ماذا لو انضم العرب إلى المعسكر الشرقي؟
نسمعُ في الأيامِ الأخيرةِ الماضية أسئلةً من قَبيلِ: ماذا لوِ انضمَّ العربُ إلى المعسكرِ الشرقي المكونِ مِنْ روسيا والصِّين؟ لماذا لا نتَّخِذُ حليفًا جيدًا بعد أنْ كَشَفْنَا خُبثَ المعسكرِ الغربي وتفضيلَ مصلحتِهِ على كلِّ شئٍ حتَّى وإن كان على مستوى الإنسانية؟ وللإجابةِ عن هذا السؤالِ يجبُ أنْ نطرحَ أولاً على أنفُسنا سؤالًا قبله، لنسْتَشِفَّ بذلكَ إجابةً عنِ السؤالِ الرئيسي واضحةَ المعالمِ من جميعِ جوانِبِها.
هل تُريدُ لنا روسيا الخيرَ حقَّاً؟ دعني أخبِرْكَ بالحقيقةِ يا صديقي: روسيا كأي دولةٍ في العالم؛ تبحثُ عن مصالِحِها الشخصيَّةِ -وهذا ليس عيباً فيها- بل عيباً في مَنْ يظنُّ أنَّ ثمَّةَ دولةً تنظر إلى أُخرى بعينِ المحبَّة والصداقة. فالحقُّ أن ليس ثمةَ علاقةٌ غراميةٌ بين دولةٍ ونظيرتِها. بل هيَ مصالحٌ مُشترَكةٌ بانتهائِها تنتهي التّحالُفاتُ والصداقات.
فعلى سبيلِ المثالِ كانت هناكَ مبادرةٌ زراعيّة من الدولِ العظمى (كالولاياتِ المتحدةِ الأمريكية وفرنسا وبريطانيا وروسيا والصين وغيرها) فيما يُعرف بالثورةِ الخضراءِ؛ وهي عبارةٌ مجموعةِ استثماراتٍ اقتصاديةٍ لزيادةِ المساحاتِ الزراعيَّة على سطحِ الأرضِ، وذلك لتلبيةِ الاحتياجاتِ الغذائيّة -خاصةً بالمناطق الفقيرة- فلمّا نجحتْ هذه المبادرةُ وبدأتْ تنمو بعضُ الدُّولِ الفقيرةُ خَشِيَتْ هذهِ الدِّولُ العظمى على اقتصاداتِها فأوقفتْ جميعَ اسثماراتها التي ضخَّتها في مبادرةِ الثورةِ الخضراء. وهذا على حدِّ قولِ (رَاجِيف شاه) وهو مديرُ الوَكَالَةِ الأمريكيَّةِ للتنميَةِ الدوليَّة.
على كلِّ حال، فروسيا وإنْ بَدَتْ صديقةً وحبيبةً فهذا ليس إلاَّ لأنَّها تُدرِكُ تمامًا أنَّ المَنطِقةَ العربيّةَ الآنَ قد ضاقتْ ذَرْعََا بالمعسكرِ الغربي وحلولِهِ السياسية للمنطقة التي لا تَزيدُها إلاَّ اضطرابًا. فالمعسكرُ الشرقي بقيادةِ روسيا يُحاولُ الآن أنْ يبدوَ للعالمِ العربي -شعباً وحكومةً- وكأنَّهُ المخلِّصُ الوحيدُ للمنطقة العربيّة.
وهذا ما فعله حقَّاً عندما عُقِدَ صُلحٌ سعوديٌ/إيرانيٌ في الأيامِ القليلةِ الماضية برعايةٍ صينيَّةٍ تحتَ أنظارٍ روسيَّةٍ. فهل حقًّا تطمحُ روسيا إلى فضِّ النزاعات والاضطرابات؟ لتَجِدَ إجابةً عن هذا السؤال عليكَ النظرُ إلى التدخلِ الروسي في سوريا ودعمِ نظامِ الأسد فها هو نجده يدعمُ نِزَاعًا مسلَّحًا! بل أزيدُك مِنَ الشِّعرِ بيتًا إنّ أولَ دولةٍ اعترفتْ بإسرائيل هي الاتحاد السوفييتي (روسيا حاليًا).
وهناك علاقات وثيقة وأهدافٌ ومنافعُ متبادَلَةٌ بينهما ونحن لسنا بصددِ هذا الموضوعِ الآن فهذا سِفرٌ تَجِدُ تفصيله في كتاب (موسكو إسرائيل) للدكتور عمر حَلِيق. على كلِّ حال؛ إنّ المعسكرَ الشرقي يا صديقي لا ينظرُ إلى المنطقةِ العربيَّة إلاّ بعينِ المصلحة. حتَّى وإن كان يُظهِرُ نفسه على أنَّه مُصلحٌ ومُنْهٍ للنزاعات بالمنطقة، فإنْ توافقتْ ملصحتُه يومًا مع نشوبِ نزاعاتٍ فلنْ يتوانى عن فعلِ ذلكَ بصدرٍ رَحْبٍ.
وخيرُ دليلٍ على أنَّ المعسكرَ الشرقي ينظرُ لنا نظرةً تجاريَّة لا أكثر. هو محاولةُ الصّين بناءَ ميناءٍ تِجاري على أحدِ الشواطئِ الإماراتية لتضمنَ لها بذلكَ قدمًا في السوق العربيَّة والخليجيَّةِ على وجهِ الخصوص. ولتَنْظُرْ مُعتَبِرًا إلى إفريقيا وسلْ نفسكَ هل ساعدتِ الصّينُ وروسيا الدولَ الإفريقية رغمَ تدخُّلِها بها؟
كلُّ ما يحدثُ هو أن تأتي الصّينُ لتسرقَ خيراتِ هذه البلادِ من معادنَ وأراضٍ زراعية كما تفعلُ أوروبا بالطبع، ومِنْ ثَمَّ تخدُعها ببناءِ ملْعبٍ رياضيٍّ أو رَصفِ بعضِ الطُّرُقات. أو حَفنةٍ مِن الأموالِ تُضخُّ إلى حِسابِ دِكتاتورِ هذه البلدة. كذلِكَ تنظرُ إلينا الصّينُ وروسيا يا صديقي فهي تُدرِكُ جيدًا مدى أهميةِ المنطقةِ العربيَّة سياسيًّا واقتصاديًّا. فيكفي الخليجُ ونِفطُه، أو الجزائرُ والعراقُ ونِفطُهما، أو مِصرُ وغازُها وقناةُ السويس ورِمالُ سَيْناء، أوِ حتَّىٰ الصّومالُ وموانِؤه.
فروسيا يا صديقي لا تُرِيدُ لنا الخيرَ. بل تُريدُ لنفسِها الخير. فالسؤالُ الذي يجب أن يُطرحَ على مسامِعِ الشباب في هذا الوقت: لماذا ينبغي علينا دائمًا أن نكونَ تحت رحمةِ حضارةٍ أُخرى تَسُوسُ لنا أمورَنا؟ مع العلمِ أنها لن تسوسها إلَّا بما يتوافقُ مع مصالِحِها الشخصيَّةِ أولا.
لماذا لا نصنعُ رؤيتنا الثقافيَّةَ والسياسة -بل والاستراتيجيّة- من منبعِ فكرِنا العربي الإسلامي بما يتوافقُ مع مصالحِنا نحن لا مصالحهم هم؟ لماذا علينا إمّا أنْ نكونَ تابعين للمعسكرِ الشرقي أوِ إمّا الغربي؟ لماذا لا نبني معسكرَنا الخاصَّ بنا؟ هذا هو السؤالُ الذي ينبغي أن يُطرح. فيكفي هذا الحدُّ مِنَ الإمَّعيَّة. فها هي روسيا نراها الآن تُحاولُ جاهدةً أنْ تمحوَ أيَّ أثرٍ للثقافةِ الغربيَّة على أرضِها. فأنتَ إذا كنتَ تابِعًا لثقافةِ حضارةٍ ما، فهذا سيقودُكَ لا محالةَ إلى أن تكونَ تابِعًا لها سياسيًّا وعلميًّا وفكريًّا وعسكريًّا. بل وحتَّى على مستوى الأهدافِ المُستقبليّة.
وأيُّ سَبْقٍ ستُحرِزُه في مجالٍ علميٍ أو ثقافيٍّ أو فنِّيٍّ أو عسكريٍّ فسَيُنسَبُ للحضارةِ التي تتبعُها شِئتَ أمْ أبيتَ. وذلك باختصارٍ شديدٍ لأنّ أدواتَك المعرفية ولَبِناتَها الأولى مُستمدةٌ مِن حضارةٍ أُخرى، وهذا ما فَطِنَتْ إليه روسيا مؤخَّرَاً خاصَّةً على يدِ فيلسُوفِها ذائعِ الصِّيت (أَلِكْسَنْدَر دُوغِين)، فقد قال في معنى كلامِه في مُقابلَةٍ تِلفازيَّةٍ له مع قناةِ الجزيرة: إنّه يجبُ على الشعب الروسي أن يخلعَ ثوبَ الماديَّةِ الغربيَّة الذي هو نَتَاجُ الثقافةِ الأوروبيَّةِ الغربية. حتَّى وإنْ كانَ هذا سيرمي بهم في أحضانِ الكنسيةِ الكاثوليكيةِ (الروسية) مرةً أُخرى. وهذا ما نراهُ واضحًا جليًّا في قرارِ الحكومةِ الروسية الذي وجَّهته لوزارةِ ثقافتِهَا منذُ بضعةِ أَشهرٍ وهو «إعلاء الثقافة القومية الروسية للبلاد».