إنجازات آخر أيام الخلافة في تقويم الشعب والمؤرخين

تقويم المؤرخين لآخر أيام الخلافة: 

يقول المؤرخ العربي الدكتور أحمد عبد الرحيم مصطفى سنة 1982 في كتابه”في أصول التاريخ العثماني”:”انتهى منذ زمن طويل اعتبار عصر السلطان عبد الحميد مجرد فترة يغلب عليها الطابع الرجعي”.

ويصف المؤرخ نيكولاس دومانيس عصر السلطان عبد الحميد بقوله إن خسارة أراض بلقانية واسعة لصالح الانفصاليين المسيحيين في بداية عهده (1878) أدت إلى أن تفسح القومية العثمانية مكانها إلى فكرة الجامعة الإسلامية، فقد ركز النظام الجديد اهتمامه على رعاياه المسلمين مثل الأتراك والأكراد والعرب والتتار والشركس والألبان بصفتهم أساساً لدولة ناهضة، وقد استمر تحديث هذه الدولة وتركيز السلطة فيها وتمكن السلطان بحلول نهاية عهده من إحكام السيطرة على الموارد البشرية والمادية أكثر من أي من أسلافه، وأقيمت مرافق الدولة المختلفة على أسس رشيدة وعقلانية بشكل ملحوظ في كل من الجيش والإدارات المحلية والتعليم العام والاتصالات مثل السفن البخارية والطرق وسكك الحديد وشبكة البرق الكهربائي(التلغراف) بالإضافة إلى القصر السلطاني نفسه. وبدأ المجتمع العثماني واقتصاده بإظهار مميزات المجتمع الحديث، فبحلول سنة 1900 طغت السكك الحديدية والسفن البخارية على النقل الحيواني والشراعي، وتضاعفت بين 1830-1914 أعداد السكان في استانبول وإزمير وسالونيك في الوقت الذي تضاعف فيه عدد سكان بيروت بين 1800-1914 خمسة عشر ضعفاً من 10 آلاف إلى 150 ألفاً، وكان هذا التمدد المديني ناتجاً عن انتشار زراعة التصدير التي تبعها توسع في التجارة الداخلية والخارجية، وبينما عانت الصناعة العثمانية من تمدد البضائع الغربية الرخيصة بين 1800-1870، فقد شهدت نهضة كبيرة بعد ذلك وانتشرت المصانع حول مراكز المدن لاسيما في استانبول وسالونيك وإزمير وبيروت، كما انتشرت التنظيمات العمالية واحتجاجات العمال. وفي سنة 1908 امتلكت استانبول 285 مطبعة، وصحافة نقدية نابضة بالحياة تراوحت انتقاداتها بين السياسة وبعض مساوئ الحياة العصرية.

ويقول المؤرخان ستانفورد وإيزل شو إن السلطان عبد الحميد عد نفسه مصلحاً وكان كذلك بالفعل، وتمكن بحكمه الفردي من استعادة وحماية امبراطوريته المبعثرة وإحياء مجتمعها وإنجاح معظم الإصلاحات التي هُددت من قبل.

ويقول المؤرخ أندرو ويتكروفت إن السلطان كان أكثر محدثي المجتمع العثماني تأثيراً رغم خطابه المستند إلى الماضي (أي الإسلام)، والذي وحد جميع القوى التقليدية في المجتمع العثماني توحيداً سياسياً خلف قيادته، وقد تحققت معظم وعود الدستور رغم إلغاء العمل به: فقد زود الإمبراطورية بالبنية الأساسية للتعليم الثانوي وبشبكة مواصلات وخطط لتطوير الطرق، ومد البرق الكهربائي على مساحة الدولة حتى وصل إلى البلدات الصغرى، وأدار جهازاً ضخماً من الموظفين، وقد صوره أعداؤه داخل وخارج الدولة بصورة الأحمق الشرير، وكانت “حماقته” هي عدم اتباع وصفة التغريب المعتمدة للتطور والتي لم يطبقها الأوروبيون أنفسهم بحذافيرها وأحبطت خطط الإصلاح القائمة عليها كلاً من الغرب والمصلحين العثمانيين.

ويقول المؤرخ بيتر مانسفيلد إنه رغم أن السلطان كان يتبنى ذهنية رجعية (بالمفهوم الغربي)، فإنه يمكن عده وفقاً للشروط الحديثة مجدداً ومحدّثاً ولكن ليس متغربناً، وقد كان له إنجازات لا يمكن تجاهلها طوال تاريخ حكمه الممتد.

اقرأ أيضا: أثر التغريب في تحولات الأخلاق الاجتماعية في آخر العهد العثماني

السلطان عبد الحميد وأيام الخلافة في ذاكرة شعبه:

إن كتاب “السلطان الأحمر عبد الحميد” مؤلف استشراقي يحكي قصة حياة هذا السلطان بأسلوب تلخصه صورة الغلاف المليئة بالقتل والدم والرقص والبذخ إضافة لقسوة تعابير وجه السلطان الغارق في كل ما سبق، وقد أصبح هذا الاختزال من مخلفات الماضي، ولكن المهم ما قاله المؤلف “جون هاسلب” في خاتمة الكتاب تحت عنوان “السنوات الأخيرة” التي أعقبت خلع السلطان عن العرش: ” لا نعرف الشيء الكثير عن السنوات الأربع الأخيرة من حياة عبد الحميد….(و) ربما لم يكن عبد الحميد يوماً، أقرب إلى شعبه مما كان عليه في تلك الأيام، حين امتزجت همومه الشخصية بمخاوفه على مستقبل بلاده، في وقت كانت فيه مدافع مدينة غاليبولي تدوي عبر المضايق، ودخول الغواصات البريطانية إلى بحر مرمرا يزرع الذعر في العاصمة. ثم تتابعت الكوارث، وأخذ الناس يترحمون همساً وبأصوات منخفضة، على زمن سعيد مضى، زمن كان فيه “البابا حميد” جالساً على عرش سلاطين بني عثمان” .

ويؤكد ذلك الأستاذ سعيد الأفغاني الذي كتب من دمشق في مجلة العربي الكويتية (عدد ديسمبر 1972) تحت عنوان “عبد الحميد في ذاكرة شعبه”: “إني أعي في طفولتي- وقد نزل من ويلات الحروب وضياع البلاد والمجاعة والقحط أيام الحرب العالمية الأولى- الناس وهم لا يملون من ذكر أيام عبد الحميد بالخير والرحمات، وكانت كلمة “سقى الله تلك الأيام” لازمة تتردد على الألسنة كلما ذكر عبد الحميد وعهده، ولقد كان عندهم خلع عبد الحميد هو الباب الذي منه تدفقت على البلاد المصائب والشدائد والضياع، ومالي أرجع إلى عهد الحداثة (أي صغر السن) وأنا الآن كلما جلست إلى معمر أو أصغيت إلى حديث يدور بين طاعنين في السن أسمع الترحم على عبد الحميد وعلى أيامه، حتى صار اسمه حناناً في قلوب الناس، تجسد فيه عزهم السابق ورخاؤهم وأمنهم وسلامة مقدساتهم”ص 157 مقال “سبب خلع السلطان عبد الحميد: وثيقة بتوقيعه، فريدة مجهولة تصرح بالسبب”.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى