ماذا تريدون من القدس أيها المسلمون؟!

من رأى هَبَّة المسلمين في كل بقاع العالم محتجين على إعلان الرئيس الأمريكي -دونالد ترامب- نَقْلَ سفارة بلده الى القدس، يظن وكأن القدس وفلسطين محررة ويحكمها المسلمون، والآن فقط يسعى النظام العالمي الصهيوصليبي لاحتلالها.

القدس مُحتلة منذ زمن بعيد

فلسطين والقدس محتلة منذ مائة عام، وليس اليوم بالقرار التنفيذي لنقل سفارة أمريكا إلى القدس!؛ ففلسطين محتلة منذ سنة 1336هـ (1917م) حيث دخلها الجيش البريطاني قادمًا من مصر بعد انهزام جيش الدولة العثمانية إبَّان الحرب العالمية الأولى.

وفِي 25 صفر 1336هـ (9 ديسمبر 1917م) دخل الجيش البريطاني تحت قيادة الجنرال (إدموند أٓلِنْبَيْ) مدينة القدس، واحتلها. وقد قوبِلَت عودة الجيش الصليبي (البريطاني هذه المرة) بعد مئات السنين إلى القدس واحتلالها بفرح عارم في أوروبا وأمريكا.

بريطانيا أنقذت القدس!

فقد نشرت مثلًا صحيفة “نيويورك هيرالد” في صفحتها الأولى يوم 27 صفر 1336هـ (11 ديسمبر 1917م) مقالًا تحت عنوان:[إنقاذ القدس من قبل البريطانيين بعد 673 عام من الحكم الإسلامي]. و673 سنة تعود لِلْعَدِّ إلى تاريخ 8 صفر 642هـ (15 يوليو 1244م)، التاريخ الذي قضى فيه المسلمون على آخر مملكة للصليبيين في القدس، حين أعاد الخوارزميون والأيوبيون بقيادة السلطان الصالح أيوب فتحها.

اقرأ أيضًا: تعرّف على بداية الوجود الصهيوني في فلسطين

لما احتلت بريطانيا فلسطين، وتنفيذًا لِـ”إعلان بلفور”، عملت على استقطاب اليهود من كل بقاع العالم ووطَّنتهم في فلسطين، ومكَّنتهم من إنشاء قوة عسكرية متطورة. ثم أصدرت الجمعية العامة للأمم المتحدة بتاريخ 16 محرم 1367هـ (29 نوفمبر 1947م) قرارها الشهير رقم “181”.

ذلك القاضي بتقسيم فلسطين الخاضعة للانتداب البريطاني آنذاك إلى دولتين، إحداهما عربية (حوالي 43٪‏ من الأراضي الفلسطينية) والأخرى يهودية (56٪‏ من الأراضي الفلسطينية)، وجعل القدس منطقة دولية تحت سلطة الانتداب البريطاني وإدارة الأمم المتحدة. فنسقت بريطانيا (وأمريكا) مع اليهود؛ ليعلنوا قيام دولة إسرائيل بتاريخ 7 رجب 1367هـ (15 مايو 1948م)، تزامنًا مع إعلان بريطانيا إنهاء انتدابها على فلسطين.

ومع انسحاب بريطانيا من فلسطين سنة 1948م، وإعلان اليهود قيام دولة إسرائيل، اندلعت حربٌ (تحت إشراف وإدارة الأمم المتحدة وأمريكا وبريطانيا -كان مثلًا ضباط بريطانيين يقودون مباشرة فِرَقًا عسكرية عربية-) بين دولة اليهود وعدة دويلات عربية (منها مصر والعراق والأردن وسوريا والسعودية)، امتدت من 7 رجب 1367هـ (15 مايو 1948م) إلى 11 جمادى الأولى 1368هـ (10 مارس 1949م).

انتهت الحرب بهزيمة “دويلات سايكس بيكو” العربية أمام إسرائيل، لُقِّبت على إثرها الحرب بِـ(النكبة)، ضم اليهود خلالها نصف الـ43٪‏ من الأراضي الفلسطينية التي كانت قسَمتْها الأمم المتحدة للعرب، فأصبح العرب لا يسيطرون إلا على حوالي 20٪‏ من مجمل فلسطين (فلسطين حسب الحدود التي رسمتها لها بريطانيا وفرنسا). فانحصر العرب في الضفة الغربية والقدس الشرقية (تحت حكم الأردن)، وقطاع غزة (تحت حكم مصر).

هكذا تم تقسيم القدس إلى جزأين: جزء غربي تحت حكم اليهود، وجزء شرقي تحت سلطة المملكة الأردنية، ويحوي مدينة القدس القديمة؛ التي تضم المسجد الأقصى، وكنيسة القيامة، وحائط البراق (حائط المبكى).

ما لبثت حرب “النكبة” تضع أوزارها حتى صوَّت مجلس الأمن لصالح عضوية الدولة الجديدة “إسرائيل” للأمم المتحدة بمقتضى قراره رقم 69، الصادر بتاريخ 5 جمادي الأولى 1368هـ (4 مارس 1949م)، فقَبِلَت على إثر ذلك الجمعية العامة للأمم المتحدة بمقتضى القرار رقم ،273 الصادر بتاريخ 14 رجب 1368هـ (11 مايو 1949م)؛ إسرائيل كدولة عضو في الأمم المتحدة.

تلت حربَ النكبة حربُ النسكة (من 27 صفر 1387هـ/ 5 يونيو 1967م- إلى 3 ربيع الأول 1387هـ/ 10 يونيو 1967م)، انتهت بانتصار ساحق لليهود على مصر-سوريا-الأردن، واحتلال إسرائيل للجولان، وقطاع غزة، وسيناء، والضفة الغربية مع القدس الشرقية، لتصبح كامل القدس بما فيها المسجد الأقصى تحت سلطة وحكم إسرائيل.

القدس عاصمة الاحتلال منذ 1947م

ربما يخفى على الكثير من الناس أن كثيرًا من الدول فتحت سفاراتها ابتداءً في القدس بعد إصدار الجمعية العامة للأمم المتحدة القرار رقم “181” لتقسيم فلسطين سنة 1367هـ (1947م)؛ والذي جعل القدس منطقة دولية تحت سلطة الانتداب البريطاني وإدارة الأمم المتحدة.

ولم تنتقل سفارات تلك الدول إلى تل أبيب إلا بعد سنة 1400هـ (1980م) عندما أصدرت إسرائيل “قانون القدس” (سيأتي الحديث عن تفاصيله)، احتجاجًا على سلب الأمم المتحدة دورها الرمزي في إدارة القدس.

قانون القدس لسنة 1980م جعل القدس رسميًا عاصمة لإسرائيل

وإعلان القدس رسميًا عاصمة لإسرائيل لم يكن يوم الأربعاء، 18 ربيع الأول 1439هـ (6 ديسمبر 2017م)، ولكن كان يوم 18 رمضان 1400هـ (30 يوليو 1980م)، لما أقرَّ الكنيست (البرلمان الإسرائيلي) قانونًا سُمي بِـ(قانون القدس)؛ ينص على أن القدس -كاملة غير مجزأة- عاصمة لإسرائيل.

وأخذ هذا القانون درجة “قانون مبدئي دستوري”، رغم احتجاج الأمم المتحدة عليه وطلبها الدول نقل سفاراتها من القدس إلى تل أبيب (كانت أيامها سفارات كثير من الدول متواجدة بالقدس).

ومما تضمن “قانون القدس” كذلك: أن تكون القدس مقرًا للرئاسة، والكنيست، والحكومة، والمحكمة العليا، وتمتع القدس بأولوية في المشاريع التنموية للحكومة، فتخص الحكومة لبلدية القدس ميزانية سنوية خاصة لتطوير المدينة. وفعلًا الكنيست، وعدة مقار حكومية تتواجد بالقدس، فعمليًا القدس هي العاصمة السياسية لإسرائيل منذ عقود.

أمريكا أعلنت رسميًا سنة 1995م أن القدس عاصمة إسرائيل

وأمريكا لم تعلن القدس عاصمة لإسرائيل يوم 18 ربيع الأول 1439هـ (6 ديسمبر 2017م)، ولكنها أعلنت ذلك “رسميا” يوم 30 جمادى الأولى 1416هـ (24 أكتوبر 1995م)؛ وذلك بإصدار الكونغرس قانونًا إلزاميًا بنقل سفارتها إلى القدس، صوَّت لصالحه 93 مقابل 5 من أعضاء الكونغرس.

ومن أغبى ما يتم تداوله، أن أمريكا لم تعلن اليوم تنفيذ قانون نقل سفارتها إلى القدس إلا بضوء أخضر من السعودية ومصر! فمتى كان الغرب يسأل أنظمته الوظيفية عن موقفهم في أي شيء؟ متى كان للعبيد أي قرار أو رأي؟

فإعلان (ترامب) اليوم تنفيذ القانون الذي تم سَنُّه سنة 1995م، ما هو إلا خطوة تكميلية فقط، تُقِر رسميًا ما هو ثابت عمليًا على أرض الواقع، وتُتم آخر مرحلة “رمزية”؛ للتأكيد على أن القدس عاصمة لإسرائيل، وذلك بنقل سفارة أمريكا إلى القدس.
فلماذا هذه الهَبة للمسلمين اليوم ضد إعلان (ترامب) لِمَا هو معلن ومعمول به سلفًا؟

لماذا التفاعل مع فرع المشكلة دون الأصل؟

فالخطورة تكمن في أن تثور حافظة المسلمين على إعلانٍ رمزي، لكنهم لا يحركون ساكنًا ضد واقع أن “كل” فلسطين محتلة منذ سنة 1336هـ (1917م).

الخطورة تكمن في تمييز المسلمين بين تل أبيب والقدس، فلا مانع أن تكون الأولى عاصمة، لكن لا يجوز للثانية ذلك. وإن كانت القدس محتلة وتقوم عمليًا بكل المهام السياسية للعاصمة.

والخطورة تكمن في جعل المشكلة هي إعلان القدس عاصمة وليس في وجودها تحت الاحتلال منذ سنة 1336هـ (1917م). الخطورة تكمن في الغضب لِمَا احتلته إسرائيل بعد حرب 27 صفر 1387هـ (5 يونيو 1967م)، لكن الرضا بإسرائيل دولة على ما يُسمى حدود ما قبل 26 صفر 1387هـ (4 يونيو 1967م).

الخطورة تكمن في الهَبَّة ضد إعلان القدس عاصمة، لكن السكوت على اعتراف حتى بلدان “إسلامية” بإسرائيل وبتل أبيب عاصمة لها، وفتح سفارات وقنصليات وممثليات ديبلوماسية في تل أبيب، والتبرير لذلك.

الخطورة تكمن في ترويض المسلمين على القبول رويدًا رويدًا بكل أمر واقع يفرضه الغرب، فينخفض تدريجيًا سقف ثوابت ومطالب وأهداف المسلمين؛ بحيث يصبح المطلب لا يتعدى أن يقبل النظام الدولي بمنح المسلمين حكمًا ذاتيًا علمانيًا (ولو وجد محدود الصلاحيات) على جزء بسيط من فلسطين.

الخطورة تكمن في حصر اهتمام المسلمين بمشاكل ومصائب جزئية تفرعت عن أصول، لكن عدم الانشغال بالأصول نفسها، والعمل على حل المشاكل من الجذور.

