ما لا يسعك جهله عن فلسطين.. حوار متخيل عن قصة القضية
توجهت إلى ذلك المقهى المعتاد، مثل ما أفعل كل نهاية أسبوع، واخترت طاولة منزوية بعيدة بعض الشيء عن الضجيج، ثم جلست منتظرًا ظهور النادل؛ الذي ما إن رآني حتى أشرت له بيدي اليمنى بتلك العلامة المعروفة لمدمني القهوة: السبابة والإبهام فوق بعضهما مع فراغ بينهما، فأوما برأسه مبتسمًا أن قد فهم الطلب، وذهب لإحضار فنجان القهوة.. بينما أخرجت من حقيبتي روايتي التي أقرأ هذه الأيام: “الشوك والقرنفل” ليحيى السنوار رحمه الله، فتحت آخر صفحة كنت فيها ثم انهمكت في القراءة مستغرقًا في تسلسل الأحداث.. أحضر النادل القهوة فشكرته. ثم رشفت منها رشفة لا بأس بها كي أستجمع مزيدًا من التركيز.. ثم عُدت للقراءة..
– «العادة هي العادة، قهوة وكتاب!». قطع عليّ الصوت المألوف أفكاري فرفعت عيني، فإذا هو صديقي أحمد، ابتسمت قائلا: «وماذا تريد أن أفعل؟! إن شخصًا تطحنه دوامة العمل طيلة الأسبوع، ليستحق فسحة في نهايته؛ يمارس فيها شيئًا يحبه.. تفضل بالجلوس، أطلب لك قهوة؟»
– «أعوذ بالله! معذرة يا صديقي، فلست ممن يستمتع بتعذيب حنجرته بسائل أسود مرٍّ لاذع، اطلب لي شايًا بسكر من فضلك».
أجبته ضاحكا: «أعلم أنك عضو في حزب الشاي، إنما مازحتك فقط».
ثم ناديت النادل وطلبت له ما أراد، قال وهو يشير إلى الرواية: «كتاب جديد هذا؟ عن ماذا يتحدث؟»
– «هذا كتاب يستحق مجلسًا وحده، أدعوك فيه لفنجان قهـ.. أقصد لكوب من الشاي، وأحكي لك عما فيه، أما الآن فأريدك أن تحدثني عما بك، فإنك تبدو لي على غير ما يرام».
سكت هنيهةً كأنما يستجمع أفكاره، ثم زفر زفرة طويلة وقال: «لا أخفيك يا صديقي أن أحداث غزة الأخيرة قد أقضت مضجعي».
قالها وتوقف فجأة إذ ظهر النادل محضرًا صينية الشاي التي وضعها أمامه، شكره بإيماءة برأسه وانتظر حتى انصرف، ثم تابع: «ولا أقصد بذلك الحزن على أهلنا الغَزيين والألم لمصابهم فقط؛ فهذا الشعور، وشعور الحقد تجاه الصهاينة وتمني الثأر منهم.. كلها مشاعر طبيعية لدى كل مسلم متابع للأحداث.. لكني ما إن تخفت العاطفة، ويشتغل ذهني مفكرًا في الوضع، حتى تتوه أفكاري وتتشتت: متى بَدَأت كل هذه الأحداث؟ لماذا كل هذا الصمت من العالم؟ إذا كانت القضية عادلة فعلًا.. فأين مجالس الأمن ومحاكم العدل؟ كثيرًا ما أتخيل نفسي في نقاش مع شخص آخر يتبنى الرواية الصهيونية، فينتهي النقاش بعجزي عن تقديم القضية بوضوح.. أرجو أنك فهمت مشكلتي فإن عقلي المشتت لا يستطيع الشرح أكثر».
وصبّ لنفسه بعض الشاي، ثم أعاد البراد لمكانه ورشف رشفة من الكأس، وهو ينظر إلي منتظرًا ردي.. فقلت له وأنا أحاول انتقاء كلماتي لأجذب انتباهه: «أولا يا أحمد، عليك أن تحمد الله أن هداك لهذا الموقف الفطري: الألم لمصاب إخوانك وتمني الثأر من العدو. فإن أقوامًا من “النخب” السياسية والفكرية بل والدينية في بلداننا قد غفلوا أو “تغافلوا” عنه.. تخيل أن هناك علماء ومشايخ بلحاهم، يطعنون في عمل المجاهـ.ـدين هناك وفي عقائدهم، وأنّ نخبًا بشهادات عُليا ومناصب مرموقة، يقفون على المنابر ببدلاتهم الأنيقة منافحين عن الصهاينة بحجة مصلحة الوطن والرؤية الاستراتيجية.. على أيٍ، دعنا لا نبدأ حديثنا في الموضوع بذكر المُطبعين، حتى لا نصاب بالغثيان.
إنني أفهم مشكلتك يا أحمد، فهي مشكلة كثير من الناس: عدم امتلاك ثقافة عن القضية. إن الدفاع عن قضايانا يا صديقي، لا يُكتفى فيه بالجانب العاطفي المبني على مشاهد المجازر ومشاعر الغيظ من تكالب الأعداء فقط، وإن كان لا غنى عنه لإذكاء روح المفاصلة بين الأمة وأعدائها، بل لا بد فيه من تأسيس وعينا على عقيدة صحيحة، وعلى معرفة بالتاريخ والواقع، وعلى القدرة على المحاججة عنها ورد الشبهات التي تُثار حولها».
– «يبدو لي أنني أحسنت بالمجيء هنا، هذه مشكلتي بالضبط.. أريدك أن تشرح لي الأمر من ألفه إلى يائه، ولك عليّ ألا تنتهي من فنجان قهوة إلا جئتك بآخر؛ كلها على حسابي».
– «مهلا يا صديقي مهلا، أعفني من كرمك هذه المرة، فأنا لا أنوي أن أقضي بقية عمري مستيقظًا، يكفيني هذا الفنجان، أما الحساب فهو عليّ بما أنك ضيفي.
قصة القضية من البداية
حسنًا، سنبدأ القصة من بدايتها.. قصة احتلال فلسطين، متى بدأت؟ ومن شارك في مساعدة الصهاينة عليها؟ وكيف تشكلت الحركة -وقبلها العقلية- الصهيونية التي تُعامل الفلسطينيين بهذه الوحشية الجبانة؟ وما سبب صمت الأنظمة العربية عن هذه الجرائم؟ وما دور عامة الناس عمومًا، والمسلمين خصوصًا، وما دوري أنا ودورك أنت، في نصرة هذه القضية العادلة؟ سأجيبك على هذه الأسئلة جميعها، وكذلك على مختلف الاعتراضات التي يقدمها مؤيدو الكيان وأذنابهم من صهاينة العرب. فأعرني سمعك وانتباهك.. فإننا سنعود إلى جذور القصة، وسنسافر للماضي عبر أروقة التاريخ».
– «للماضي؟ تقصد لتأسيس إسرائيل قبل خمسة وسبعين عامًا أم قبل؟»
– «بل قبل 3000 آلاف سنة! إلى سنة 997 قـ.م، حين سكن بنو إسرائيل أول مرة بيت المقدس، أيام دولة نبيَّي الله داود وسليمان عليهما السلام، وقد استمرت دولة النبيَين الكريمَين إلى أن انقسمت بعد وفاة سليمان عليه السلام إلى دولتين: مملكة يهوذا ومملكة إسرائيل، وبقيت هاتان المملكتان حتى دُمّرتا على يدَي الملِكَين (نبوخذ نصر) والملك الآشوري (سرجون الثاني)، وقد تعرض اليهود للسبي والطرد من الأرض المقدسة: “وقد أُقصي اليهود عن فلسطين، وشُردوا في دول العالم كله، فلا تكاد تجد دولة تخلو من اليهود، وكان هذا مقتضى فعل الله بهم وقضائه عليهم {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ} [الأعراف: 167]”1 وبَقِيَ اليهود منذ ذلك الحين يَمُنُّون أنفسهم بالرجوع إلى أرض فلسطين المباركة ويتواعدون على ذلك فيما بينهم، لكن كانت تمنعهم ظروف عيشهم وما يتعرضون له من القمع والاضطهاد، إلى أن جاء العصر الحديث فبدأت أفكار العودة إلى بيت المقدس تتبلور في حركة سياسية تسعى لإعادة اليهود إلى أرض “الميعاد”: الحركة الصهيونية.. التي أسسها ثيودور هرتزل».
الحركة الصهيونية
– «تمهل يا صديقي تمهل.. حدثني قليلًا عن الصهيونية، فإنني أسمع عنها كثيرًا ولا أعرف لها تعريفًا جامعًا».
– «حسنًا، للصهيونية تعريفات متعددة، لكن المنتشر منها هو التعريفات الغربية، أو تعريف الصهيونية لنفسها، باعتبارها حركة تسعى لتحقيق حق اليهود في امتلاك وطن قومي مستقل، لكن الدكتور عبد الوهاب المسيري رحمه الله -وهو بالمناسبة من أكثر المفكرين العرب تناولًا للصهيونية واليهودية- ينتقد في كتابه (تاريخ الفكر الصهيوني) هذه التعريفات، ويرى أنها إما قاصرة عن تفسير كل أبعاد الحركة، أو لا تعبر بصراحة عن معتقدات الحركة وأهدافها، وبالتالي فهو يعطي ثلاثة عناصر أساسية تُكَوّن الصيغة الشاملة للصهيونية:
“أ. اليهود شعب عضوي منبوذ غير نافع (أي جماعة وظيفية بلا وظيفة)، يجب نقله خارج أوروبا ليتحول إلى شعب عضوي نافع.
ب. يُنقَلُ هذا الشعب إلى أي بقعة خارج أوروبا [استقر الرأي، في نهاية الأمر، على فلسطين بسبب أهميتها الاستراتيجية للحضارة الغربية وبسبب مقدرتها التعبوية بالنسبة للمادة البشرية المستهدفة] ليُوطّن فيها وليحل محل سكانها الأصليين، الذين لا بد أن تتم إبادتهم أو طردهم على الأقل [كما هو الحال مع التجارب الاستعمارية الاستيطانية الإحلالية المماثلة].
ج. يتم توظيف هذا الشعب لصالح العالم الغربي الذي سيقوم بدعمه وضمان بقائه واستمراره، داخل إطار الدولة الوظيفية في فلسطين.”2..
لكن لكي لا تتوه في المصطلحات الفلسفية، يمكننا تلخيص بداية الصهيونية في كونها حركة ظهرت على يد اليهود في أوروبا كرد فعل على ما يسمى معاداة السامية، وقد تأسست على يد متطرفين متشبعين بأفكار دينية يهودية -أو يتظاهرون بذلك ويخفون علمانيتهم أو لا دينيتهم- ، لكن هذه الحركة تعرضت -كما هو الشأن لكل شيء في أوروبا- للعلمنة، وقد سعى مؤسسها ثيودور هرتزل (1860 – 1904) إلى تكوين العلاقات وتنظيم المؤتمرات واللقاءات وبين القادة الأوروبيين وإقناعهم بقضيته وبضرورة سعيهم لإيجاد وطن قومي لليهود.
وطن قومي لليهود.. من الأرجنتين إلى فلسطين
اجتهد هرتزل في بناء العلاقات وعقد الاجتماعات بالقادة الغربيين، خصوصًا البريطانيين، لكي يُعينوه على إقامة الدولة التي يسعى إليها.. وقد جرى اقتراح الأرجنتين كمكان محتمل»
قاطعني أحمد مستغربًا: «الأرجنتين؟ لعلك تقصد فلسطين!».
– «بل الأرجنتين، لك أن تتخيل يا أحمد، أن الاختيارات انتقلت بين عدة أماكن حول العالم لم تكن فلسطين إلا خيارًا من بينها، فمن الأرجنتين، إلى قبرص، إلى شبه جزيرة سيناء، إلى أوغندا.. ثم فلسطين، التي كانت واحدة من الخيارات فقط، لكن بعد رفض الاختيارات الأخرى، وبعد صدور وعد بلفور تم التركيز على فلسطين..
فقد أثمرت جهود الصهاينة ومفاوضاتهم في المملكة المتحدة، انتزاعَ مكتسبٍ سياسي شديد الأهمية، هو وعد آرثر بلفور سنة 1917م، الذي وعدَ فيه اللورد ليونيل دي روتشيلد، أحد زعماء الحركة الصهيونية في بريطانيا، بإقامة وطن لليهود على الأرض المقدسة، وقد جاء هذا الوعد في سياق الحرب بين الدولة العثمانية -التي كانت تلفظ أنفاسها الأخيرة آنذاك- وبريطانيا، حيث تم الاستيلاء على معظم أراضي العثمانيين وتوزيعها بين المنتصرين، وكان أن أُعطيَت فلسطين للصهاينة.
وقد كان مما جاء في نص الوعد: “تنظر حكومة صاحب الجلالة بعين العطف إلى إقامة وطن قوميّ للشعب اليهوديّ في فلسطين، وستبذل غاية جهدها لتسهيل تحقيق هذه الغاية، على أن يُفهم جليًا أنه لن يؤتى بعمل من شأنه أن ينتقص من الحقوق المدنية والدينية التي تتمتع بها الطوائف غير اليهودية المقيمة في فلسطين، ولا الحقوق أو الوضع السياسي الذي يتمتع به اليهود في أي بلد آخر”».
– «يا لظرافة هؤلاء البريطانيين! لاحظ أنهم حريصون على الحقوق المدنية والدينية لغير اليهود في فلسطين، صحيح أنهم سرقوا أرضهم وأعطوها لغيرهم، لكن كل ذلك يجب أن يكون مع احترام “الحقوق”!».
ضحكت لطرافة تعليقه، ثم أضاف بعد أن ارتشف رشفة من كوبه: «لكن أين العرب والمسلمون من هذا؟ هل كانوا غائبين عما يجري في العالم؟!»
المواجهات العسكرية بين العرب والصهاينة
– «لا يا صديقي، لم يكونوا كذلك، أو لنقل لم يكونوا كلهم كذلك، فقد كان لوعد بلفور آثار سياسية وعسكرية مهمّة، لعل أبرزها ظهور حركة مقاومة مسلحة على أرض فلسطين، على يد الشيخ المجاهد عز الدين القسام رحمه الله (1883 – 1935). وإليك لائحة المعارك التي خاضتها الدول العربية ضد الكيان الصهيوني منذ قيامه إلى اليوم:
أولاً: نكبة فلسطين وحرب عام 1948م
بعد أن قررت الأمم المتحدة سنة 1947م تقسيم فلسطين بين أهلها الأصليين والصهاينة المحتلين، وترك مدينة القدس كمنطقة دولية، قامت حركة مقاومة عسكرية فلسطينية مدعومة بقوات نظامية من طرف عدد من الدول العربية، لكنها كانت تفتقر للتنظيم وقوة التسليح والعدد، حيث كانت القوات الصهيونية تفوق ما تم تجميعه من قوات عربية في العدد والعدة. فانتهت هذه الحرب باحتلال اليهود لمعظم أراضي فلسطين (أكثر مما كان مقررًا لهم من طرف الأمم المتحدة)، حيث خرجت إسرائيل باحتلال مساحة تبلغ 20900 كم² من الأراضي الفلسطينية، بينما احتفظ الفلسطينيون بمساحة قدرها 5500 كم².
ثانياً: العدوان الثلاثي وحرب 1956م
أقلقَ تحرر مصرَ وتزايد قوتها ودورها في دعم الدول العربية الأخرى للتحرر من الاحتلال، بريطانيا وفرنسا والكيان الإسرائيلي، خصوصًا بعد تأميم مصر لقناة السويس، فاتفقت مصالح الثلاثة على الهجوم على مصر. بدأت الحرب في 29 أكتوبر 1956 بغزو إسرائيلي استهدف سيناء وقناة السويس، لكن القوات المصرية المتواجدة في سيناء وغزة تصدت له، فتدخلت فرنسا وبريطانيا في النزاع ليصير الثلاثة ضد مصر. لكن تهديدًا من الاتحاد السوفيتي آنذاك لفرنسا وبريطانيا دفعهما إلى وقف العدوان، فانسحبت كل من القوات الفرنسية والبريطانية والصهيونية من مصر.
ثالثاً: حرب 1967م
تُعرف أيضًا بالنكسة، كانت نزاعًا عسكريًا قصيرًا بين الكيان الصهيوني ودول عربية، بما في ذلك مصر والأردن وسوريا. اندلعت الحرب في يونيو 1967م واستمرت لمدة ستة أيام، حيث نجح الكيان في تحقيق انتصار سريع واسع النطاق، مما أدى إلى احتلاله سيناء وقطاع غزة والجولان والضفة الغربية. تأثرت خريطة الوسط الإسلامي بشكل جذري بنتائج الحرب، وأحدثت تحولات سياسية واقتصادية واجتماعية في المنطقة.
رابعًا: حرب أكتوبر 1973م
حرب عام 1973م، أو حرب أكتوبر، كانت نزاعًا بين الاحتلال الصهيوني وتحالف عربي يتكون أساسًا من مصر وسوريا. اندلعت الحرب في أكتوبر 1973م، حيث شنت مصر وسوريا هجمات مفاجئة على المناطق المحتلة من قِبَل الكيان. انتهت الحرب بتحقيق تقدم ملحوظ للقوات المصرية والسورية. أدّى هذا الصراع إلى اتفاق تحديد الهدنة وفتح الباب أمام ما يسمى “جهود السلام” في المنطقة، التي لم تكن تعني شيئًا غير الاستسلام للعدو.
خامسًا: حرب لبنان 1982م
حرب لبنان عام 1982م كانت غزوًا إسرائيليًا للبنان بهدف إزالة التهديد الذي كانت تشكله منظمة التحرير الفلسطينية. بدأ الغزو في يونيو 1982م، واستمر لعدة أشهر. شهدت الحرب مواجهات عنيفة ودُمرت مناطق واسعة في لبنان، وكانت لها تأثيرات كبيرة على السياسة والأمان في المنطقة»
– «كل هذه المعارك والحروب خاضها العرب ضد الاحتلال؟! ولم تَقدِر أي منها على هزيمته أو حتى إضعافه!»
– «للأسف يا أحمد، على الرغم من تضرر الاحتلال وتكبده خسائر مادية وبشرية في كثير من هذه المعارك، إلا أن أيًا منها لم ترتقِ لتكون معركة تحرير للأرض المباركة.. نعم كان لدينا المال والسلاح والجنود، وإن لم يكن بنفس مستوى قوات العدو، خصوصًا مع كم الدعم الغربي الذي تلقاه.. لكننا كنا نفتقد أهم عنصر في النصر: مفهوم الأمة الواحدة، لا أقول أن كل جندي عربي شارك في هذه الحروب كان كذلك، لكن القيادات كانت متشَبّعة بالفكر القومي لا بالعقيدة الإسلامية.. لم تكن نصرتهم لفلسطين نصرةً لإخوة الدين والعقيدة».
نشوء حركات المقاومة من رحم المحنة
قال وهو يدير الكوب على الطاولة في شرود: «لا أخفيك يا صديقي أن مثل هذه المعلومات تصيبني بالإحباط، حفنة من لقطاء الأمم يهزمون كل هذه الدول العربية بجيوشها وأسلحتها وعدتها وعتادها! نعم ربما الأمر له علاقة بالعقيدة كما تقول.. لكن ليس لهذه الدرجة.. ليس لهذه الدرجة.. حين أرى صور أشلاء الفلسطينيين، أو أسمع عن أخبار الأسرى وما يحدث لهم في سجون الصهاينة، أحس باختناق في صدري وبأن أطنانًا من الأصفاد تكبل أطرافي!»
نظرت له في إشفاق، كنت أعلم جيدًا صدق مشاعره، فأنا وأحمد أصدقاء منذ الطفولة، ومع أنني أختلف معه كثيرًا، وأرى منه بعض التقصير في أمور الدين والبعد عن قضايا الأمة، إلا أنني أعرف أنه صادقٌ في انتمائه مقرٌّ بتقصيره. قلت له: «ما تشعر به يا أحمد هو مرارة الهزيمة، ذلك الإحساس الخانق بالعجز أمام كل هذا الظلم والطغيان، ذلك الإحساس الذي يشعر به كل عربي ومسلم.. وهو أمر طبيعي، لكن الذي ليس طبيعيًا هو أن يجعلك هذا الشعور تنزوي على نفسك ظانًّا ألا وسيلة هناك للنصرة..
بالطبع يا صديقي، لكل منا دور -أو أدوار- بإمكانه تأديتها، لكن دعنا الآن نستكمل رسم الصورة الكاملة عن القضية، ثم نعرج على وسائل النصرة..»
– «حسنا تابع، فأنا أشعر حقًا أن الصورة الكبرى بدأت ترتسم في ذهني وبدأت الأفكار تترتب فيه، أكمل يا صديقي من فضلك»
– «حسنا، إلى جانب المواجهات مع الأنظمة العربية، فقد قامت في وجه الاحتلال عدة حركات ومنظمات مقاومة، منها السياسية والعسكرية ومنها من جمعت بين الاثنين، وسأختصر لك أبرزها على أن تبحث فيما بعد إن شئت معرفة المزيد عن تواريخها ومؤسسيها وعملياتها.. مع الإشارة إلى أن هناك الكثير من الفصائل الصغيرة، تتخذ مواجهاتها طابع حرب العصابات، التي يؤسسها في الغالب شباب غير منظمين، غير العمليات الفردية كعمليات الطعن بالسكاكين.
أ. الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين
حزب سياسي تأسس في الستينات يهدف لاستعادة حقوق الشعب الفلسطيني التي من أهمها عودة المُهجّرين وإقامة دولة مستقلة للفلسطينيين، جناحه العسكري: كتائب أبو علي مصطفى.
ب. الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين
حزب سياسي تأسس سنة 1969م، من أهدافه عودة الفلسطينيين إلى الضفة الغربية وقطاع غزة على حدود 1967م، جناحها العسكري: كتائب المقاومة الوطنية الفلسطينية.
ج. حركة التحرير الوطني الفلسطيني (فتح)
أولى الحركات الفلسطينية تأسيسًا بعد 1948م، كانت تنظر إلى النضال بالسلاح كحل وحيد لحل قضية فلسطين، ثم توجهت للعمل السياسي شيئًا فشيئًا، وتعتبر هذه الحركة هي لب النظام الفلسطيني الحالي، بعد أن قدمت كثيرًا من التنازلات، جناحها العسكري: كتائب شهداء الأقصى.
د. جبهة النضال الشعبي الفلسطيني
حزب سياسي فلسطيني يهدف إلى تحرير كامل الأراضي الفلسطينية من الاحتلال، تأسست سنة 1967م، وجناحها العسكري: كتائب الجهاد الشعبي الفلسطيني.
هـ. حركة المقاومة الإسلامية (حماس)
حركة فلسطينية تهدف إلى إنهاء الاحتلال بالكامل، وتُعَدّ في السنوات الأخيرة الحركة الأكثر بروزًا على الساحة خصوصًا في العمليات العسكرية، والتي آخرها عملية طوفان الأقصى في السابع من أكتوبر 2023م، وتعتبر الحركة الحاكم الفعلي لقطاع غزة، جناحها العسكري: كتائب الشهيد عز الدين القسام.
و. حركة الجهاد الإسلامي
تنظيم فلسطيني يقاوم الاحتلال ويسعى للقضاء عليه وإنهائه، له عمليات عسكرية نوعية ضد الصهاينة، جناحه العسكري: سرايا القدس.
ولا أريدك أن تتوه بين الأسماء يا أحمد، لكني قد حاولت أن أجمع لك أبرز حركات المقاومة.. لو بحثت عنها أكثر لعلمت أن هناك فيما بينها تحالفات وتنافرات، فمنها من نشأت من رحم حركات إسلامية كحركة الإخوان المسلمين، ومنها ما كان يغلب عليه الطابع الشيوعي اليساري.. لكن في رأيي أن المشهد الحالي العام تصنعه حركتان: حركة فتح، باعتبارها لب منظمة التحرير الفلسطينية التي تشكل النظام، وهي حاليًا تُلاحق كل من تشتبه بكونه مقاومًا للاحتلال! وحركة حماس التي ترى الجهاد المسلح إلى جانب النضال السياسي هو الطريق إلى التحرير، وهي التي أشعلت فتيل معركة طوفان الأقصى في السابع من أكتوبر»
خريطة المواقف السياسية العالمية من القضية
– «حسنًا لعلّي أبحث أكثر في وقت لاحق عن حركات المقاومة وفصائلها في الداخل الفلسطيني، لكن ماذا عن مشهد القضية خارج فلسطين؟ ماذا عن الدول المتقدمة ومجالس الأمن ومحاكم العدل؟ ما موقفها من الاحتلال؟»
ابتسمت ابتسامة ساخرة ذات معنى، وقلت له: «حسنًا يا صديقي، بعد أن تحدثنا باقتضاب عن تاريخ القضية الفلسطينية والأطراف المعنية بها وأبرز الصراعات التي خاضتها هذه الأطراف وبعض التحولات السياسية التي تمخضت عنها هذه الصراعات، فسنوسع زاوية الرؤية للقضية، وذلك برسم خريطتها السياسية العالمية، حيث أعرض عليك موقعها على ساحة الآراء العالمية، إذ أن قضية مركزية في الشأن العالمي كالقضية الفلسطينية، لا بد أن تنال مكانة في ساحة المواقف الرسمية للدول والمنظمات الكبرى، باعتبارها أحد التعبيرات عن رؤيتها لقضايا كبرى كحقوق الإنسان. فمِن المفيد إذًا في سياق التعريف بالقضية، أن نُعرّف بمواقف الدول الكبرى منها:
الموقف الأمريكي: لا يخفى على أحد أن الولايات المتحدة الأمريكية هي أحد أهم اللاعبين في رقعة القضية الفلسطينية، لدرجة جعلت الدعم الأمريكي للكيان واحدًا من أهم عوامل بقائه؛ إذ هي تجد في إسرائيل عنصرًا ضروريًا للحفاظ على مصالحها في المنطقة؛ فالولايات المتحدة كانت ولا تزال أكبر حليف لإسرائيل منذ قيامها عام 1948م، داعمةً إياها بجميع أشكال الدعم المباشر وغير المباشر، وحتى مشاركاتها في إبرام معاهدات سلام بين الفلسطينيين والصهاينة (كاتفاقية كامب ديفيد 1978م، واتفاقية أوسلو 1993م، واتفاقيات التطبيع التي عُرفت باتفاقيات أبراهام 2020م) لم تكن إلا لعلمها بمصلحة إسرائيل من هذه الاتفاقيات.
الاتحاد الأوروبي: يعتبر موقف الاتحاد الأوروبي أقل حدة ووضوحًا من الموقف الأمريكي، إذ تميل أغلب الدول الأوروبية إلى دعم حق الكيان في الوجود مع حق الفلسطينيين أيضًا في إقامة دولتهم على حدود 1967م، وقد عبرت الدول الأوروبية باستمرار عن رفض توسع إسرائيل في بناء المستوطنات والاستمرار في المجازر، إلا أن هذا الرفض لم يتجاوز أبدًا ميكروفونات قاعات البرلمان، ولم يتحول إلى أي إجراءات عملية فعالة..
بل على العكس من ذلك تستمر العديد من الدول الأوروبية في الدعم السياسي والعسكري لإسرائيل كبريطانيا وفرنسا، باعتبار مجازرها الحالية “دفاعًا عن النفس”، وقد أُضيف مؤخرًا حالة السعار التي أصابت دولًا كإيطاليا وفرنسا وألمانيا جَرّاء استمرار المظاهرات الشعبية الداعمة لفلسطين، حتى أن وزيرة الخارجية الألمانية أقرت حق إسرائيل في قصف المدنيين إذا اشتبهت بوجود عناصر مقاومة بينهم.
روسيا: تحافظ روسيا، باعتبارها امتدادًا للاتحاد السوفياتي الذي كان مؤيدًا للقضية الفلسطينية، على موقفها المؤيد لحق الفلسطينيين في إقامة دولة، مع الاعتراف بحق الاحتلال كذلك في إقامة دولة بأرض فلسطين، وإن كان دورها ضعيفًا مقارنة بالدور الأمريكي.
الصين: تُعَدّ الصين من الدول الداعمة لحل الدولتين، وحق الفلسطينيين في دولة مستقلة، لكنها من الدول التي تُفضل البقاء بعيدة عن التدخل المباشر في الصراع.
هذه مواقف أبرز الدول، أما بالنسبة للملاك الحارس؛ منظمة الأمم المتحدة، فهي التي أصدرت قرار التقسيم سنة 1947م الذي ينص على تقسيم أرض الفلسطينيين لإقامة دولتين، واحدة عربية والأخرى يهودية، إلا أن قرار الدولة الفلسطينية لم يتجاوز حيز الورق إلى الآن. وقد استمرت في إصدار قرارات تدين الاستيطان والمجازر الصهيونية إلى يومنا هذا، لكنها كانت جميعًا قرارات عديمة القيمة.
أما شُرطيّ العالم، مجلس الأمن الدولي، وهو أحد الأجهزة الرئيسية للأمم المتحدة ويُعَدّ المسؤول عن إصدار القرارات والعقوبات في حق الدول، وبطبيعة الحال لا نحتاج أن نقول بأن جميع قراراته لصالح الفلسطينيين إلى حد الآن كانت كلها عديمة القيمة، بسبب معارضتها بحق الفيتو الأمريكي لصالح إسرائيل»
– «إذًا فهذه المنظمات والمجالس ليست إلا أدواتٌ في يد الدول القوية، وليست لها سلطة حقيقة مستقلة عن التوجيه الأمريكي!»
– «وهل كنت تشك في ذلك يا أحمد؟! إن السنين الأخيرة أثبتت أن هذه الهيئات ليست إلا غطاءٌ متحضرٌ على وحشية العالم وهمجيته، وقد ظهر ذلك في غير ما مناسبة.. وعن نفسي شخصيًا، كلما أنظر إلى أحد اجتماعات أولئك الأوغاد ذوي البدلات الأنيقة، لا أدري لماذا أتخيل مشهد الفايكنج بشعورهم الطويلة وثيابهم القذرة وهم يمررون بينهم إناء الماء الذي يغسلون فيه وجوههم ويتمخطون فيه ويبصقون..»
انتبهت إلى أحمد وقد توقفت يده حاملة الكوب أمام فمه ليرشف منه، ثم أعاده وهو ينظر إلىّ نظرة عتاب.. فقلت ممازحًا: «أعتذر يا صديقي، أعدك أن أبحث في المرة القادمة عن مثال أقل إثارة للاشمئزاز»
خريطة المواقف الشعبية العالمية من القضية
– «أرجو ذلك، على أنني أرى اختيارك لهذا التشبيه موفقًا، لولا أنه أتى في وقت غير مناسب.. حسنًا دعنا الآن من قرف الفايكنج وأكمل لي، هل الشعوب الغربية موافقة لحكوماتها في موقفها من للقضية الفلسطينية أم أن لها رأيًا آخرًا؟»
– «في البدايات نعم، فقد كان الرأي الشعبي في الولايات المتحدة الأمريكية وأوروبا داعمًا لإسرائيل خلال العقود الأولى لقيامها، باعتبارها دولة صغيرة مستضعفة محاطة بالأعداء من كل جانب. لكن مع الانتفاضة الفلسطينية بدأت الآراء الشعبية تميل أكثر لتأييد الحق الفلسطيني وإدانة الاحتلال، وقد كان للتغطية الإعلامية لجرائم الصهاينة دور كبير في ذلك. فبدأت تظهر على الساحة الشعبية الغربية حركات داعمة لفلسطين مثل حركة المقاطعة وسحب الاستثمارات وفرض العقوبات (BDS: Boycott, divestment, Sanctions) بالإضافة إلى العديد من المظاهرات والاحتجاجات خصوصًا ما رأيناه وما زلنا نراه خلال معركة طوفان الأقصى»
مواقف الأنظمة العربية.. من الصمت المخزي إلى التواطؤ المشين
– «بصراحة، بقدر ما أستبشر بكمية الوعي العالمي بالقضية الفلسطينية بقدر ما ينفطر قلبي حين أنظر إلى الموقف العربي.. حدثني عن موقف حكوماتنا العربية، ماذا يرى أصحاب الفخامة والجلالة في القضية؟»
ابتسمت لأسلوبه الساخر، كأنّما يعرف جوابي مسبقًا، وقلت: «طريقة طرحك للسؤال تنبئني عن عدم رضاك عما تراه من مواقف الأنظمة، للأسف يا صديقي فأنت محق تمامًا، فقد تحول موقف الدول العربية تدريجيًا من الدعم الواضح عسكريًا وسياسيًا، إلى “صمت قاتل” خلال العقود القليلة الماضية، وذلك جراء انشغالها بالتحديات الداخلية من أزمات اقتصادية وسياسية من جهة، والضغط الدولي، خاصة الأمريكي، من جهة أخرى، إذ أن أغلب هذه الدول غارقة في الديون والاتفاقيات المذلة مع الدول الغربية، وبالتالي فهي أقرب إلى دول صورية منها إلى دول ذات سيادة خارجية. وهذا ما زاد من صمتها تجاه الاحتلال الصهيوني وجرائمه، وكذلك من شعور الفلسطينيين بالعزلة والخذلان من العالم العربي.
بل إن دولنا العربية لم تكتفِ بالصمت والخذلان فقط، بل زادت على ذلك أن صارت تصطف في طابور انتظار أمام موجة تطبيع العلاقات. إذ طَبّعت الإمارات ثم المغرب ثم السودان ثم البحرين.. وتوسعت دول أخرى كالأردن والسعودية في فتح أراضيها لخطوط إمداد الصهاينة، وتعاونها بشكل مخزٍ في الدفاع عن الصهاينة أمام الهجمات العسكرية.. ويبدو أن هذا الطاعون لا يزال مستمرًا في الانتشار في جسد الأنظمة العربية»
– «ما أغبى هذه الحكومات، لقد كانت معركة طوفان الأقصى فرصة ذهبية للحكومات العربية لمصالحة شعوبها.. لو أنها قامت بأدنى حركة ضد الاحتلال لاستعادت هيبتها ومصداقيتها لدى الشعوب، أيًّا كانت الحركة سواء مقاطعة اقتصادية لإسرائيل أو مقاضاة لها في محاكم العدل الدولية، ليس بالضرورة بتحريك جيوشها لقتال الصهاينة “لا سمح الله”، أي حركة غير هذا الانطباح المخزي أمام الصهاينة.. لقد عجزوا حتى عن إدخال شاحنات المساعدات لغزة!»
الموقف الشعبي العربي من القضية
– «معك حق يا أحمد، لقد كانت فرصة ذهبية يمحون بها عقودًا من الاحتقان الشعبي ضدهم، لكن عمى البصيرة.. على أي يبقى الموقف الشعبي العربي ثابتًا في معاداة الصهاينة.. فبما أن الدول العربية ليست تعبيرًا عن أصوات شعوبها، بل عن إرادة القوى التي تستعبدها وتقدم لها فروض الولاء والطاعة دوريًا، فإن الموقف الشعبي العربي الإسلامي مخالف تمامًا للمواقف الرسمية، فموقف الشعوب العربية والمسلمة واضح وضوح الشمس في دعم القضية الفلسطينية وحق الشعب الفلسطيني في الدفاع عن أرضه كلها، وضوحًا لا تُكدّره بعض الأصوات الناشزة التي ترتفع من حين لآخر.
إذ ترى هذه الشعوب أن الصهاينة محتلون مغتصبون لا حق لهم في أرض فلسطين، وأن التطبيع خيانة لفلسطين والأمة كلها، وأن الفلسطينيين يملكون كل الحق في المقاومة والدفاع بكل الوسائل المتاحة، وأن الأقصى من مقدسات المسلمين التي يجب الدفاع عنها على كل فرد عربي مسلم. رغم كل التقلبات التي تمر بها الأنظمة حسب مصالح القوى العظمى المتحكمة في زمام الأمور، يظل الموقف الشعبي داعمًا ومؤيدًا بوضوح للقضية الفلسطينية»
– «حقًا لا أدري كيف أشكرك على هذه الجلسة، فأنت لا تعلم كم ترتبت الأمور في ذهني وازدادت القضية وضوحًا وتأييدي لها رسوخًا وثباتًا»
بقدر ما أسعدتني عبارته، بقدر ما أشعرتني ببعض الفزع، فأحمد صديقي منذ سنين، وقد كان بإمكان جلسة المقهى القصيرة هذه أن تؤثر فيه بهذا الشكل.. هذا يعني أن صديقي المقرب كان يحتاج هذه الكلمات البسيطة وأنا لم أجتهد في إيصالها له، يا ترى كم يمتلئ محيطنا بالأشخاص الصادقين الذين يحتاجون بضع كلمات تثبتهم وتنير بصيرتهم، وبالأشخاص الذين يملكون الثقافة الكافية والوعي الكافي لنشر القضية بين الناس لكنهم يتقاعسون عن ذلك ويستصغرونه!
الطريق إلى النصرة
قَطَع عليّ تفكيري صوت أحمد متسائلًا: «لكن ماذا عليّ أن أفعله أنا أمام هذا الواقع؟ هل أملك حقًا سُبُلًا لنصرة فلسطين؟»
– «بالتأكيد يا صديقي، لكل منا سبل يستطيع من خلالها نصرة القضية وتبرئة ذمته أمام الله عز وجل.. وكل منا يعلم دائرة استطاعته التي لا يُسأل عما يتجاوز حدودها، {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة: 286].. وإذا أردنا تلخيص ذلك، فالواجب على كل مسلم أمران: أمر اعتقادي وأمر عملي تطبيقي..
فأما الاعتقادي، فينبغي أن يعرف كل مسلم يدعم القضية الفلسطينية ويؤيدها ويساهم في نصرتها بشتى الوسائل، أنها قضية إسلامية دينية عقدية بالدرجة الأولى، فاليهود فيها محتلون واجب صدهم، إذ صَدّ المحتل عن الأرض فرض إسلامي، ومقدسات المسلمين هناك مسؤولية الأمة، والعدو الصهيوني هناك يرفع شعار العداء للإسلام صراحة. لذلك؛ فإن أول خطوة في تأسيس الوعي الإسلامي بالقضية هو اعتبارها قضية إسلامية. ففلسطين تضم الأقصى، الذي هو أول قبلة للمسلمين، وثالث الحرمين، ومسرى النبي الأمين ﷺ.. وشعب فلسطين شعب مسلم، تربطه بجسد الأمة أواصر العقيدة الإسلامية، فهو عضو إذا اشتكى تداعى له سائر الجسد.
وأما العملي، فهناك سبل عديدة للنصرة يجب على كل منا أن ينظر فيها ويجتهد في عمل ما يستطيعه منها، فإذا كان تشكيل الوعي عاملًا أساسيًا في نصرة القضية الفلسطينية، فإن العمل لهذه القضية والمساهمة فيها هو الغاية الحقيقية، لا مجرد تحصيل المعلومات. والحقيقة أن سبل النصرة متعددة، والاختيار بينها يختلف حسب قدرات كل مسلم وإمكانياته، وإليك يا صديقي بعضها:
أ. الجـ.ـهاد بالنفس
ينبغي أن يُعرف لدى كل مسلم أن جهاد الدفع في أرض فلسطين واجب متعين على كل من له القدرة عليه، فهي معركة شريفة اجتمع فيها الدفاع عن مقدسات المسلمين ودماء المستضعفين وردع الظالمين ومقاومة مشروعة للمحتل الصهيوني الغاشم.
ب. بذل المال
قال النبي ﷺ: ((من جَهَزَ غازيًا في سبيل الله فقد غزا، ومن خَلَفَ غازيًا في سبيل الله بخير فقد غزا)) [صحيح البخاري: 2843]، وقال أيضًا: ((ما نقصت صدقةٌ من مالٍ)) [مسلم: 2588]؛ فبذل المال لصالح إخواننا في فلسطين سواء لدعم المقاومين أو لمساعدة المحتاجين الذين يُعانون الجوع والحرمان، من أوكد الواجبات على الأمة.
ج. المقاطعة
من وسائل النصرة الفعّالة كذلك، مقاطعة المنتجات الداعمة للاحتلال الصهيوني، فهي خطوة مهمة لإضعاف هذه الشركات وردعها عن تقديم دعمها اللامشروط للاحتلال، وقد رأينا ما حصل مؤخرًا لكبرى الشركات من خسائر مادية تقدر بملايين الدولارات جراء مقاطعة الشعوب لها.
د. التوعية والتثقيف
على الرغم من أن مقاومة الاحتلال بالسلاح هي الحل العملي الأساسي لإنهائه، لكن الوسائل الأخرى، كالكتابة، والنشر، والمشاركة، وتوعية المحيط.. تبقى كلها خطوات عظيمة الأثر في دعم القضية، فهي تساهم في رفع الوعي، وتصحيح المفاهيم، وتوجيه البوصلة توجيها صحيحًا.
هـ. الدعاء
ولم أضع لك الدعاء في آخر الوسائل التحقير من شأنه، بل إن من صميم عقيدة المسلم أن الدعاء من أقوى الأسلحة عنده، فلا بد إذًا من تخصيص إخواننا في الأرض المباركة بكثرة الدعاء لهم بالنصر والتمكين، ولعدوهم بالهلاك، وللأمة بالوحدة والقوة»
– «أدعو الله أن يوفقني للقيام بكل ما أقدر عليه منها، لكن هل تظن حقًا أن هذه الوسائل كفيلة بتحقيق النصر؟»
الوعد الصادق
– «قبل أن أجيب عن سؤالك، يجب أن تعرف أننا مأمورون بالعمل يا أحمد لا بتحقيق النصر، فإن من استوفى جهده في النصرة ومات قبل أن يرى النصر، لأشرف عند الله من شخص عاش حتى رأى النصر يتحقق لكنه لم يشارك فيه بسهم. تذكر أن من كبار الصحابة من استشهد في مكة، أو بُعيد الهجرة إلى المدينة، والمسلمون يومئذ ما زالوا قلة ضعيفة لا يُقام لهم وزن بين الأمم.
فالمبشرات واضحة في نصر المسلمين على اليهود المغتصبين، فقد قال الله عز وجل: {وَقَضَيْنَا إِلَىٰ بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا (4) فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولَاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَّنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلَالَ الدِّيَارِ ۚ وَكَانَ وَعْدًا مَّفْعُولًا (5) ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُم بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا (6) إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لِأَنفُسِكُمْ ۖ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا ۚ فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا (7)} [الإسراء]
وقال النبي ﷺ: ((لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يُقَاتِلَ الْمُسْلِمُونَ الْيَهُودَ، فَيَقْتُلُهُمُ الْمُسْلِمُونَ حَتَّى يَخْتَبِئَ الْيَهُودِيُّ مِنْ وَرَاءِ الْحَجَرِ وَالشَّجَرِ، فَيَقُولُ الْحَجَرُ أَوِ الشَّجَرُ: يَا مُسْلِمُ يَا عَبْدَ اللهِ هَذَا يَهُودِيٌّ خَلْفِي، فَتَعَالَ فَاقْتُلْهُ، إِلَّا الْغَرْقَدَ، فَإِنَّهُ مِنْ شَجَرِ الْيَهُودِ)) [صحيح مسلم: 2922]
لكن هَمّ المسلم ينبغي أن ينصب على أن يكون من الفئة التي عملت للنصر، لا التي تخاذلت وتخلفت. وإذا كان لا بد من استحضار هذه المبشرات لبث روح التفاؤل في الأمة، فلا بد للمسلم أن يرى سعيه غاية لذاته سواء بلغ هو النصر أم لا»
أومأَ برأسه مبتسمًا كأن حجابًا كان يغطي بصره زمنًا طويلًا قد زال عنه، ثم رفع رأسه إليّ وقال لي بعينين لامعتين كأنما قرأ أفكاري: «هل تدري شعور شخص كان يتحسس طريقه في طريق مظلم ثم أُنير له مصباح أظهر له الطريق أمامه؟ ذلك هو شعوري الآن بالضبط.. لقد أزلت عني غشاوة كانت تحجب عني الرؤية منذ سنين.. حقًا إن جلستي هذه معك نعمة ساقها الله إليّ»
– «إنما هي كُليمات بسيطة يا صديقي العزيز، ولولا أنها صادفت فيك قلبًا صادقًا باحثًا عن الحقيقة لما أثمرت فيك هذا الأثر.. أرجو الله أن يوفقني وإياك للعمل بما نقدر عليه لنصرة إخواننا وأن يتقبل منك صدق مشاعرك هذه. وبما أنك أحببت هذه الجلسة، فمرحبا بك في أي وقت تريد أن نتحادث.. فقط اتصل بي وسأدعوك لفنجان قهـ..»
ثم استدركت ضاحكًا: «أعتذر مجددًا، أقصد لكوب من الشاي»
أجابني مبتسمًا: «أما وقد جلست معك هذه الجلسة، فإنني سأقبل فنجان القهوة بل وسأحتسيه في استمتاع لو كانت جلسة كهذه، أمّا الآن فأستأذنك أيها العزيز، عليّ الذهاب»
ودّعَني مصافحًا بحرارة، ثم انصرف.. أمّا أنا فقد ابتسمت في نفسي رضًا بهذه الجلسة، وعُدت أفتح روايتي لأتابع القراءة، ثم أخذت فنجان القهوة وارتشفت منه رشفةً.. أعتقد أنها كانت ألذ رشفة قهوة في حياتي.