حماية النص الشرعي.. بين صيانة المسلمين وتفريط الآخرين
حجية السنة النبوية من أهم المواضيع المثارة للنقاش في ساحتنا الفكرية المعاصرة، سواء أكان تناول هذا الموضوع لذاته أم لجعله مقدمة من مقدمات مناقشة موضوع آخر، كحقوق الإنسان ونظام العقوبات في الإسلام وحقوق المرأة وغير ذلك من مواضيع المعترك الفكري الحالي.
وهو مبحث قديم ظهر منذ أيام الإسلام الأولى، ونقل عن عدد من الصحابة مناقشته وبيان الموقف السليم تجاهه، واستمر في الظهور دون أن يختفي في أي مرحلة من مراحل حركة الثقافة الإسلامية، بل يكاد يكون هذا الموضوع هو التالي لموضوع إعجاز القرآن الكريم وإثبات مصدره الإلهي.
وعادة ما تكون الحجج المطروحة من قبل منكري السنة -إنكارا كليا أو جزئيا- مكررة، فهي عين الحجج التي ذكرت في زمن الصحابة وهي عينها التي ذكرت في زمن التابعين وهي عينها التي تذكر في كل زمان ومكان؛ ما دام موضوع التعبد لله تعالى مطروحا.
لكن ثمة حججا جديدة ظهرت في العصر الحديث إنْ صحَّت التسمية، لم يكن لها ذكر في ما نُقل عن الأقْدمين، والسبب في ذلك هو دخول رافد جديد ومصدر حديث من مصادر الطعن في الإسلام هو الدراسات الاستشراقية، التي يعلم كتَّابها جيدا نقاط الضعف في معتقداتهم، فيحاولون إثارتها إن وُجِد ما يشبهها في البناء العقدي الإسلامي، وإلا اختلقوها وزعموا وجودها لتكون ثغرة يدخلون من خلالها.
مقارنة الإسلام بغيره من الأديان في حفظ النصوص الشرعية… قياس مع وجود الفارق
وغالبية ما يصدر عن الدراسات الاستشراقية مبني على المساواة بين الإسلام كدين وبين غيره من الأديان، وافتراض أن ما يجْري على اليهوديَّة والنَّصرانيَّة مثلا يصحُّ إطلاقه على الإسلام، مع جهل أو تجاهل غالبا للفروقات والاختلافات في طبيعة النص وطبيعة الدين وطبيعة الأصول والفروع التي تجعل الدين الإسلامي غير قابل للقياس على غيره، وليس هذا الحكم مبنيا على الرأي الذاتي، بل هو مبني على قاعدة عقلية يتفق عليها كل العقلاء، وهو أن أي تجربة تجرى في ظروف معينة لتعطي نتائج معينة ستعطي نتائج أخرى إذا تغيرت عوامل التجربة وظروفها.
وأوضح مثال على ذلك وجود ما يُسمَّى بطبقة رجال الدين في اليهودية والمسيحية، وما نتج عن وجود هذه الطبقة في الدِّينيْن، مِن آثارٍ في كل نواحي الحياة اجتماعية وأخلاقية واقتصادية أيضا، بينما يعلمون يقينا أنه لا وجود لشيء اسمه رجال الدين في الإسلام مطلقا، بل إن الثقافة الإسلامية لم تتعرف على هذا المصطلح إلا من خلال الترجمات والاحتكاك بالثقافات الأخرى.
فتمت محاولات استنساخ مفهوم رجال الدين هذا، وافتراض أن العلماء -أو طلاب العلم أو حتى أئمة المساجد وخطباء الجمعة في الإسلام- هم عينهم رجال الدين في اليهودية والمسيحية، ثم تحميلهم كل تبعات وجود نظام رجال الدين وكل أخطاء وانحرافات هذه الطبقة. والخلل كما سبق هو في المساواة بين مختلِفين، وقياس حالة على حالة أخرى مع وجود الفارق.
ومن تجليات هذا القياس الخاطئ السؤال الذي يتم طرحه كثيرا عن مخطوطات كتب السنة الأصلية التي نُسِختْ عن خطِّ مؤلفيها، بل والحماس لجمع معلومات عن أماكن وجود مخطوطات هذه الكتب في المتاحف لإثبات أنه لا يوجد بينها مخطوط واحد بخط مؤلفه، وبالتالي يصلون إلى النتيجة التي يرغبون في الوصول إليها، وهي أن هذه الكتب مشكوك في موثوقيتها.
والقوم يتصورون أن كتب علماء المسلمين تم تدوينها ثم نشرها بنفس الطريقة التي أُلِّفت عليها الحضارات الأخرى ودُوِّنت ونُشرت، فتكون المقدمات التي اعتمد عليها الناقدون للكتب الدينية في الأديان الأخرى هي نفس المقدمات التي يعتمد عليها الناقدون من بني جلدتنا الناطقين بألسنتنا، لتكون النتيجة واحدة كما يتمنون ويتوهمون.
المنهجية العلمية في التثبُّت من النصوص القديمة
قديما، كان مؤلف الكتاب بعد فراغه من كتابته يتيحه للقراء، عن طريق وضعه في مكتبة عامة أو إيصاله للنساخ، وهنا تنقطع صلة المؤلف بالنص الذي ألفه وتنتقل المسؤولية إلى النساخ، الذين لا يعرف المؤلف عنهم شيئا لأنه لا يحتاج لذلك أصلا، وعن طريقهم ينتشر الكتاب عبر القرون بانتشار مخطوطاته وتوزعها في نواحي الأرض، على أيدي هؤلاء النساخ المجهولين.
ونستطيع الحصول على نص الكتاب في وقتنا الحالي بجمع المخطوطات المتاحة، ومعرفة عمرها ومواصفاتها لمعرفة أيها أقرب لزمان المؤلف لتكون هي الأصل، وإذا تعددت المخطوطات تتم المقارنة بينها لمعرفة إذا ما كانت إحداها منقولة من الأخرى وفقا لقوانين وضوابط معينة، وفي النهاية يتم الحصول على النص الأقرب للنص الذي كتبه المؤلف، بعد عملية تستغرق زمنا طويلا، وبعد بذل مجهود شاق في أغلب الأحيان.
وإذا كان النصََ مُنتحلا فمن السَّهل تبيُّن وجود ثغرات من ناحية إثبات الموثوقية الحفاظ على النص الأصلي الذي كتبه المؤلف من خلال هذه الخطوات:
- فمن الممكن جدا أن يُنسب كتاب لمؤلف لم يؤلفه ولم يره في حياته، وتكون فيه أفكار لم تخطر يوما ببال مَن نُسب الكتاب إليه.
- بل يمكن اختلاق شخصيات وهمية ونسبة كتب إليها.
- ويمكن تأليف كتب بديلة عن الكتب الأصلية تحمل نفس عناوين الأصلية.
- وكذلك يمكن تغيير محتوى الكتب كليا أو جزئيا بكل سهولة، خصوصا في حالة عدم تعدد المخطوطات.
- وإم تعددت المخطوطات سيكون من الصعب جدا معرفة النص الصحيح من بينها، فحتى قِدم المخطوطة بالنسبة لغيرها لا يعني أن القديمة سليمة من التحريف والحديثة محرفة.
ونضيف إلى ما سبق أن توفر نسخة بخط يد المؤلف لن يضمن أن تبقى إلى آخر الزمان، بل ستبقى لفترة محدودة تبلى بعدها أوراقها، والكتاب بعد هذا معرَّض للتلف بفعل العوامل المناخية وبفعل الحشرات والقوارض، وتحريف نصه متاح لكل من يستطيع الوصول للمخطوطة الأولى، ولا نستطيع التأكد من أن هذا الكتاب بخط مؤلفه فعلا، وستبقى نسبة كتاب لمؤلف ما مجرد دعوى لا يمكن إثباتها اثباتا يقينيا جازما.
التوراة والأناجيل.. تعديل مستمر
كل هذه العيوب يمكن إلصاقها بكل المؤلفات والكتب التي كتبت في الحضارات والثقافات الأخرى، والتشكيك في كل نص وصلنا بهذه الطريقة، لا يستثنى من ذلك جميع الكتب الدينية؛ فطريقة توثيقها تعتمد على المخطوطات والمقارنة بينها.
وأكبر دليل على عقم هذا الأسلوب وعيوبه الجوهرية، برغم عدم وجود أسلوب آخر غيره، ما نراه في تعدد طبعات الكتاب المقدس، فلا يكاد القوم يجدون مخطوطة مجهولة الناسخ حتى يضطرون لإصدار نسخة جديدة منقحة من نصوصهم الدينية على ضوء هذه المخطوطات المكتشفة حديثا، وهوامش هذه الطبعات مثقلة مليئة بالإشارة إلى اختلافات النسخ، وكثير من هذه الاختلافات ينبني عليها اختلافات إيمانية ومذهبية، ويكفيك الخلاف بين النسخة السامرية والنسخة العبرانية من التوراة الذي أدى لانقسام اليهودية إلى مذهبين بل دينين؛ لكل مذهب منهما نسخته التي يراها سليمة من التحريف بينما يرمي غيرَه بهذه التهمة.
علم السنة النبوية.. منهج علمي لا يطاله الشَّكَ
غير أن هذه العيوب جميعا لا وجود لها في كتب علم الحديث النبوي، بل ولا في كثير من كتب الفقه والتفسير واللغة وغير ذلك من العلوم الشرعية، فطريقة علمائنا من السلف في إيصال نصوص الكتب وحفظها من العبث تختلف تماما عما كان متبعا في الحضارات والثقافات الأخرى، وإن العناية بكتب الحديث خاصة وغيرها من كتب العلوم الشرعية عامة كانت كبيرة جدا، لا تعادلها العناية بأي كتاب آخر على سطح الأرض، بما في ذلك الكتب المقدسة عند الأديان الأخرى.
ولو أخذنا موطأ الإمام مالك بن أنس نموذجا تتضح من خلاله طريقة وصول النص إلينا، نجد الإمام مالكا قد فرغ من تأليفه في حدود سنة 140هـ، وذلك قبل أربعين سنة تقريبا من وفاته، وبعدها بدأ كغيره من علماء المسلمين في أداء الكتاب لتلاميذه عن طريق مجالس والقراءة والسماع، فعقد مجالس لقراءة الكتاب من لفظه أو من لفظ قارئ غيره في حضوره، فيصحح تلاميذه نسخهم ويوثقونها على نسخته التي كان يقرأ منها، أو يقرأ التلاميذ من نسخهم على الإمام مالك وهو يستمع إليهم، وبعد فراغهم من قراءة الكتاب كاملا على مؤلفه يأذن لهم في روايته عنه ونشره.
ومن الطرائف التي تروى في هذا الشأن أن ابنة الإمام مالك كانت تشارك في هذه العملية بجلوسها خلف الستار فإذا أخطأ القارئ نبهت إلى خطئه هي أيضا، وكان في طلاب العلم من يحفظ الكتاب كاملا في ذهنه ثم يشد الرِّحال إلى المدينة النبوية حيث يقيم الإمام مالك لقراءة الكتاب عليه، كما فعل الإمام الشافعي في القصة المنقولة عنه التي قص فيها رحلته في طلب العلم في مكة ثم ارتحاله للمدينه وتفاصيل لقائه الأول بأستاذه الإمام مالك.
وبهذا أصبح كل معاصر للإمام مالك يتحصل على نسخة من هذا الكتاب لا يستطيع أن ينسب إليه حرفا منها ما لم يحصل على هذه الإجازة بالإملاء أو القراءة أو السماع من المؤلف شخصيا، فتلقى الكتابَ عنه عدد كثيرٌ من الرواة يصل إلى المئات، نجد أسماء كثيرين منهم في الكتب التي ترجمت لحياة الإمام مالك بن أنس. وبهذا تكون لكل راو عن الإمام مالكٍ نسخةٌ خاصة به قد وثقها بقراءتها على المؤلف الأصلي كاملة.
وبلغ من دقة المحدثين في توثيق الكتب أنهم يفرقون في صيغة الرواية فإذا كان التلميذ قد سمع لفظ الشيخ فإنه يقول: «حدثني»، وإن كان قد قرأ هو على الشيخ والشيخ يسمعه يقول: «أخبرني»، وإن كان المجلس فرديا فيه الشيخ والتلميذ فقط استخدم ضمير المفرد، وإن كان في جماعة استخدم ضمير الجماعة فقال: «حدثنا وأخبرنا».
وبعد وفاة الإمام مالك بن أنس انتقلت مهمة نقل الكتاب وحفظ نصه إلى تلاميذه الذين رووا عنه، فصار الراغبون في رواية هذا الكتاب يتلقون نصه عن تلاميذ الإمام مالك، بنفس الطريقة التي تلقى بها التلاميذ الموطأَ عن مؤلفه، ومن هنا ظهرت أسانيد الكتب.
فكل راوٍ عن تلميذ للإمام نسختُه موثقة بالقراءة على تلميذ من تلاميذ مالك الذين أجازهم بالرواية عنه، بل غالبا يتم التوثيق على أكثر من راوٍ واحد، فيروي المحدث الموطأ عن طريق عدد من تلاميذ مؤلفه، ويقول حدثني فلان وفلان عن الإمام مالك بن أنس. وهكذا تسلسلت رواية الكتاب عبر القرون.
وليس الموطأ وحده هو الذي نقل بهذه الطريقة، فكل كتب الشريعة الإسلامية وخصوصا كتب الحديث كما سبق تم نقلها بهذه الطريقة الفريدة.
بل إن كتب النحو نفسها نقلت إلينا بهذه الطريقة، فكتاب سيبويه مثلا كان طلاب العلم يقرأونه على تلميذه الأخفش، وممن قرأوه عليه: الإمام الكسائي شيخ نحاة الكوفة، رغم ما كان بينه وبين سيبويه من مناظرات وخلافات. فلم يكتف بمجرد استنساخه كتاب خصمه وقراءته مباشرة، بل وثق نصه بقراءته على تلميذ سيبويه والراوي لكتابه عنه.
ثم إذا حصل عالم من علماء الحديث على نسخة من النسخ القديمة الموثقة فإنه يثبت توثيقه لهذه النسخة عن طريق ما يسمى بالسماعات، والمخطوطات القديمة مليئة بهذه السماعات، حيث تحتوي على أسماء العلماء الذين تملكوا هذه النسخة وأسماء من قرئت في حضرتهم ووثَّقوا نصَّها.
وكل شروح كتب السنة نجد مؤلفيها يفتتحونها بذكر أسانيدهم التي وصل إليهم نص الكتاب المشروح عبرها، ومن يراجعْ مقدمة شرح النووي على صحيح مسلم يجدْ هذا، ومن يراجع مقدمة ابن حجر لشرحه على صحيح البخاري يجده، ومن يراجع شرح العيني على صحيح البخاري يجد أسانيده أيضا.
واشتهر بعض العلماء بتتبعهم لاختلافات روايات الكتب التي يروونها، كما فعل القطب اليونيني عندما قارن أشهر روايات صحيح البخاري ووضح الاختلافات والفروقات بينها في حواشي نسخته، ووصلت هذه النسخة للحافظ ابن حجر ووضح جميع هذه الاختلافات في شرحه على الصحيح، وهي النسخة التي اعتمد عليها عدد من كبار العلماء عند طبع أول نسخة من صحيح البخاري، وهي الطبعة التي اشتهرت باسم السلطانية، وغالب النسخة المطبوعة معتمدة على هذه النسخة الموثقة.
وسبب الاختلاف بين النسخ ليس راجعا لتحريف النساخ، فخطأ الناسخ اكتشافه سهل، إنما يرجع لأنّ المؤلف ربما يعيد النظر في شيء من محتويات كتابه، فالموطأ بقي الإمام مالك يدرِّسه لطلابه على مدى أربعين سنة، ومن الطبيعي أن يتغير محتواه قليلا في بضعة أحاديث بالإضافة والحذف، فنتج عن هذا أن النسخة التي رواها عنه محمد بن الحسن الشيباني مثلًا -وهو من قدامى الراوين عنه- تختلف قليلا عن رواية يحي الليثي وهو من أواخر من روى الموطأ. وفي النهاية، العبرة برواية الراوي للحديث سواء وضعه في كتابه أو لم يضعه، فلا إشكال في اختلاف النسخ فهو غير مؤثر في صحة الحديث أو ضعفها، ويمكن تشبيه هذا بتغير طبعات الكتاب والاختلافات التي تكون بين طبعة وأخرى في زماننا هذا.
ومن خلال هذا العرض يتضح لنا أن الفرق كبير جدا بين المنهج المتبع في التدوين والتوثيق في الأديان والحضارات الأخرى وبين ما هو موجود عند علماء سلفنا الصالح رحمهم الله تعالى، ويتضح بهذا مدى سخافة التساؤل عن نسخة متوفرة بخط الإمام مالك لنتأكد من صحة نسبة الموطأ له.
فمنهج علماء المسلمين يحفظ الكتب عن طريق انتشارها واستفاضتها على يد أشخاص معروفين غير مجاهيل، يتلقاها كل جيل عن الجيل الذي قبله، حتى وصلتنا في زماننا هذا. ولا تزال مجالس السماع لكتب الحديث مستمرة، ولا يزال طلاب علم الحديث إلى زماننا هذا يتلقون كتب السنة عن شيوخهم بأسانيد متصلة إلى مؤلفيها في جميع المراكز العلمية، ليكون هذا التوثيق البالغ في الدقة خصيصة من خصائص الأمة الاسلامية. لا وجود له في أي حضارة أخرى.