القدس خط أحمر

https://www.youtube.com/watch?v=j_H99wlR0aY

ومن أسباب اندفاع الإنسان لحصر انشغاله بالفرع دون الأصل، تعامله السطحي والمشاعري مع القضايا، ولعل أبرز مثال على الحماقة واللا معقول الذي تؤدي له الطريقة السطحية العاطفية: هو الفرح الذي أبداه بعض المسلمين بتصريح غوغائي لأردوغان أن القدس خط أحمر، واعتراضه على نقل أمريكا سفارتها إلى القدس، وتناسى هؤلاء الحمقى أن (أردوغان) معترف بإسرائيل، وله سفارة في تل أبيب، وله علاقات حميمية مع إسرائيل على كل المستويات العسكرية والمخابراتية والتجارية.

فهؤلاء الحمقى لا يهمهم كل الخيانات التي يقوم بها (أردوغان) عمليًا، المهم عندهم “الشعارات الحماسية” التي يطلقها من حين لآخر هنا وهناك. هذه الحالة الغريبة يَصْدُق فيها قولٌ مقتبس من مقالٍ نشره مؤخرًا عبد الله المزهر:

سياسة «المرجلة» ليست سائدة هذه الأيام، السائد هو أن تتحدث عن حق الشعوب والحريات، وتستضيف المعارضين، وتزين شوارعك بصور وأعلام القدس وفلسطين، ثم تفعل بعد ذلك ما تشاء، حتى لو نِمْت بعدها مع (نيتنياهو) على فراش واحد، فلن يصفك كثير من العرب بأنك خائن (ا.هـ).

فما هو أصل قضية فلسطين وكيف يتم حلها؟ الجواب على هذا السؤال يجب أن يبدأ بطرح سؤال عميق وشامل: ماذا يريد المسلمون من القدس؟

ماذا تريدون من القدس أيها المسلمون؟

هل تسعون لتحرير القدس؛ فقط لأنها مَسرى رسولكم محمد -صلى الله عليه وسلم- {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّه هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ}؟ فإن كان كذلك، فنبيكم مات والقدس تحت حكم الروم، ولم يفتحها.

الصلاة فيه

http://gty.im/893467328

وهل غرضكم من القدس هو الصلاة في المسجد الأقصى فحسب؛ لمكانته، ولعظم أجر الصلاة فيه، لقول الرسول -صلى الله عليه وسلم-:” لَا تُشَدُّ الرِّحَالُ إِلَّا إِلَى ثَلَاثَةِ مَسَاجِدَ، الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ (في مكة) وَمَسْجِدِ الرَّسُولِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- (في المدينة)، وَمَسْجِدِ الْأَقْصَى (في القدي)”(صحيح البخاري)، ولقوله -صلى الله عليه وسلم-:” الصَّلَاةُ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ بِمِائَةِ أَلْفِ صَلَاةٍ، وَالصَّلَاةُ فِي مَسْجِدِي بِأَلْفِ صَلَاةٍ، وَالصَّلَاةُ فِي بَيْتِ الْمَقْدِسِ بِخَمْسِمِائَةِ صَلَاةٍ”(الكبير للطبراني)؟

فإن كان كذلك، فقد كان من المسلمين في عهد الرسول من يزور القدس للصلاة في المسجد الأقصى وهي -أي القدس- تحت حكم الروم، فلم يكن فتحها شرطًا لزيارة بيت المقدس والصلاة فيه.

الصلاة في بيت المقدس ومسجد الرسول

كما أن الرسول كان ينصح من نذر للصلاة في بيت المقدس أن لا يفعل ذلك، ويصلى في مسجد الرسول في المدينة، فذاك يُجزئ عنه النذر ويكسبه أجرًا أكبر.

فعن جابر بن عبد الله قال: أَنَّ رَجُلًا قَالَ يَوْمَ الْفَتْحِ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إنِّي نَذَرْتُ إنْ فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكَ مَكَّةَ أَنْ أُصَلِّيَ فِي بَيْتِ الْمَقْدِسِ، فَقَال له رسول الله -صلى الله عليه وسلم-:” صَلِّ هَاهُنَا”، فَسَأَلَهُ ثانية، فَقَالَ الرسول مرة أخرى:” صَلِّ هَاهُنَا”، فَسَأَلَهُ ثالثة، فَقَالَ -صلى الله عليه وسلم-:” شَأْنُكَ إذَنْ،… وَاَلَّذِي بَعَثَ مُحَمَّدًا بِالْحَقِّ لَوْ صَلَّيْتَ هَاهُنَا لَقَضَى عَنْك ذَلِكَ كُلَّ صَلَاةٍ فِي بَيْتِ الْمَقْدِسِ”(نيل الأوطار للشوكاني).

فإن كان الغرض من القدس هو الصلاة في بيت المقدس فحسب، فإسرائيل لن تمنعكم من ذلك، بل ستفرح بذلك وتُؤمِّن زيارتكم لبيت المقدس، فهذا أصلًا ما تسعى له إسرائيل: تطبيع العلاقات مع شعوب البلدان الإسلامية.

وها هي تركيا تنظم منذ فترة رحلات سياحية لمواطنيها إلى القدس. ثم من كان عنده “تحفظ” على دخول المسجد الأقصى تحت سلطة إسرائيل، فليشد الرحال لمسجد الرسول أو إلى المسجد الحرام، فهما أولى وأعظم أجرًا من بيت المقدس.

تريدونها عاصمة؟

أم تريدون استرداد القدس أو الجزء الشرقي منها، فقط لتكون عاصمة لدولة فلسطينية وطنية ضمن حدود سايكس بيكو، خاصةً بِـ”الفلسطينيين”، تحكم بغير ما أنزل الله، ويحتاج المسلمون الذين لا يحملون “الجنسية الفلسطينية” تأشيرة دخول لزيارة بيت المقدس، تمامًا كما يحتاج المسلمون اليوم تأشيرة لزيارة مكة أو المدينة؟

فإن كان هذا هدفكم، فلا خير فيه ولا ثواب ولا أجر، إذ لا علاقة للإسلام بمبتغاكم؛ فالقوة والحكم والسلطة ليسوا غاية لذواتهم في الإسلام، ولكنهم وسيلة وأداة لإقامة حكم الله في الأرض.

{الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ ۗ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ (41)}(الحج)، {عَسَىٰ رَبُّكُمْ أَن يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ (129)}(الأعراف)، {تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا ۚ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (83)}(القصص).

جاء رجل إلى الرسول -صلى الله عليه وسلم- فسأله: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَرَأَيْتَ رَجُلًا غَزَا يَلْتَمِسُ الْأَجْرَ وَالذِّكْرَ، مَا لَهُ؟ قَالَ الرسول: “لَا شَيْءَ لَهُ”، ثم قال -صلى الله عليه وسلم-:” إِنَّ اللَّهَ لَا يَقْبَلُ مِنَ الْعَمَلِ إِلَّا مَا كَانَ لَهُ خَالِصًا وَابْتُغِيَ بِهِ وَجْهُهُ”(فتح الباري). وفِي روايةٍ، سأل رَجُل النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالَ: الرَّجُلُ يُقَاتِلُ لِلْمَغْنَمِ وَالرَّجُلُ يُقَاتِلُ لِلذِّكْرِ وَالرَّجُلُ يُقَاتِلُ لِيُرَى مَكَانُهُ، فَمَنْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ؟ قَالَ -صلى الله عليه وسلم-:” مَنْ قَاتَلَ لِتَكُونَ كَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا فَهُوَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ”(صحيح البخاري).

تطهيرها من حكم الطاغوت

http://gty.im/891533618

أما إن كان غرضكم من القدس هو تطهيرها من حكم الطاغوت وإخضاعها لحكم إسلامي، يليق ومكانتها كأرض مباركة مطهرة، يكون فيها ليس المسجد الأقصى مطهرًا فحسب، بل كل محيطه طاهر من قوانين الكفر ومن المنكرات والفواحش العلانية الظاهرة،… حكم إسلامي يليق بالقدس التي خصَّها الله بمحفل رباني من دون كل بقاع العالم، محفل كان مركزه ومحوره خاتم النبيين محمد -صلى الله عليه وسلم-.

الذي أَسْرى الله به من مكة إلى القدس، وجمع له سبحانه أنبياءه من كل الألوان والألسنة والبلدان؛ لِيَؤُمَّهم الصلاةَ في بيت المقدس، معلنين بذلك إيمانهم كلهم بمحمد، فتُلغى بذلك كل الشرائع السابقة ولا تبقى إلا شريعة الإسلام الواجبة الاتباع.

سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّه هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ

وقال الرسول -صلى الله عليه وسلم-:” وَقَدْ رَأَيْتُنِي فِي جَمَاعَةٍ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ، فَإِذَا مُوسَى قَائِمٌ يُصَلِّي فَإِذَا رَجُلٌ ضَرْبٌ جَعْدٌ كَأَنَّهُ مِنْ رِجَالِ شَنُوءَةَ، وَإِذَا عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ عَلَيْهِ السَّلَام قَائِمٌ يُصَلِّي أَقْرَبُ النَّاسِ بِهِ شَبَهًا عُرْوَةُ بْنُ مَسْعُودٍ الثَّقَفِيُّ، وَإِذَا إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَام قَائِمٌ يُصَلِّي أَشْبَهُ النَّاسِ بِهِ صَاحِبُكُمْ يَعْنِي نَفْسَهُ، فَحَانَتْ الصَّلَاةُ فَأَمَمْتُهُمْ”(صحيح مسلم).

ويُروى عنه -صلى الله عليه وسلم- بعض ما جرى معه لما وصل بيت المقدس:(… قَامَ يُصَلِّي، فَالْتَفَتَ ثُمَّ الْتَفَتَ فَإِذَا النَّبِيُّونَ أَجْمَعُونَ يُصَلُّونَ مَعَهُ)(مسند أحمد).

فإن كان هذا هو غرضكم من القدس -تطهيرها من حكم الطاغوت وإخضاعها لحكم إسلامي يليق ومكانتها كأرض مباركة مطهرة-، فنِعِمَّ المطلب!

ما هو أصل قضية فلسطين وكيف تُحل؟

http://gty.im/890359198

فإن كان هذا هو غرضكم من القدس -تطهيرها من حكم الطاغوت وإخضاعها لحكم إسلامي-، فاعلموا أن أصل القضية الفلسطينية عقائدي بامتياز، وليس قضية أرض يتصارع “عربٌ” أو “فلسطينيون” ويهود على الهيمنة عليها، فلو كان الأمر كذلك (أي قضية أرض وسلطة) لكان بالإمكان إرضاء الطرفين بإعطاء كل منهم جزءًا من الأرض وتعايش الطرفان جنبًا إلى جنب في سلام واستقرار.

فقد تطاحنت دول أوربا فيما بينها على السلطة والأرض تطاحنًا شديد الدموية والوحشية، ثم توصلوا لحلول وتوافقات أرضت الجميع، تنازل كل طرف عن شيء من حقه، فتمخض عن ذلك دُوَلًا حديثة مستقرة، قوية، آمنة!

ومن أدرك أن القضية الفلسطينية عقائدية بامتياز، فعليه أن يستنتج بداهةً أنها -أي القضية الفلسطينية- لا يمكن أن يخوضها بحق وإخلاص إلا دولة عقائدية، دولة إسلامية، خِلَافَة على منهاج النبوة.

ومن ثم فالقضية الفلسطينية لا ولن تقوم لها الأنظمة الوظيفية في العالم الإسلامي قاطبة، إذ كيف تقوم لقضيةٍ عقائدية دويلات غير عقائدية؟ كيف تقوم لها دويلات لا تقيم للشريعة وَزنًا، ولا تطبقها في بلدانها، بل وتحارب الإسلام ودعاته؟ وهذا يفسر كيف لا تستطيع تلك الدويلات حتى مجرد قطع العلاقات مع إسرائيل، ناهيك عن محاربتها!

فكيف تقوم لقضية فلسطين العقائدية دويلاتٌ وجودها متعلق أصلًا بوجود إسرائيل ومرتبط بها ارتباطًا مصيريًا ومباشرًا؟ فكلها -الدويلات الوظيفية في العالم الإسلامي وإسرائيل- تمخضت عن هدم الخلافة، والقضاء على الإسلام كقوة عقائدية وسياسية وعسكرية، وبالتالي فالأنظمة في البلدان الإسلامية أحد أهم وظائفها: حماية إسرائيل!

وبالتالي فحل القضية الفلسطينية يكون أولًا بإنهاء تلك الأنظمة الوظيفية في العالم الإسلامي، وإقامة المسلمين لخِلَافَة على منهاج النبوة تأخذ بكل أسباب القوة العقائدية والعسكرية والمادية والسياسية، فتجهز الجيوش وتعد العدة، تمامًا كما فعلت الخلافة الراشدة في عهد الصحابة -رضوان الله عليهم-؛ التي فتحت فلسطين وقضت على الحكم الصليبي في الشام. وتمامًا كما فعلت دولة الأيوبيين الإسلامية؛ التي أعادت تطهير فلسطين من حكم الصليبيين.

(أما من يظن أن استرداد فلسطين سيكون عن طريق التحاكم للأمم المتحدة ودول الغرب؛ التي أنتجت هي نفسها إسرائيل واعترفت بها، فهذا لا يستحق أي رد؛ لسخافته، وتفاهته، وحماقته).

خاتمة

http://gty.im/893396300

ليس المقصود هنا ذم الاحتجاجات والمظاهرات الجارية ضد قرار (ترامب) تنفيذ قانون نقل سفارة بلده إلى القدس، أو الانتقاص من أهميتها، فهي -أي الاحتجاجات والمظاهرات- واجبة ليُظهر المسلم سخطه، ويستنكر الباطل، ويُعْلِمَ الظلمة والطغاة أنه -أي المسلم- غير مسَلِّمٍ في حقه، ولا يقر الظلم الواقع به.

فالرسول -صلى الله عليه وسلم- قال:” مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ وَذَلِكَ أَضْعَفُ الْإِيمَانِ”(صحيح مسلم)، ورُوِي عن الرسول:” إِذَا رَأَيْتَ أُمَّتِي لَا يَقُولُونَ لِلظَّالِمِ مِنْهُمْ أَنْتَ ظَالِمٌ، فَقَدْ تُوُدِّعَ مِنْهُمْ”(مسند أحمد).

لكن الهدف هو التذكير بأن الظلم والباطل لا يزول فقط بإنكاره باللسان والقلب؛ فالمظالم الواقعة بالمسلمين اليوم لا ولن تُرَد أبدًا بالمظاهرات والاحتجاجات، ولكن بالأخذ بأسباب القوة العسكرية والعقائدية والسياسية الشرعية.

فجهد المسلمين -جماعات وعلماء- يجب أن ينصب على إيجاد نقطة ارتكاز لخلافة على منهاج النبوة في منطقةٍ ما من البلدان الإسلامية؛ فمن تلك النقطة سينطلق الفرج على كل الأمة، وستحرر ليس القدس وفلسطين فحسب، بل مكة والمدينة وكل البلدان الإسلامية، وينعم المسلمون بحياة كريمة وعزة تليق بهم كحملة آخر رسالة ربانية، مسؤولين على الأخذ بيد البشرية -كل البشرية- لإخراجها من الظلمات إلى النور.

كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَىٰ صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ ((1)-إبراهيم).


مصادر

http://www.danielpipes.org/blog/2009/03/jerusalem-falls-to-british-great-rejoicing-in-the-christian

فاروق الدويس

مسلم مُتابع للأحداث في البلدان الإسلامية خاصة، يحاول المساهمة في معركة الأمة المصيرية بأبحاث ومقالات… More »

مقالات ذات صلة

تعليق واحد

  1. جزاك الله خيرا عندي سؤال النظام العالم الجديد رؤوساء و اتباع من عبدة الشياطين يحكموا العالم هل يوجد حرب صليبية الآن ؟

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى