اختيارات المحرر

الحرب المنسية.. إلى أين تتجه السودان بعد سقوط الفاشر؟

في يوم الاثنين الموافق 27 أغسطس 2025 أعلنت مليشيا الدعم السريع بقيادة حميدتي السيطرة الكاملة على مدينة الفاشر عاصمة إقليم شمال دارفور، وهو وحده كان ملجأ النازحين داخل السودان من مختلف المدن داخل المناطق المختلفة الخاصة بالإقليم؛ ليحوي وحده 3 مليون شخص، تحتضن منهم الفاشر وحدها 300 ألف مواطن، لتكتمل هكذا صورة الهيمنة شبه الكاملة على إقليم استراتيجي يمثل بالفعل ربع المساحة الإقليمية للسودان بنسبة تقترب من 25%، وسط صور مكتملة من المآسي المروعة التي تقترفها الميليشات منذ أكثر من عام ونصف وسط صمت مريب ولا مبالاة غير مبررة كليًا لصراع دامٍ قُتل فيه 66 ألف شخص خلال عامين!!

أما بالنسبة للجرائم المنظمة، فقد وصلت حالة الاحتضار العمراني الجسيم في المدن السودانية كافة، وعلى رأسها الفاشر لدرجة غير مسبوقة من المجاعة الفتاكة التي استُخدمت باعتبارها “سلاح حربي” نتيجة الحصار الخانق الكبير، والذي نتج عنه تعرض أكثر من 150 ألف طفل لخطر المجاعة وسوء التغذية، فضلًا عن انتشار شهادات مروعة من قتل ممنهج لأشخاص جالبين لأبسط الإمدادت الغذائية، أي قتلوا بتهمة الحصول على المستلزمات الأساسية مثل الزيت والمكرونة والشاي والسكر؛ لمحاولة كسر بسيطة ورمزية للحصار الشديد والمحكم في مدينة كانت معقل حضارة أساسي وشوكة صامدة في حلق مليشيا الدعم السريع.

الفاشر ليست الوحيدة.. مسارح أخرى للجرائم البشعة

صور الأقمار الصناعية الفاشر
على اليسار: صورة قمر صناعي لقرية ألسن، غرب الفاشر، التُقطت في 6 يوليو. على اليمين: صورة لنفس القرية يوم 24 يوليو. (المصدر: BBC)

لا يتوقف الإجرام الوحشي والانتهاك الممنهج عند الفاشر وحدها، إذ تمدد لمدن كثيرة وصلت فيها حجم المأساة الإنسانية لدرجة الاحتضار الفعلي لمدن الدلج وكردفان وود مدني من انتشار المجاعة الفتاكة التي وصفها الباحث الأنثروبولوجي البريطاني “ألكس دي وال”: «بأنها مرعبة ومخيفة وغير مسبوقة»،1 فضلًا عن مظاهر أخرى مثل انعدام البنية التحتية واستهداف الصحفيين أو القبض عليهم مثل مراسل الجزيرة “معمر إبراهيم” في الفاشر، والإذلال المقصود والاغتصاب والتمثيل بالجثث وكذلك الإعدامات الميدانية الكثيفة، وانتهاء بتجارة الذهب المنهوب، كما يؤكد الباحث “أسامة أبو زيد” في مقال له على موقع ميدل إيست آي تحت عنوان محزن: (صراع آخر دامٍ في السودان، فهل يلتفت إليه العالم؟)2.

علاوة على ذلك، فإن سجل الدعم السريع في الإبادات الجماعية في دارفور دال وبشدة على فكرة انعدام الرحمة والذمة التي دفعتهم لفعل ممارسات إبادية وجرائم حرب في تلك المدن الثلاثة، لدرجة مخيفة وغير مسبوقة في التاريخ السوداني الحديث، فوفقًا لتحقيق موسع من محرر التنمية العالمية “مارك تواسنت” في الجارديان البريطانية حصار الفاشر المرعب خلال 3،596 أي قبل شهر ونصف تقريبًا من كتابته يؤكد فيه بصور الأقمار الصناعية أنه يقتل بلا شك في المدينة “السودانية الواحدة” بين 1000 و1500 شخص، وسط استفحال واستقواء فارغ وأجوف على المدنيين العزّل في حصار وإبادة جماعية لمدة 700 يوم بالتحديد من القهر والإذلال والموت المتسارع لدرجة تطابق الوصف الأممي لكارثتي دارفور في بداية الألفية الجديدة و لآن بأنها «أسوء كارثة إنسانية في العالم».

غير ذلك، تتميز الدعم السريع بأنها تريد إدارة عملية الإبادة في صمت وهدوء فلا صخب ولا إعلام يبلغ عنهم، أو مثلما سمتها الكاتبة البريطانية “نسرين مالك” «الحرب الصامتة»،4 التي لا يراد لها الإفصاح عنها فقط لأن فظائعها المزرية والوحشية أوصلت السودان لانعدام الحياة العامة الطبيعية. فيُقذف بكل ما هو حي حتى الحيوانات، ويُعلّق البشر بالجنازير بعد ذبحهم، فضلًا عن وصول المجاعة فيها للدرجة الخامسة في مؤشر الجوع العالمي، بمعنى آخر السودان كاملة الآن وتحديدًا المدن المحاصرة والمطوقة هي مدن على حافة البقاء، وسط تحويل بلدهم الكبير لساحة نهب وسرقة لمصالح إقليمية وموازيين قوى أعمق وأعقد من حلها دبلوماسيًا.

معضلة المفاوضات وحل الحرب دبلوماسيًا.. لا نهاية محددة في الأفق

مفاوضات السودان

مع بدء الحرب السودانية قبل عامين ونصف العام تقريبًا، و تحديدًا في إبريل 2023، صعدت الأصوات المنادية بضرورة حل الأزمة السودانية عن طريق الدبلوماسية الناعمة والمفاوضات الجارية، ولكن وجدت عدة معضلات أساسية تحيل من إكمالها للنهاية، أبسطها الطرف الآخر من الدعم السريع المدعوم والممول بالكامل إماراتيًا يريد الاندماج البطيء مع السلطة في مدة عشر سنوات، فشكل الانقسام الدبلوماسي و السياسي على إنهاء الأزمة بين خمس دول ألا وهم مصر والسعودية والإمارات والولايات المتحدة وطرفي التفاوض ممثلة في السودان نفسها فيما عُرف باسم الرباعي التفاوضي.

فعلى مدار تلك الفترة المديدة للحرب، عُقدت العديد من المؤتمرات الدولية في دول عدة مثل سويسرا والمملكة المتحدة ولندن وفرنسا والبحرين، قُبيل حتى تشكيل الرباعي التفاوضي الحالي التي انتهت محاولتهم لإخراج بيان مشترك عقب مؤتمر البحرين من أجل إيجاد حل دائم شامل ومستدام يشكل نهاية محددة وقاطعة للصراع الدامي والمؤلم في السودان، تاركين المجال الحالي لعدة أسئلة غير مجابة بشكل قطعي، وخاصة بعد إصدار ما أطلق عليه خارطة الطريق التي اختتمت بمقابلة الفريق البرهان مع مسعد بولس كبير مستشاري الشؤون العربية والأفريقية للرئيس ترامب.

إكمالًا لتلك الاجتماعات، تظل الأسئلة المتعلقة بالأزمة السودانية مركبة ومعقدة لأنها متداخلة ومتعددة الأبعاد والجوانب من جميع المجالات المختلفة سواء السياسية منها وانتهاء بالعسكرية، فعلى سبيل المثال لا الحصر مصير الجرائم البشعة في المدن المحاصرة، وموقف الإمارات الداعم لما وصفه الصحفي البريطاني “أوسكار ريكيت”: «بإشعال مغذي للحرب السودانية»، في تقرير موسع من عام ونصف على موقع ميدل إيست أي البريطاني،5 متوافقًا مع رأي رصين للباحثَين في مؤسسة “راؤول واليتبيرج”، “معتصم علي” و”يوناح دايموند” في مجلة فورين بوليسي بعنوان مثير: (هل تستطيع الإمارات إيقاف الحرب في السودان؟)،6 مستخلصين أن تلك الحرب الكارثية هي غنيمة ذهبية للإمارات من حيث الثروات والمعادن النفيسة والطاقة الأحفورية، فلم تريد إيقافها وهي تربح منها؟ وتحقق منها نفوذًا موازيًا مكملًا لدورها البارز في الإقليم كافة من غزة والسودان وختامًا باليمن المدمر والمقسم.

بالإضافة لما سبق، فإن أطراف الرباعي أنفسهم يواجهون توترات متبادلة حيال الملف، ففي حين تدعم مصر المؤسسة الرسمية الممثلة في القوات المسلحة السودانية بالتوافق مع السعودية لدعمها وتأييدها الحازم والحاسم، فإن الخلافات هنا تقع من ناحية الإمارات التي دعمت الحكومة الموازية في السودان التي أُعلنت من قبل حميدتي في أغسطس الماضي، مستغلة ذلك في إشعال الخلافات بينها ومصر من ناحية، ومحاولة تهميش دور المفاوضات الجارية لأجل غير مسمى بالتحديد؛ خالقة معضلة مزدوجة مكمنها الانقسام السوداني على أرض منقسمة بين فصيلين متحاربين، و بين الأطراف المتفاوضة الرافضة بالإجماع بما فيهم الولايات المتحدة مسألة التقسيم أو حتى فكرته.

فمجمل المشهد التفاوضي أنه لا نهاية محددة في الأفق لاختلافات عميقة، مع وجود عدة عوائق غير مدروسة وغير واضحة المعالم حتى اللحظة. فعلى سبيل المثال، يظل سبيل الإنهاء لخطر الدعم السريع مفتوحًا وخاصة بعد بنائهم سواتر ترابية عازلة، والبدء في بناء هياكل موازية مصرفية وسياسية، فضلًا لما ذكرته تقارير متعددة أنها سلسلة ممتدة من الحرب لحين الانتهاء الفعلي منها بهدف أحد الطرفين المتحاربين، فهي حرب دامية مأساوية ذات “نافذة ضيقة” بتعبير الباحث أسامة أبو زيد للانتهاء نهاية سليمة وأمل محدود وضئيل بالسلام، مع ظهور مخاوف مرجحة التقسيم والتفتيت الفعلي لتكوين “دولة داخل الدولة” التي ستمثل قنبلة موقوتة على وشك الانفجار الهائل لحرب منسية تمامًا. 

الفاشر.. مدينة مفتاحية للتقسيم المنشود

خريطة إقليم دارفور

 تاريخيًا، صدرت الفاشر باعتبارها عاصمة عريقة ومدينة ذات صيت واسع، لما تمتلك من مكانة دينية وسياسية عريقة؛ كونها كانت مركزًا لجلب كسوة الكعبة المشرفة طيلة أكثر من نصف قرن من الزمن، فضلًا عن كونها مدينة ذات مناخ ممتاز وتربة خصبة وأرض غنية بالموارد المعدنية والنفط، و الأكثر أهمية من ذلك يكمن في كونها عاصمة إقليم دارفور الاستراتيجي؛ كون المسيطر على دافور يتحكم تقريبًا بأرض السودان بطريقة شبه شاملة ومحكمة.

ولعل هذه الأهمية الحيوية هي التي دفعت الغزاة والطغاة عبر الزمان في معاملة خاصة لهذا الإقليم إما برفعه والاهتمام به وتنميته واستخراج موارده لمصالح ضيقة أو استعمارية مثلما حدث في الاحتلال الإنجليزي للسودان محولًا إياه لمنجم مربح وفرخة تبيض ذهبًا بعد البلاد الأسيوية، أو إبادته الوحشية وإهماله الجسيم الرامي به لمشارف التهلكة وحافة البقاء مثل ما يفعله حميدتي من جرائم مجنونة ومذابح انتقامية تهدف لتثبيت حكومة التأسيس الموازية عن طريق الترهيب والتخويف الممنهج و الانتقامي.

غير أنها الفاشر مفتاح عميق للدخول المحكم والمتوغل بحتمية مؤسسة لتنفيذ مشاريع تقسيم السودان، وتفتيته لدولتين، وخاصة بعد انفصال جنوب السودان عام ٢٠١١م عن السودان الكبير، ومن هنا يأتي التخوف المحتمل من اتساع الدائرة التوسعية لحميدتي ومخططاته الخبيثة التي إن تُركت مخذولة ودون رادع فستكون أشد كارثية وأقوى وطأة على عدة دول إقليمية لتشكيل أزمة صامتة، حقيقةٌ عُزلت إعلاميًا وطويت صفحة دموية لحرب لا بواكي لها، في تجاهل تام حتى لأبسط حقوق النصرة ألا و هي نصرة الكلمة. 

فإن استمرار التغطية الإعلامية لا يعد حلًا كاملًا للأزمة لكنها وسيلة ضغط مستمرة لمنع مخطط التقسيم في وسط حرب غاشمة ذاق مرارتها الحارقة الشعب السوداني الذي يواجه أزمة إنسانية طاحنة.

وتؤثر المساحة الجغرافية للمدينة كذلك على مسار الحرب إذ إنها تمثل تقريبًا مفتاح الربط بين الولايات الأخرى الخاصة بالإقليم، وتحتوي عددًا كبيرًا من المحليات تبلغ عددها 18 محلية، تقلصت لـ7 بفعل الحرب، و هي القلب النابض لشمال إقليم دارفور المحاصر لمدة عام ونصف حتى كتابة هذا المقال، وما شكّل تهديدًا حقيقيًا للسكان هناك هو التاريخ الدموي البشع لتلك المليشيات المارقة، التي رأينا عيّنة بسيطة من الدم البارد وانعدام الشفقة الإنسانية والتفاخر بالشيطنة ونزع الأنسنة المحض على غرار إبادة غزة المستمرة حتى اللحظة.

ختامًا.. الفاشر تُعرّي القوى الغربية

ويكمن السر وراء الجنون الهمجي والقتل الجماعي الانتقامي في الفاشر في اللحمة الوثيقة التي أذابت الفروق العرقية والطبقية، فأصبحت ملاذًا آمنًا وحضنًا دافئًا لكل نازح مهاجر حتى من الخرطوم في بداية الحرب، فارتفع عدد النازحين بها من 600 ألف لـ2 مليون نازح من مختلف أنحاء السودان، فتحولت لبوتقة من التلاحم الوثيق والتعاون المُحي للسنن الإسلامية المهجورة مثل التعاون على البر وإغاثة الملهوف ونصر المستضعفين، في قوة اجتماعية استثنائية لا تعرفها القوى الغربية؛ لأنها مُعرّية لهم حتى في عز المقاتلة الضاربة في جذور الحرب الحالية، فالقاتل هنا، وإن كان شبيهًا بهم فهو ليس منهم قطعًا.  

مراجع

  1. The Return of the Starvation Weapon ↩︎
  2. ?Sudan’s War is not just ‘another African conflict’. When will the world step in ↩︎
  3. ‘We will never, ever escape’: inside the ever-tightening siege of the Sudanese city of El Fasher ↩︎
  4. For a full year, the bodies have piled up in Sudan – and still the world looks away ↩︎
  5. How the UAE kept the Sudan war raging ↩︎
  6. Why Won’t the UAE End the War in Sudan? ↩︎

مصطفى نصار

باحث مسلم ومترجم حر منحاز للعدل مختص في الشؤون العربية، وتحديدًا مصر وسورية وفلسطين والسودان،… المزيد »

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى