كتائب الزيف: إعلام الغرب في خدمة صانعي إبادة غزة !!
منذ الإعلان عن مذكرات الاعتقال الصادرة عن المحكمة الجنائية الدولية بحق بنيامين نتنياهو، رئيس وزراء الكيان الصهيوني، ووزير دفاعه السابق يوآف جالانت، اشتعلت الأجواء الإعلامية الدولية بموجة من المقالات النقدية التي هاجمت القرار بشدة، ونرصد هنا ونحلل ثلاثة مقالات بارزة ومتزامنة تقريبًا:
الأول: مقال صحيفة “واشنطن بوست” الأمريكية: (المحكمة الجنائية الدولية ليست المكان المناسب لمحاسبة إسرائيل)، وهو المقال الذي أثار جدلًا حتى في الأوساط الغربية، وذلك لكون المقال كتبته هيئة تحرير الجريدة الأهم والأكثر شهرة عالمياً، أي أنه وجهة نظر تمثل الجريدة وليس مجرد رأي كاتب ما. فتقول:
«أوامر اعتقال نتنياهو وجالانت تُقوّض مصداقية المحكمة الجنائية الدولية وتُعزز الاتهامات بالنفاق والملاحقة الانتقائية، المحكمة تضع قادة منتخبين لدولة ديمقراطية ذات نظام قضائي مستقل في نفس الفئة مع الديكتاتوريين والمستبدين الذين يقتلون دون أي مُساءلة»!!
لكن مقالان آخران كانا أكثر فجاجة واستماتة في الدفاع عن الكيان المحتل، نُحللهما مع مقال واشنطن بوست.
الثاني: مقال صحيفة “الإندبندنت” البريطانية: (مذكرة اعتقال نتنياهو ستُعرّض مستقبل المحكمة الجنائية الدولية نفسها للخطر)، ومما جاء فيه:
«قبل عشرين عامًا، أقنعت الولايات المتحدة أكثر من 100 دولة بتوقيع اتفاقيات بموجب بند غامض في المادة 98 من دستور المحكمة الجنائية الدولية، متعهدة بعدم تسليم أمريكيين إلى المحكمة الجنائية الدولية، فعلت ذلك بتهديدها بقطع المساعدات المالية، والتعاون العسكري، والخدمات المصرفية، وتوحي الإشارات الصادرة من واشنطن إلى أن الولايات المتحدة ستطالب بالمثل لصالح الإسرائيليين، مع استخدام نفس العقوبات ضد الدول الرافضة».
الثالث: مقال مجلة “ذا سبيكتاتور” البريطانية: (لماذا المحكمة الجنائية الدولية مخطئة بشأن إسرائيل)، فكان أكثرها فظاظة، وفيه:
«قرار المحكمة الجنائية الدولية بإصدار مذكرات اعتقال بحق رئيس وزراء إسرائيل ووزير دفاعها السابق يفتقر إلى الأسس الصحيحة، فالمنطق الذي يشكل جزءًا من أخلاقيات الحرب العادلة يقول بجواز مهاجمة هدف عسكري مع معرفة أنه قد يؤدي إلى إصابات بين المدنيين، ومع ذلك، ترى المحكمة الجنائية الدولية أن أي عمل عسكري يضع المدنيين في خطر يُعتبر بمثابة نية لتدميرهم، وتُظهر المحكمة الجنائية الدولية افتراضًا خاطئًا يجعل من الانتصار في الحرب أمرًا غير قانوني، مما يؤدي إلى تقويض سلطتها وإجبار الدول على رفض ولايتها القضائية».
تّعبر هذه المقالات عن سرد موحد، وكأنما صدرت عن قلم واحد، تدافع عن الكيان المحتل بقوة، وتهاجم المحكمة الجنائية الدولية بشراسة بوصفها “كيانًا انتقائيًا غير كفء يفتقر إلى الواقعية”، لكن هذا الخطاب الذي يُظهر تماسكًا أيديولوجيًا خلف الكيان المحتل، يظهر عواره بنقاط ضعف أخلاقية وفكرية كثيرة، مما يجعل هذه المقالات محاولة للتلاعب بالسردية أكثر من كونها حججًا تستند إلى مبادئ العدالة أو الحقيقة.
حجر الزاوية: الاحتلال “حالة استثنائية”
أحد العناصر المشتركة في هذه المقالات هو تقديم “إسرائيل” كحالة استثنائية في النظام الدولي، فتجادل المقالات بأن إسرائيل، باعتبارها “دولة ديموقراطية” ليست بحاجة إلى إشراف خارجي لأن نظامها القضائي الداخلي قادر على التحقيق في أفعالها ومحاسبة قادتها!!
هذا المنطق الذي يبدو للوهلة الأولى مقنعًا للغربيين، يتجاهل حقيقة أن جرائم الإبادة المرتكبة في غزة، بما في ذلك الحصار ومنع المساعدات الإنسانية، تنطوي على انتهاكات صارخة للقانون الإنساني الدولي، وإسرائيل ليست معزولة عن النظام الدولي، بل هي عضو فاعل في المجتمع الدولي، وتستفيد من دعمه الاقتصادي والعسكري والدبلوماسي، ومن هذا المنطلق، يجب أن تكون خاضعة لنفس المعايير التي تُطبق على غيرها من الدول، لا أن تُمنح حصانة ضمنية بحجة الديموقراطية أو التهديدات الأمنية.
منهجية تقويض “العدالة الدولية”
تُظهر المقالات الثلاثة هجومًا منهجيًا على المحكمة الجنائية الدولية، مع التركيز على نقاط ضعفها التاريخية مثل قلة الإدانات، والتكلفة المرتفعة لإدارتها، وأحدث فضائحها المتعلقة بالادعاءات ضد المدعي العام كريم خان. هذه الانتقادات تُستخدم كذريعة لتقويض مصداقية المحكمة ككل، بدلاً من الدعوة إلى إصلاحها أو تعزيز فاعليتها.
الهجوم الأشد يأتي من المقال المنشور في صحيفة (الإندبندنت): (مذكرة اعتقال نتنياهو ستُعرّض مستقبل المحكمة الجنائية الدولية نفسها للخطر)، الذي يُسلط الضوء على الانتقام الأمريكي المحتمل تجاه المحكمة، فيُحذّر المقال، أو بالأحرى يُهدّد، من أن الولايات المتحدة، بدعمها اللامحدود لإسرائيل، قد تستخدم نفوذها لتقويض سلطة المحكمة، الرسالة الضمنية هنا واضحة وتعني: أن أي محاولة لمُساءلة إسرائيل تعني المخاطرة بتدمير النظام القضائي الدولي.
لكن هذه الحجة تتجاهل حقيقة أن العدالة الدولية، رغم عيوبها الكثيرة، تُعد من بين الأدوات القليلة التي تُتيح للضحايا في النزاعات تحقيق قدر من الإنصاف، وإذا أُضعفت المحكمة الجنائية الدولية، فإن ذلك سيُشجع الدول القوية وحلفاءها على التصرف دون أي رادع قانوني، مما يؤدي إلى خلق بيئة دولية خطيرة تطغى فيها بلطجة القوة على العدالة.
التلاعب بالمفاهيم الأخلاقية والقانونية
من أبرز الحجج التي تبنتها المقالات مفهوم “الأثر المزدوج” في الأخلاقيات العسكرية، وهو المبدأ الذي يبرر الأضرار الجانبية في الحروب طالما كانت النية هي تحقيق هدف مشروع.
ففي المقال الثالث في مجلة “ذا سبيكتاتور” البريطانية: (لماذا المحكمة الجنائية الدولية مخطئة بشأن إسرائيل؟) يقدم مقارنة تاريخية بين الحرب الإسرائيلية على غزة وحملة الحلفاء ضد النازيين خلال الحرب العالمية الثانية. ووفقًا لهذا المنطق، يرى أن الخسائر المدنية تصبح تكلفة مؤسفة.. ولكنها مبررة!!
هذه الحجة تتجاهل السياق الخاص بغزة؛ فالأضرار الجانبية التي تتحدث عنها المقالات ليست مجرد حوادث عرضية ناتجة عن صراع حديث، بل هي نتيجة لاستراتيجية طويلة الأمد تتضمن حصارًا مستمرًا ومنعًا ممنهجًا للمساعدات الإنسانية، في حين أن مبادئ الحرب العادلة تسمح ببعض التضحيات، فإن القانون الإنساني الدولي يفرض قيودًا صارمة لحماية المدنيين، وهي قيود تسعى المقالات بقوة لتخفيفها أو إزالتها عن كاهل الكيان المحتل.
ازدواجية المعايير وغياب التوازن
تظهر ازدواجية المعايير بشكل واضح في تجاهل المقالات الثلاثة للمعاناة الإنسانية في غزة، بينما تسلط الضوء على ما تزعم أنها جهود إسرائيلية لتقليل الأضرار، وتغفل عن ذكر العدد الهائل من القتلى أو الظروف الكارثية التي يعيشها سكان غزة، هذا التحيّز ليس مجرد تقصير صحفي؛ بل هو جزء من محاولة لتقديم إسرائيل كضحية للملاحقة الدولية، في حين تُهمّش معاناة الفلسطينيين عن تعمد وإصرار.
بالإضافة إلى ذلك، تُبرز المقالات المحكمة الجنائية الدولية كهيئة انتقائية، تلاحق إسرائيل بينما تغض الطرف عن جرائم دول أخرى مثل سوريا أو ميانمار، هذه الحجة قد تكون صحيحة جزئيًا، لكنها تُستخدم هنا لتبرير عدم محاسبة إسرائيل، بدلًا من الدعوة إلى توسيع نطاق المُساءلة ليشمل جميع الأطراف.
الدوافع السياسية لكتائب الزيف
المقالات تعكس بوضوح تأثير المصالح السياسية والدبلوماسية في صياغة السرد الإعلامي، الولايات المتحدة وحلفاؤها الغربيون يرون في المحكمة الجنائية الدولية تهديدًا محتملاً لنفوذهم. لذلك؛ فإن الهجوم على المحكمة لا يتعلق فقط بإسرائيل، بل هو جزء من حملة أوسع لتقويض أي جهة قد تُعطّل سيطرة القوى الكبرى على النظام الدولي.
الرابط بين الدفاع عن إسرائيل والهجوم على المحكمة يتضح أكثر في المقالات التي تستحضر المخاوف من التداعيات السياسية، مثل انسحاب الولايات المتحدة من المحكمة أو قطع العلاقات مع الدول التي تُنفّذ مذكرات الاعتقال. هذه التهديدات تهدف إلى تخويف المجتمع الدولي ودفعه إلى التراجع عن دعم العدالة الدولية.
ضربة مزدوجة للعدالة والإنسانية
المقالات الثلاثة تقدم نموذجًا لحملة إعلامية منسقة تهدف إلى نزع الشرعية عن المحكمة الجنائية الدولية وتعزيز الحصانة لإسرائيل. لكن هذه الحملة تحمل تداعيات خطيرة تتجاوز قضية غزة، فإذا استمرت الجهود لتقويض العدالة الدولية، فإن العالم قد يواجه مستقبلًا تُصبح فيه الجرائم ضد الإنسانية جزءًا من “تكلفة الحرب”، دون أي محاسبة، ولا يمكن للدول القوية أن تستمر في جرائمها وتتجاهل أصوات الضحايا بحجة الضرورات العسكرية أو المصالح السياسية.
وكبرهان على المعايير المزدوجة والاستخفاف الغربي بالمؤسسات الدولية التي أنشأها، ورغم أن العلاقة بين الولايات المتحدة والمحكمة الجنائية الدولية طالما كانت متناقضة، فترفض الولايات المتحدة الانضمام إلى المحكمة خوفاً من الملاحقات ذات الدوافع السياسية ضد أفرادها العسكريين حول العالم، ومع ذلك، شجعت الولايات المتحدة المحكمة في بعض الأحيان وقدمت لها الدعم، كما هو الحال مع جرائم الحرب ضد الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بسبب غزوه لأوكرانيا.
ما وراء الأكمة
المقالات تعكس توجهًا أيديولوجيًا مستميتًا في حماية إسرائيل كحليف استراتيجي للغرب، حتى مع فظاعة جرائمها البشعة والإبادة الجماعية، كما تُعبّر عن حملة منظمة للدفاع عن الكيان المحتل في وجه الانتقادات الدولية التي تتعلق بجرائمها في غزة، وتهاجم المحكمة الجنائية الدولية باعتبارها منحازة وغير فعّالة، هذا الخطاب يعكس مصالح استراتيجية غربية أوسع ويظهر كيف يتم استخدام الأدوات الإعلامية والقانونية للدفاع عن حلفاء سياسيين وعسكريين على حساب العدالة الدولية.
المقالات الثلاثة وغيرها، ليست فقط دفاعًا عن إسرائيل، بل هي جزء من خطاب أوسع يهدف إلى تقويض العدالة الدولية حين تتعارض مع المصالح السياسية للدول القوية، وأن الهجوم على المحكمة الجنائية الدولية يمكن قراءته كجزء من محاولة لإعادة رسم قواعد القانون الدولي، بحيث تُمنح الدول القوية حصانة غير رسمية من المُساءلة.
كما تعكس المقالات تخوفًا غربيًا من أنّ استهداف قادة دول حليفة مثل إسرائيل قد يفتح الباب لمزيد من المحاسبة الدولية ضد قادة غربيين في المستقبل، مما يهدد احتكار القوى العظمى لتفسير القانون الدولي.
المقالات أغفلت بشكل شبه كامل معاناة المدنيين الفلسطينيين، حيث يتم تصوير الخسائر الهائلة في الأرواح والممتلكات كـ”تكاليف جانبية مقبولة” وفي الوقت ذاته، يتم تصوير إسرائيل كدولة ملتزمة أخلاقيًا بتحقيق “الحد الأدنى من الأضرار”.
الإشكالية الكبرى التي تكشفها هذه المقالات هي محاولة إعادة صياغة مفهوم “الأخلاق العسكرية” بما يخدم تبرير الانتهاكات المحتملة، حيث يتم تصوير الحروب بأنها دائمًا تحمل تكلفة بشرية لا مفر منها.
المقالات كتبت بأسلوب يستهدف بناء رأي عام داعم لإسرائيل ومعادٍ لفكرة محاسبتها، والرسائل موجهة بشكل خاص للجمهور الغربي الذي قد يتأثر بحجج أخلاقية وتاريخية وقانونية تغطي على تعقيدات القضية.
وهي تمثل جزءًا من معركة سردية، حيث تحاول إسرائيل وحلفاؤها إظهار نفسها كضحية للمعايير المزدوجة، بينما يتم تصوير المحكمة الجنائية الدولية كجهة انتقائية وغير مهنية.