لماذا نقرأ التاريخ العثماني؟

لسنا مختلفين عن الآخرين الذين يدرسون تواريخهم:

كثيراً ما نسمع في بلادنا اعتراضات على البحث التاريخي والمناقشة في الماضي: ماذا نستفيد من النقاش عن أحوال العثمانيين؟ وماذا يفيدنا تبرئة السلطان عبد الحميد ؟ وما هي فائدة البحث في اتفاقية فيصل-وايزمان؟ وماذا يعني لنا الموقف من محمد علي باشا؟ لنتطلع إلى المستقبل، الغرب يصنع طائرات ويصل إلى الفضاء ونحن مشغولون بما فات.

لو كان هذا الكلام صحيحاً علمياً لوجدنا أكثر الدول تقدماً تلغي أقسام التاريخ من جامعاتها، ويتوقف فيها اهتمام الأكاديميين في النواحي التاريخية، كما يتوقف تأليف الكتب التاريخية لتتجه كل الجهود نحو التقدم في العلوم البحتة ولا تنصرف الاهتمامات نحو ما يسبب تراجع الأمم.

ولكننا نجد أن كل ذلك لم يحدث، وأكثر الدول تقدماً تقنياً، وهي الولايات المتحدة، تولي الاهتمامات التاريخية التفاتاً عظيماً، بل نجدها لافتقادها البعد الزمني في تاريخها القصير، تحاول نحت تاريخ بأي شكل من الأشكال يصل حد الهوس بتفاصيل غريبة: أين الورقة التي كتب عليها أبراهام لنكولن خطابه؟ وما هي النكت التي كان يتداولها؟ ومن هم أبناء جيفرسون غير الشرعيين؟ وأين قضى تقاعده؟ وما هي آخر الأبحاث والحفريات في عظام المشاركين في معركة أو ضحايا مجزرة؟ وكيف تطورت أطلال معركة ما منذ وقوعها قبل 150 عاماً؟ وهكذا.

لم يقل أحد إن هذه الاهتمامات تصرف عن التقدم وتؤخر الأمة، لأنه من الطبيعي أن تكون اهتمامات الناس موزعة حتى في أي مشروع نهضوي فلا يقتصر الاهتمام والتوظيف على مصنع الطائرات وحده لتترك بقية مرافق الحياة فارغة، ومع وفرة الدراسات التي ترصد التراجع الأمريكي، لم نجد واحدة منها أشارت ولو من بعيد إلى أن الاهتمام بالتاريخ من أسباب هذا التراجع، فيبدو أن للأمريكيين رأياً غير رأي جهابذتنا الذين يحاولون تقليدهم ويرون أن البحث التاريخي يسبب تخلفنا.

وأرجو ألا تكون الاعتراضات على الاهتمام بالتاريخ دليل كسل فكري يعفي صاحبه من القراءة في التاريخ ومن صناعة الطائرة أيضاً كما يبدو ذلك جلياً من حالة المعترضين والكسل العلمي الذي يغرقون فيه، ولا شك أن من كان آباؤه أبطالاً فعرف حقيقتهم وافتخر بهم وتعلم من دروسهم ليس كمن يظنهم لصوصاً فتثبط عزيمته ويحاول الالتصاق بأي عدو غريب ينبهر به فيتبعه لحتفه، أو من لا يعرف عن آبائه شيئاً فيعيش تائهاً مسلوباً بين الأمم يسهل على أي عابر سبيل أن ينال إعجابه وما في جيبه أيضاً (!)

أهمية قراءة التاريخ العثماني ودراسته:

ومن فوائد قراءة التاريخ العثماني على وجه الخصوص إعطاء إجابات عن الأسئلة المحورية التالية في أهدافنا المستقبلية، وذلك لكون الصيغة العثمانية هي التي دخلت بالأمة الإسلامية إلى العصر الحديث وواجهت المشاكل التي مازلنا نعاني منها إلى اليوم ولكن إجاباتها كانت أكثر تماسكاً مما قدمه عصر التجزئة:

1- ما هي أهمية الوحدة الإسلامية لمختلف أقطار وشعوب الأمة؟ وما هي مزايا هذه الوحدة حتى مع ضعفها على حالة التجزئة بأبهى صورها؟

2- ماذا كانت أهداف الغرب من علاقاته مع الدولة العثمانية وهجومه المستمر عليها؟ هل كان يريد نشر الحضارة والتمدن في أقطارها أم مجرد القيام باستغلالها؟ وماذا يترتب على هذه النظرة لعلاقاتنا المستقبلية مع الغرب؟

3- ما هي نتائج التغريب الذي دعا إليه المبهورون بالغرب؟وهل هناك أمل يرجى من الاستمرار في هذا السبيل؟

4- من هو المتسبب في هدم الخلافة الإسلامية وماذا كان الهدف من ذلك؟ ومن هي الجهات التي استمرت تحارب وحدة أمتنا؟ وهل تغير موقفها؟ وهل يمكن لمن هدم صرح الأمة يوماً أن يؤمل منه إقامته مرة ثانية أو أن يسمح بذلك ؟

5- كيف أمكن للخلافة الإسلامية عندما واجهت الهجمة الغربية التصدي لها وما هي الأسس التي بنت عليها مشروعها؟

6- كيف عالجت الخلافة الإسلامية المشاكل المزمنة التي ابتلينا بعدها بها: مثل التبعية السياسية والاقتصادية والاجتماعية والفكرية والعسكرية والانقسامات السياسية والمذهبية والطائفية والقومية والوطنية والدينية واشتعال النعرات والحروب البينية وفقدان التكامل الاقتصادي وهدر الثروات والإمكانات والسباق لنيل رضا الأعداء والانخراط في مشاريعهم المدمرة والإنفاق عليها من ثروات الأمة والاستهلاك الترفي المفرط؟

7- ما هي الأخطاء التي وقع فيها العثمانيون وما هي أسباب ذلك وكيف يمكننا تلافيها مستقبلاً؟

8- ما هو حساب الجرد النهائي لحالة الوحدة؟ هل طغت السلبيات أو الإيجابيات؟

9- من هم المستفيدون من الوحدة ومن هم المتضررون وما نسبة كل فئة منهما؟ وهل يجوز التضحية بمصالح فئة لصالح أخرى؟ ومتى يكون ذلك؟ وما هي الصيغة الأكثر توفيقاً بين الجميع؟

10- ما هو موقع التنوع الحضاري لأمتنا في صيغة الوحدة وكيف أمكن لأمة مازال الغرب يعيرها بهوياتها المتعددة من الاجتماع قروناً طويلة في صيغة وحدة تكاملية؟ وكيف نستفيد من هذا الماضي الثري لمستقبل أفضل؟

11- ما هي العوامل التي أدت إلى التجزئة السياسية والنعرات الانقسامية وما هو دور الخارج في إثارتها؟ وكيف يمكن كف أيديه مستقبلاً؟

12- كيف يمكن لصاحب مشروع النهوض أن يضم من حوله إلى مشروعه دون استثارة حفيظتهم ودون إعطائهم ذرائع للجوء للحماية الغربية الكفيلة بتدمير المشروع من أساسه وفي مهده قبل أن يقف على رجليه متحدياً؟ ومن هم الذين يمكن التفاهم معهم ومن هم الذين يجب الحذر منهم؟ وكيف يمكن التعامل مع الخونة وأصحاب النفوس المتعلقة بالغرب والذين سيحيطون بأي تجربة واعدة لدفنها حية؟

13- كيف جنت النزعات الاستقلالية عن الكيان الجامع على أمتنا بل على أصحابها أنفسهم؟ وهل من الحكمة الاستمرار في الاحتفاء بهذه الاستقالات التي ثبت زيفها في مواجهة الغرب الطامع؟

14- ما هو الفرق بين الاستعمار الغربي وحكم الدولة العثمانية ؟ وهل يجوز إطلاق الصفة الاستعمارية على دولة كانت هي التي صدت الاستعمار زمناً طويلاً وكان رعاياها على اختلاف قومياتهم يحتمون بها من العدوان؟

15- ما هو الفرق بين حكم المسلمين وحكم الغربيين للأمم الأخرى؟ وكيف تعامل كل منهم مع المختلفين عنه؟ وأين ارتكبت الجرائم الكبرى في العالم؟

16- ما هي الآثار التي ترتبت على انضمامنا إلى “المجتمع الدولي” منذ زمن الدولة العثمانية؟ وهل من الحكمة الاستمرار في اللهاث خلف قراراته التي مازالت تجني علينا ؟ وكيف يمكننا تحييد هذه الأضرار في مواجهة الغرب التي يتلفع بقناع “الإرادة الدولية” ويسوق العالم بعصاه كما يشاء لتحقيق مصالحه ؟

17- ما هي آثار دخول الأغراب في خلافات أمتنا الداخلية؟ وهل كان حضورهم إيجابياً أم أنه فاقم هذه الخلافات بقناع “الأمم المتحدة” لتحقيق مصالح لا علاقة لأمتنا بها؟

18- ماهي أهمية الاكتفاء الذاتي في استقلالية القرار السياسي؟ وكيف كان التكامل الاقتصادي دعماً لقوة الجميع في مواجهة الطامعين؟ وكيف أصبح الاعتماد على الاستيراد الغذائي في بلداننا الزراعية التقليدية نتيجة الاندماج في السوق الغربي سبباً في التبعية؟

19- كيف تفرض الوحدة الكبرى منطق العظمة على ساستها فلا يقبلون بالتبعية حتى لو حدثتهم أنفسهم بذلك؟ وكيف تفرض التجزئة منطق الصَغار على ساستها بسبب قلة إمكانات كياناتهم فيضطرون للتبعية للكبار حتى لو أرادوا الاستقلال؟ (مثل منطق القوة الذي يفرض على المصارع القوي عدم الخضوع ومنطق الحاجة الذي يفرض نفسه على الطفل الصغير، القوي لا يقبل بالدنية والضعيف لا يقدر إلا على التبعية).

20- ما هو وزننا في الساحة الدولية في حال الوحدة التي نظنها إلغاء لخصوصياتنا؟ وما هو وزننا في حالة التجزئة التي توهمنا بالاستقلال ؟

هذا ما خطر في البال من نقاط يمكن للتاريخ العثماني توضيح الإجابات عنها ولا بد أن يجد المتعمقون غيرها وغيرها، فكيف بعد ذلك ندعي أن قراءة التاريخ ترف فكري كحكايات الأطفال قبل المنام؟

من شروط صحة الاعتبار بالتاريخ:

نقرأ التاريخ لنطلع على تياراته العامة وتوجهاته الرئيسة ولا نغرق في لحظات البؤس العابرة أو الأفراح الموهومة، إذ أن هناك من يستخدم التاريخ ليستدل على غاية سياسية خاصة فيأتي بحدث ما من الماضي ليقول إن هذه الجهة صديقة على الدوام أو عدو منذ الأزل، ويقتنع السامعون ويهزون رءوسهم قبولاً بهذه الحكمة المستقاة من أعماق الزمن، فمثلاً عندما يتحدث داعية سياسي عن المجزرة الأرمنية وكونها دليلاً على وحشية العثمانيين وتخلف الخلافة واستحالة التعايش في ظل المسلمين، يغرق السامع في تفاصيل الحدث ويخرج مقتنعاً بهذه النتيجة التي لا يأتيها الباطل من بين يديها ولا من خلفها، ماذا تبقى بعد ذبح مليون ونصف المليون أرمني من إمكانات المصالحة؟

يأتي هنا دور قارئ التاريخ العام ليبين الحقائق الأوسع من قراءة التوجهات التاريخية العامة:

  • أن الأرمن عاشوا مئات السنين مع المسلمين وقروناً طويلة مع العثمانيين في انسجام تام جعل العثماني المهيمن، وليس المواطن الأرمني الذي ربما وصفت شهادته بالمداراة، يطلق عليهم صفات الإخلاص والصدق، فما الذي طرأ بعد هذه القرون الطويلة ليؤدي إلى سفك هذه الدماء العزيزة؟
  • في الأحداث التي سفك فيها الدم الأرمني سفكت فيها دماء مسلمة أغزر من الدماء الأرمنية، مما يلقي بظلال من الشك على الصورة الشائعة عن حمل أرمني وذئب عثماني، فمن هو الذي سفك دماء المسلمين الغزيرة وماذا كان موقف العثمانيين من ذلك؟
  • لم يكن التدخل الغربي مخفياً ، ولكن العجيب أن الغرب الذي أثار الأرمن وتاجر بقضيتهم إلى درجة تجهيز خرائط الدولة الأرمنية الموعودة، عاد وتخلى عنهم في اللحظة الأخيرة إرضاء لمصالحه الدنيئة.
  • في الوقت الذي يتم الحديث فيه عن “إبادة الأرمن” ، كانت الأمة الأرمنية آمنة في بقية الدولة العثمانية بعيداً عن جبهات المواجهة مع روسيا، وحتى الذين رُحلوا وتعرضوا للحوادث المؤلمة وصل كثير منهم إلى الأمان في أقطار عثمانية أخرى كبلاد الشام، فالحديث إذن عن إبادة يكون غير دقيق مقارنة بالمفهوم الذي تعرضت له شعوب أخرى لم يتبق منها إلا الفتات كالهنود الحمر في أمريكا وسكان أستراليا.
  • الغرب الذي سفح دموعه بكاء على الأرمن قتل من شعوب أخرى ملايين عديدة على شكل إبادات جماعية وتصفيات عرقية (في الأمريكتين وأستراليا والهند الصينية وإفريقيا وشمالها والبلقان والقوقاز) وكانت الإبادة نموذجاً متكرراً في تاريخه وليست حادثة معزولة، وهو ما يهدد مصداقيته في البكاء على الأرمن.

خلاصة الحديث أن الاستشهاد بالماضي يجب أن يكون شاملاً وليس مبنياً على الحوادث المعزولة، وعندما نريد الخروج باستنتاج عام لا يكفي أن نقول: فلان فعل كذا ، للاستدلال على نتيجة عامة، لأن الصورة الأوسع قد تحتوي على تفاصيل أخرى تقلل من أثر العمل السلبي أو الإيجابي المستشهد به وربما قلبت الاستنتاج رأساً على عقب.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى