اختيارات المحرر

النفاق الغربي الذي اعتدنا عليه!! حملة للإفراج عن المرأة التي أبادت مسلمي الروهينجا

«إنها السجينة السياسية الأكثر شهرة في العالم، امرأة كرّست حياتها للنضال من أجل الحرية والديمقراطية، تبلغ من العمر 79 عامًا وفي حالة صحية سيئة، تُحتجز في الحبس الانفرادي من قبل الطغمة العسكرية الوحشية في ميانمار، ومع نشرنا وثائقيًا تلفزيونيًا كبيرًا حول محنة المرأة الحائزة على جائزة نوبل للسلام، التي انتهت مكانتها من قِبَل الذين كانوا يقدسونها ذات يوم، ينضم ثلاثة وزراء خارجية بريطانيين سابقين إلى حملتنا المطالبة بـالحرية لـ أونغ سان سو تشي».

مع صورة كبيرة لها، تصدرت هذه الخطبة الحماسية كامل الصفحة الأولى لصحيفة الإندبندنت البريطانية قبل أيام ضمن حملة قامت بها الصحيفة للمطالبة بالإفراج عن المتهمة بالإبادة الجماعية لمسلمي الروهينجا في ماينمار (بورما).

لطالما ادّعى الغرب أن (حقوق الإنسان) هي حجر الزاوية في أدبياته وأبجديات خطابه الذي يدعم الحريات والكرامة الإنسانية، ومع ذلك، فإن هذه المبادئ غالبًا ما تُطوَّع لخدمة أجندات سياسية أو مصالح خاصة، ما يكشف عن ازدواجية صارخة في المعايير، إحدى أبرز الأمثلة على ذلك مؤخرًا هي حالة “أونغ سان سو تشي” زعيمة ميانمار الحائزة على جائزة نوبل للسلام، والتي تورطت في جرائم إبادة جماعية ضد أقلية الروهينجا المسلمة، فبينما أدانتها الأمم المتحدة ومنظمات حقوق الإنسان الدولية على هذه الجرائم، نجد أن مؤسسات إعلامية كبرى مثل صحيفة “الإندبندنت” وشخصيات غربية بارزة، وهم ثلاثة وزراء خارجية بريطانيين سابقين، يتبنون حملة دولية تدعمها وتطالب بالإفراج عنها باعتبارها رمزًا للديمقراطية!!

حملة من صحيفة الإندبندنت للمطالبة بالإفراج عن زعيمة ميانمار التي أبادت مسلمي الروهينجا

وتحت عنوان (أطلقوا سراح “أونغ سان سو تشي” ودعوها تُكمل ما بدأته)!! جاءت افتتاحية “الإندبندنت” لتقول: «لم تعد زعيمة ميانمار المخلوعة، تلك الشخصية البطولية التي كانت عليها خلال سنوات الاضطهاد والإقامة الجبرية الطويلة. ولكن، بعد أن ضحّت بحريتها الخاصة في سبيل النضال من أجل الديمقراطية في وطنها، تستحق أن تكون جزءًا من عملية أوسع للحقيقة والمصالحة.

هناك سؤال بسيط يحتاج إلى إجابة حول السجينة السياسية الأشهر عالميًا، وأيقونة حقوق الإنسان المتراجعة، والقائدة السابقة لميانمار: هل ينبغي أن تكون “أونغ سان سو تشي” في السجن؟

الإجابة على هذا السؤال، ولأسباب متعددة، هي بالتأكيد لا.. لماذا:

  • لأن التهم الموجهة إليها: مزيفة تمامًا، كما كانت عندما أُجبرت على قضاء ما يقرب من 15 عامًا تحت الإقامة الجبرية.
  • لأن البعض لن يشعر بكثير من التعاطف معها، نظرًا لفشلها في منع أو إدانة المذابح الجماعية ضد أقلية الروهينجا المسلمة، التي دفعت الناجين منهم إلى المنفى في بنغلاديش.
  • لأنها لم تعد الشخصية البطولية التي كانت عليها خلال سنوات الاضطهاد، لكنها ما زالت تحمل نفس المبادئ التي جعلتها رمزًا للنضال الديمقراطي.
  • لأنها كشخصية كاريزمية تحمل اسمًا معروفًا عالميًا، يمكن لـ “أونغ سان سو تشي” أن تكون الشخص الذي يختاره شعبها بحرية لتوحيد البلاد وإنهاء اضطهاد الروهينجا، وتقديم نوع من التعويض لهم وضمان مستقبل أفضل وأكثر أمانًا في وطنهم.»

أونغ سان سو تشي .. المسيرة السياسية

التطهير العرقي لمسلمي الروهينجا في ميانمار

“أونغ سان سو تشي” هي ابنة الزعيم المؤسس لميانمار الحديثة “أونغ سان” تلقت تعليمها في أكسفورد وعاشت حياة مريحة في الغرب قبل أن تعود إلى ميانمار في أواخر الثمانينيات لتقود حركة ديمقراطية ضد النظام العسكري.

درست في أوكسفورد، وتزوجت الأكاديمي البريطاني مايكل أريس، وربت ولديها في المملكة المتحدة قبل عودتها إلى ميانمار عام 1988، وأمضت ما يقرب من 15 عامًا بين عامي 1989 و2010 قيد الإقامة الجبرية ما أكسبها تعاطفًا عالميًا وجعلها رمزًا للنضال من أجل الحرية والديمقراطية.

في عام 2015، تولت “سو تشي” دور المستشار الأول للدولة، لتصبح فعليًا رئيسة الحكومة المدنية في ميانمار. لكن صلاحياتها كانت محدودة بسبب سيطرة الجيش على وزارات رئيسية كالداخلية والدفاع، ورغم ذلك، تورطت حكومتها في حملات عنف مروعة ضد أقلية الروهينجا المسلمة.

“سو تشي” ودورها في مأساة الروهينجا

خلال فترة حكم “أونغ سان سو تشي” (2015-2021) وخاصة منذ عام 2017، شهد العالم واحدة من أسوأ الأزمات الإنسانية، حيث تعرضت أقلية الروهينجا المسلمة في ميانمار لانتهاكات جسيمة وصفتها الأمم المتحدة ومنظمات حقوق الإنسان الدولية بأنها “إبادة جماعية نموذجية” وجرائم ضد الإنسانية، ونفذت قوات ميانمار العسكرية حملات تطهير عرقي ضد الروهينجا، قُتل فيها الآلاف وفر مئات الآلاف إلى بنغلاديش، حيث يعيشون في مخيمات بائسة.

في أغسطس 2017، شن جيش ميانمار حملة عسكرية واسعة تضم مجموعات من متطرفين بوذيين في ولاية “راخين/ أراكان”1 حيث يقيم معظم الروهينجا، الأقلية المسلمة التي تشكل 42.7% من التركيبة السكانية، فقُتل آلاف الأشخاص، بمن فيهم أطفال ونساء، وأُحرقت قرى بأكملها، وكانت هناك عمليات اغتصاب جماعي للنساء، ونزوح جماعي لأكثر من 700,000 من الروهينجا إلى بنغلاديش، حيث يعيشون الآن في ظروف قاسية في مخيمات اللاجئين، ووصفت الأمم المتحدة حملة الجيش بأنها تحمل “نية الإبادة الجماعية”، بناءً على الأدلة الميدانية التي جمعتها لجان التحقيق الدولية، كما وثّقت منظمات مثل (هيومن رايتس ووتش) و(منظمة العفو الدولية) استخدام الجيش للقوة المفرطة بشكل ممنهج.

في داخل ميانمار، حُرم الروهينجا من الجنسية الميانمارية، مما جعلهم عديمي الجنسية رغم وجودهم في البلاد لقرون، وقُيدت حركتهم، وحُرموا من الرعاية الصحية والتعليم وفرص العمل.

وفي خارجها يعيش مئات الآلاف في مخيمات اللاجئين في بنغلاديش، حيث يواجهون ظروفًا غير إنسانية ومحدودية في الدعم الدولي، كما يُستهدف الروهينجا في دول أخرى أيضًا بجرائم الاتجار بالبشر.

رغم اعتبارها زعيمة ديمقراطية بارزة، ورغم المناشدات الدولية كانت استجابة “أونغ سان سو تشي” للأزمة مثيرة للجدل، فقد ظهرت أمام محكمة العدل الدولية في لاهاي عام 2019 للدفاع عن تصرفات الجيش، قائلة إنها كانت عملية عسكرية مشروعة ضد متمردين مسلحين، وزعمت أن العمليات العسكرية كانت ضرورية لمكافحة “الإرهاب” وامتنعت عن إدانة الانتهاكات بشكل واضح، وقد أثار هذا الموقف استياءً عالميًا واسعًا أدى إلى سقوطها من مرتبة “القديسة الديمقراطية” إلى “الزعيمة المتواطئة”.

الحملة الغربية للإفراج عن “سو تشي”

حملة (أُقصيت صعود وسقوط أونغ سان سو تشي) للمطالبة بالإفراج عن المدانة بإبادة مسلمي الروهينجا

رغم كل هذه الجرائم البشعة، أطلقت صحيفة “الإندبندنت” في أواخر ديسمبر 2024 حملة للمطالبة بالإفراج عن “سو تشي” معتبرة أنها رمز للديمقراطية و”السجينة السياسية الأشهر في العالم” وتزامنت الحملة مع عرض وثائقي على قناة Independent TV بعنوان: (أُقصيت: صعود وسقوط أونغ سان سو تشي) يعرض حياة “سو تشي” منذ صعودها كرمز للنضال الديمقراطي حتى سقوطها بسبب قضية الروهينجا.

وقد أيّد ثلاثة وزراء خارجية بريطانيين سابقين الحملة، وهم “ويليام هيغ” و”جاك سترو” و”مالكوم ريفكيند” ووصفوا التهم الموجهة إليها بأنها “ملفقة”، ودعوا إلى إطلاق سراحها باعتبارها “القوة الديمقراطية الأقوى في ميانمار”.

وقال اللورد “ويليام هيغ” الذي استقبل “سو تشي” في لندن عام 2012 عندما كان وزيرًا للخارجية: «يمكن أن ننتقد الزعيمة السابقة للبلاد، ومع ذلك يجب علينا أن ندعم حملات الإفراج عنها، فهي سجينة سياسية على خلفية اتهامات ملفقة، مسجونة من قبل نظام عسكري في ظروف تبدو قاسية للغاية، قد نختلف مع بعض أقوالها وأفعالها، لكنها كانت تمثل قوة كبيرة للديمقراطية في ميانمار، وهي مسجونة لأنها كانت تمثل تلك القوة، فهي شخص يتعرض لظلم شديد من قبل ديكتاتورية عسكرية، يجب ألا ننسى ذلك».

ازدواجية الغرب التي تعودنا عليها 

من اللافت أن المنظمات والشخصيات التي طالبت بالإفراج عن “سو تشي” تجاهلت إلى حد كبير مسؤوليتها في جرائم الإبادة الجماعية، حيث تم تبرير موقفها بأنها كانت مضطرة للتعامل مع الجيش للحفاظ على استقرار البلاد!! ومع ذلك، لا يمكن تبرير صمتها وتواطئها في الجرائم ضد الروهينجا.

يرتبط الدعم الغربي لـ”سو تشي” بمصالح جيوسياسية، فميانمار تُعتبر منطقة استراتيجية بسبب قربها من الصين والهند، والدعم الغربي لـ”سو تشي” يأتي لاسترداد الحليف المطيع للغرب الذي يمكن أن يقلل من النفوذ الصيني المتزايد في المنطقة.

خريطة ميانمار
خريطة ميانمار

وفي الوقت الذي يدعو فيه الغرب إلى الديمقراطية وحقوق الإنسان، فإنه يتسامح مع انتهاكات الحلفاء عندما تتماشى مع مصالحه، “سو تشي” مثال صارخ على ذلك؛ فهي تُقدَّم كرمز للديمقراطية رغم تورطها في واحدة من أسوأ الأزمات الإنسانية في القرن الحادي والعشرين.

إن قال البعض أن “سو تشي” تستحق محاكمة عادلة على أفعالها خلال فترة حكمها، ويجب أن تُعامل كمعتقلة سياسية فيما يتعلق بتهم الفساد والخيانة التي وجهها إليها النظام العسكري، فإنه في الوقت نفسه لا يمكن تحقيق العدالة للروهينجا بغير محاسبة المسؤولين عن الجرائم التي ارتُكبت بحقهم، بمن فيهم “سو تشي” .

والذين يطالبون بالمصالحة الوطنية في ميانمار من أجل “سو تشي” فإنها أيضا تتطلب مشاركة جميع الأطراف، بمن فيهم الروهينجا، وينبغي أن تكون هذه المصالحة جزءًا من عملية أوسع لتحقيق العدالة، بما في ذلك تعويض الضحايا وضمان حقوق الأقليات.

تُجسد قضية الحملة الغربية لدعم “أونغ سان سو تشي” تناقضات الغرب في التعامل مع حقوق الإنسان، ففي حين أن الدفاع عن حقوقها كمعتقلة سياسية مشروع في المنظور الغربي، فإن التغاضي عن مسؤوليتها في الجرائم ضد الروهينجا يعكس ازدواجية فاضحة؛ لأن دعم الديمقراطية يجب أن يكون شاملاً وغير انتقائي، بحيث يشمل الدفاع عن حقوق جميع الفئات المضطهدة، بغض النظر عن المصالح السياسية.

لا يمكن للسردية الغربية أن تكتمل دون الاعتراف بمآسي الروهينجا والعمل الجاد لإنصافهم، في نهاية المطاف، لا يمكن بناء سلام مستدام في ميانمار دون مواجهة الحقيقة ومحاسبة جميع المسؤولين عن الجرائم، بغض النظر عن مكانتهم.

هامش

  1. ولاية راخين والمعروفة باسمها القديم آراكان، هي أحد ولايات دولة ميانمار، تقع راخين على الساحل الغربي للبلاد وتشرف عاصمتها سيتوي على الجزء الشمالي من الساحل، وتحدها من الشمال ولاية تشين ومنطقتي ماغاوي ومنطقة باغو وبنغلاديش من الشمال الغربي، ومن الشرق منطقة أيياروادي، وخليج البنغال من الغرب، تشكل جبال أراكان حاجزا وفاصلا طبيعيا بين الولاية وباقي مناطق مينمار، وتطل عدة جزر كبيرة على ساحل الولاية أشهرها وأهمها جزيرتي شيدوبا ومينغون، وتشغل الولاية مساحة 36,762 م² من البلاد البالغة 676,578 كم². ↩︎

حسن قطامش

خبير إعلامي.. كاتب مستقل الفكر.. منحاز للحق

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى