النظام الإسلامي الاجتماعي.. الوعي به واجب الوقت
من أوضح الفوارق بين الشرق والغرب، النزعة الجماعية في المجتمعات الشرقية والتي تقابلها النزعة الفردية في المجتمعات الغربية. وقد أتى الإسلام بما يعزز هذه النزعة الجماعية، مع الاحتفاظ بخصوصيات الفرد، بينما الأغلب الأعم من الفلسفات الغربية -وتحققاتها الواقعية- تميل إلى تعظيم الشأن الفردي أكثر من المجتمع.
من نواتج هذه العملية أن المجتمع الإسلامي يفرز صفوة تعبر عنه بشكل طبيعي، صفوة تشمل عديدًا من الأصناف تتوزع بين شرف النسب وشرف العلم وزعماء الحِرَف والزعماء الذين سادوا بكثرة فعلهم للخير وإنفاقهم للأموال وإصلاحهم بين المتخاصمين.
هذه الصفوة تشكلت -في المجتمع الإسلامي- بشكل طبيعي دون تدخل للسلطة فيها، فأشراف النسب حريصون على تنشئة وتعليم أولادهم من الأخلاق ما يجعلهم جديرين بشرف النسب، والطالب الفقير الذي لا تجد أمه ما تطعمه به يملك أن يكون سيد العلماء بالجد والاجتهاد، وزعماء الحرف هم إفراز طبيعي خارج من بين أهل هذه الحرفة.
من هذه الصفوة تخرج ما يسمى بـ “أهل الحل والعقد” الذين جعل إليهم الفقهاء مهمات تولية السلطان، وجعلوا على السلطان واجب استشارتهم!
ولأنها عملية اجتماعية طبيعية وإنسانية، لم يتحدد “من هم أهل الحل والعقد” بصيغة رياضية محددة مغلقة، كما هي الصيغ التي يرتاح لها القانونيون ومن شربوا علوم الفلسفة والاجتماع من منبعها الغربي (فالمنهجية الغربية نزّاعة نحو التحديد ودقة التوصيف).
وهذا في ظل دين ينزع سلطة التشريع العليا فيجعلها لله، ويجعل حراسة الدين في يد طبقة غير محددة ولا مؤطرة هي “جماعة العلماء”، ويحفظ للمجتمع قوته من خلال تعاليم أخوة الإسلام وصلات الرحم وحقوق الجوار والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومن خلال مؤسسات الزكاة والأوقاف والحسبة.
وعلى الناحية الأخرى أفرز النموذج الغربي طريقته في اختيار الحاكم، فكان أفضل ما وصلوا إليه هي “الانتخابات بالاقتراع السري المباشر” في ترجمة واضحة للنزعة الفردية التي تعظم من شأن الفرد، وتجعل له الحق منفردًا في أخذ القرار لكل ما يخص الشأن العام. وقد تحقق هذا النموذج الغربي في صيغتين متناقضتين، هما: الشيوعي والرأسمالي!
وفي كليهما لم تكن السلطة تعبيرًا حقيقيًا عن رغبة أو إرادة الجماهير، ففي النظام الشيوعي لم يكن للانتخابات الفردية حقيقة واقعية، بل إن الجماعة التي وصلت إلى السلطة في أول الأمر ظلت حتى الانهيار تسلم المواقع يدًا بيد، وإن أكثرت في الحديث عن “إرادة الشعب” و”رأي الجماهير”.
وفي النظام الرأسمالي استطاعت نخبة المال أن تتحكم في صياغة “إرادة الجماهير” هذه، عبر الإعلام أولًا، ثم عبر القوانين، ثم عبر السلاح، وتشكل تحالف طبيعي بين أصحاب المال ليكونوا هم أو أصدقاؤهم أصحاب السلطة التنفيذية وأعضاء السلطة التشريعية، فتكون النخبة الحاكمة هي على الحقيقة شر أنواع النخب، والتي لا يهمها التعبير عن إرادة الجماهير بقدر ما يهمها خضوع هذه الجماهير والاستمرار في استنزافها.
حتى النخبة التي قد تمثل نوعًا من العمل الخيري والتطوعي، مثل منظمات المجتمع المدني، لم تبلغ من التأثير في السياسات والأنماط الاقتصادية حدَّا ذا بال، ويُقاس هذا على وجه الخصوص في أوقات الأزمات ورغبة السلطة في تمرير سياسة أو فرض نظام بعينه.
وفي رأيي أن هذا راجع إلى أن هذه النخبة ليست إفرازًا حقيقيًا مجتمعيًا بل هي “عمل تطوعي”، ولا يمكن للعمل التطوعي أن يكون في القوة مثلما يكون الإفراز الحقيقي (كالأشراف في النسب، والعلماء، وزعماء المهن والحرف، ورجال فعل الخير وأمثال هؤلاء في المجتمع القديم).
ولا شك أن سياق وجود دولة مركزية غيَّر كثيرًا من الأوضاع الاجتماعية والأنشطة الاقتصادية، ولئن كانت الإجابة الغربية هي أفضل إجابة ممكنة في صيغتها الرأسمالية (ربما)، فإن الأكيد هو أن عملية فرض هذه الدولة المركزية في بلادنا لم تكن لتتم إلا “بتحطيم النظام الاجتماعي الإسلامي”، وهذا ما بدأ في بلادنا على يد مستبد قوي (مثل محمد علي) أو على يد الاحتلال الأجنبي ثم أكملته الطبقة العسكرية المستبدة حتى لحظتنا الحالية.
ونعود فنقول:
إن احتمال الفوضى القادمة في بلادنا لم يعد احتمالًا، بل هو الأكيد المحتوم..
لقد ثبت لنا بالتجربة أن هذه الأنظمة المستبدة لن تترك الحكم لا بانتخابات نزيهة ولا بثورة سلمية ولا بثورة مسلحة حتى تهدم البلاد فوق رؤوس الجميع، والغرب من ورائها يدعمها ويحميها (ولو قتلت وهجرت وشردت الملايين.. والنموذج السوري نراه بالصوت والصورة)، لا سيما وأن أجهزة الأمن والجيش في بلادنا قد صارت مرتبطة ارتباطًا حقيقيًا وعضويًا بالغرب، وهي فروع محلية لجيوشه الأجنبية تحكم بالنيابة عنه.
ومن ثمَّ فإن إعادة نشر “الوعي بالنظام الإسلامي” في بناء المجتمع هو واجب الوقت، بحيث نتجنب ما استطعنا مرحلة الفوضى، أو على الأقل نعبرها بأقل الخسائر.
نماذج تقوية الزعامات القبلية والعشائرية والجغرافية، ومؤسسات التكافل، وصلات الأرحام، وقيم: الإحسان والبر والبذل، وقيم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإعادة تمركز الشخصيات الإسلامية وطلبها لموقع القيادة الطبيعية في مجتمعاتها.. كل هذا من واجبات الوقت، ولا بد أن يسبق هذا مرحلة الوعي به وتشربه.
مقال رائع