الفرد (أو المجتمع) ضرورة تطويع تصرفاته على افتراض أنه مراقب، يستبطن فكرة المراقبة، وتتحول عملية الضبط إلى ذاتية، فتقوم عين المراقبة الداخلية بإعادة توجيه أفعاله وأحاسيسه وأفكاره داخل السقف الذي يرضي المراقب ولا يثير غضبه، وقد يفقد الفرد في هذه الرحلة جزءًا كبيرًا من مميزاته الإبداعية، بفقدانه لمجال حريته الداخلي، وتبعية ذاته، وسيطرة محددات البانوبتيكون على تفكيره، ويصبح مقيدًا من الداخل، لا لأنه فقط دخل السجن، بل لأن السجن صار داخله، وحاز على مساحة كبير من وجدانه، يؤدي هذا إلى التوطين على فكرة القيد، وعدم القدرة على التفكير خارج محددات البانوبتيكون حتى وإن كان ذلك الفرد تحرر من سجنه المباشر، أو لم يدخله، فالسجن أصبح داخله، وهو يعيش خارج السجن بمحددات داخلية أعقبتها عملية المراقبة، تدفعه إلى الانضباط بالضوابط التي أملاها أصحاب البانوبتيكون.

نخب البانوبتيكون بين منهجين

وقد يحدث أن يتمرد السجناء داخل البانوبتيكون ويُسقطوا من ضمائرهم طغيان فكرة المراقبة، وتتسلل أفكار الحرية لتصدع سلطة الضبط، وينقسم بعدها السجناء بين إصلاحي وجذري:

  • يرى الإصلاحي أن الأجدر هو المطالبة بتحسين ظروف السجن، وتغيير طلائه إلى لون فاتح مريح، وتسميته تسمية جديدة، والدخول في مصالحات مع إدارة السجن للحصول على حقوق جزئية، وتشريك عدد من السجناء الذين عانوا داخل البانوبتيكون في إدارة السجن، مقابل تخلي هؤلاء عن بعض مبادئهم التي هم هنا من أجلها، ومقابل التعهد بعدم الخروج على المحددات الإستراتيجية والأهداف العليا للسجن، والتعهد بالمحافظة عليه وعلى هدوء السجناء داخله، وعلى اعتبار البانوبتيكون مكسبًا وطنيًا، وعلى تواصل عملية المراقبة والضبط كما هي لكن بشعارات رنانة تزيد من رغبة المساجين على الانصياع.
  • بينما يرى الجذري ضرورة هدم أركان السجن، والتحرر الكامل من أجهزة مراقبة البانوبتيكون، والتخلص نهائيا من آليات الضبط، وعدم الالتزام بسقف المحددات التي وضعتها إدارة السجن، وعدم الاعتراف بشرعية تلك الإدارة وشرعية ذلك السجن، بل تجاوزها وتجاوز الحدود المرسومة المسموح بها داخل السجن إلى الحرية الكاملة التي لا تحدها غرف السجن ولا أسواره، حرية لا قيود لإدارة السجن فيها على تحركات الشعب، ولا على مقدراته ولا على قناعاته.

وفي مختلف التجارب، تفضل إدارة السجن التعامل مع الإصلاحيين، وإعطائهم شرعية مزيفة، ثم تكليفهم بإخماد جذوة الحرية الكاملة التي أوقدها الجذريون، ثم ما إن يستتب الأمر حتى تعيد إدارة السجن الإصلاحيين إلى سجنهم الذي بذلوا الجهود للمحافظة عليه..

خاتمة

إن الحرية تكمن هناك، في تلك الضمائر التي لا تصالح سجانيها ولا تتخذهم أصدقاء ولا حلفاء، في تلك الكرامة التي تأبى الذل، ولا تقبل اقتسام الكعكة على حساب حريتها أو حرية غيرها، والشعوب الحرة هي التي يفرش لها في هذه الحياة ما تستحقه لرفضها للظلم والطغيان والانصياع. إن أول خطوة لإسقاط البانوبتيكون هو إسقاطه من قلوب وعقول السجناء، إسقاط هالة الوهم التي تحيط به، تمهيدًا لإسقاطه في الواقع…

مؤمن سحنون

أرجو أن أكون من الساعين لأن ننال يوما الحرية، الحرية بمعناها الشامل لأمة تعرف رسالتها.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى