ما نفعله في حال فساد أهل الحل والعقد
تحدثنا في التدوينة السابقة عما يجب أن نفعله في حال ثبات السلطة في يدّ الفساد .. في هذه الحالة لا یوجد إلا حل واحد فقط وهو نزع تلك السلطة من أیدیهم نزعا، وتجریدهم منها تماما وأما المجيء تحت سیادتهم وإشرافهم وشرعیتهم فبعیدا عن كونه أصلا اعترافا بهم، إلا أنه في الوقت نفسه لا ینزع منهم صفة أهل الحل والعقد في الواقع، بل سیظلون هم الحكام، فأهل الحل والعقد قد “یعقدون” السلطة المتغیرة لأحد الیوم، و”یحلونها” عنه غدا، والواقع خیر شاهد، وهو ما یعني أنك ستظل تدور في حلقة مغلقة یتلاعب بك فیها ( أهل الحل والعقد ) الفاسدون وأنه لن یستمر أحد في السلطة إلا إذا سار وفق أهوائهم !
ولهذا نقول في واقعنا ( الثورة قبل السلطة)، والثوارت الناجحة هي تلك الثورات التي تفرز سلطة ثابتة جدیدة تمثل قیم الثورة ومنهجها وأفكارها كما حدث في الثورة روسیة أو الكوبیة أو الإیرانیة، وهو ما حاول البعض عمله في “ثورة ینایر” الفقیدة عندما طالب المجلس العسكري بتأسیس “مجلس رئاسي مدني”، هكذا بهذه البساطة ! وهو الشيء الذي لم یقبله الجیش قطعا لأنه یعرف أنها خطوة بمثابة انتزاع السلطة الثابتة منه، وقد كان الجیش یعرف أن الثورة أضعف من أن تنتزع هذه السلطة منه، فهي لیست كالثورات القویة التي تبرز قیاداتها وتكوّن مجلسا ثوریا للقیادة، مجلسا یمثل فكر ومنهج ورؤیة الثورة، هذه الثورات القویة تُحدث عملیة تغییر مجتمعي كاملة، وتفرز قادتها عبر المعارك والمواقف فیصبحون هم السلطة الجدیدة في المجتمع، وهو ما یُسمى سیاسیا “الشرعیة الثوریة”، وبالطبع فإن عملیة انتزاع السلطة من مراكز القوة القدیمة تتطلب حتما قوة ولا یمكن تحقیقها بمجرد الهتاف والاعتصام السلمي.
ملاحظة هامشیة: بعض الذین طالبوا بالمجلس الرئاسي المدني هم أنفسهم الذین یخرجون في الإعلام یسخرون من مصطلح “أهل الحل والعقد” ولا یدرون أن ما طالبوا به كان هو “أهل الحل والعقد” بالضبط، الفارق الوحید عما طرحه علماء المسلمین القدامى هو أنهم رشحوا شخصیات لا تستحق مطلقا أن یكونوا كذلك، كما أنهم لم ینتبهوا لموازین القوة فظنوا أن السلطة الثابتة یُمكن أن یتم الحصول علیها بالمطالبة الرقیقة الهادئة، ولا أدري كیف تكون هذه ثورة!
وبذلك تفهم أن المعركة كلها تكمن في انتزاع السلطة الثابتة وتكوین سلطة جدیدة في المجتمع، وهي عملیة طویلة تحتاج إلى صبر ومصابرة، تحتاج إلى فكر ورؤیة ونشر وعي، كما تحتاج إلى قوة وحسم وحزم ومواجهة، فهي عملیة بناء مجتمعي، وعملیة تغییر فكري للمجتمع ولیس تغییرا مادیا فقط، وهذه إحدى وظائف الثورة الأساسیة، فإذا تمت عملیة التغییر المجتمعي تلك وتشكلت كذلك السلطة الثابتة المستقیمة سواء كانت في صورة أشخاص أو هیئات تم تأسیسها فقد نجحت ثورتك، وقد ضمنت حینها استقامة السلطة المتغیرة وأصبح الحدیث عن آلیة تولي السلطة المتغیرة أمرا هامشیا مادامت قیم النظام الجدید قد ترسخت، ومادامت السلطة الثابتة قد استقامت، درب طویل لیس بالسهل أي نعم، لكن لادرب غیره! ، وفي النظام السیاسي في الإسلام أي وسیلة لاختیار السلطة المتغیرة ستحقق هذه الاعتبارات الثلاث فقد حققت الشكل النموذجي لتولیها :
- توافر شروط الحكم في الشخص ( كالإسلام والذكورة والحریة والعدالة والاجتهاد والكفاءة).
- أن یحكم بالحق لا یتجاوزه، وقد شرحنا ماهو المعیار في ذلك عند حدیثنا عن النظام السیاسي في الإسلام، وهذا الاعتبار یمیز السلطة في الإسلام عن السلطة في الدیمقراطیة، فمنهج الحاكم في الحكم یؤثر على شرعیته في الإسلام، وقد تسقط الشرعیة عن الحاكم بسبب منهج حكمه الفاسد سواء كان بتضییع الدین أو الدنیا ولا قیمة هنا لاختیار الناس له لأن السیادة للحق فوق الحاكم والشعب، وهذا بخلاف الدیمقراطیة التي تجعل شرعیة الحاكم مصدرها اختیار الأغلبیة فقط أیا كان طریقة حكمه.
- أن یحصل الاجتماع بوجوده، فلا یكون وجوده مدعاة للتنازع والشقاق والخلاف والفتن والتقاتل ( وهذا یحدث واقعیا باتفاق مراكز القوى ” أهل الحل والعقد ” ، ویُراعى فیه رضا الناس العام حتى لا یكون مجیئه قهرا).
هذه الاعتبارات التي تكسب الحاكم شرعیته، وفي صدر الإسلام كانت السلطة الثابتة مستقیمة، فهي سلطة تشكلت على مدار ٢٣ سنة من دعوة وهجرة وجهاد وتزكیة، متمثلة في المجتمع الإیجابي الذي تكون، وفي العلماء والمجاهدین وأصحاب الرأي من كبار الصحابة الذین أفرزتهم المعارك والأحداث الصادقة، فهؤلاء كانوا أهل الحل والعقد، ولذلك لم یكن هناك أي معضلة أبدا في آلیة اختیار “السلطة المتغیرة”، ولذا ستجد سبلا مختلفة لتولي الخلفاء “السلطة المتغیرة“، فأبو بكر كان ترجیح عمر، وباختیار عمر له حصل الاجتماع وموافقة مراكز القوة في المجتمع ( أهل الحل والعقد )، وعمر كان وصیة أبي بكر وبسبب كونه وصیة أبي بكر لم یحصل تنازع وحصل الاجتماع والموافقة من مراكز القوة ( أهل الحل والعقد) ، أما عثمان فكان واحدا من ستة اختارهم عمر حتى یتشاور المسلمون ویختاروا منهم واحدا، فوكلوا عبد الرحمن بن عوف لیستشیر الناس ثم یختار، فاختار (عثمان بن عفان) وبهذه الآلیة حصل الاجتماع، هذه آلیات مختلفة لمجيء الحاكم لكنها كلها – بلا استثناء – تمت تحت موافقة أهل الحل والعقد ( مراكز القوة ) المستقیمین حینها وراعت الاعتبارات الثلاثة التي تم ذكرها.
یلخص ما قلناه كله حول السلطة شیخ الإسلام ( ابن تیمیة ) فیقول: (وأما نفس الولایة والسلطان فهو عبارة عن القدرة الحاصلة، ثم قد تحصل على وجه یحبه الله ورسوله، كسلطان الخلفاء الراشدین، وقد تحصل على وجه فیه معصیة، كسلطان الظالمین)
ولو قدر أن عمر وطائفة معه بایعوه (أي: أبا بكر)، وامتنع سائر الصحابة عن البیعة، لم یصر إماما بذلك، وإنما صار إماما بمبایعة جمهور الصحابة، الذین هم أهل القدرة والشوكة.
ولهذا لم یضر تخلف سعد بن عبادة؛ لأن ذلك لا یقدح في مقصود الولایة، فإن المقصود حصول القدرة والسلطان اللذین بهما تحصل مصالح الإمامة، وذلك قد حصل بموافقة الجمهور على ذلك، ویقول أیضا: (فإنه لا یشترط في الخلافة إلا اتفاق أهل الشوكة والجمهور الذین یقام بهم الأمر بحیث یمكن أن یقام بهم مقاصد الإمامة, ولهذا قال النبي – صلى لله علیه وسلم -: “علیكم بالجماعة، فإن ید لله مع الجماعة” “إن الشیطان مع الواحد وهو من الاثنین أبعد”) وبذلك تعرف أن حدیث العلماء عن (أهل الحل والعقد) تحدیدا هو حدیث عن الواقع الذي لا فكاك منه، حدیث عن مراكز القوة التي بیدها السلطة، لیس اختراعا، ولا نظریة مبتكرة، ولا شیئا مبتدعا، هذا ببساطة الذي سیحدث في الواقع شئنا أم أبینا، لن یصبح الحاكم حاكما إلا بإقرار ورضا من أهل الحل والعقد ( مراكز القوة في المجتمع) ، كما هو حاصل في واقعنا رغم أنوفنا.
ورفضنا لمراكز القوة وأهل الحل والعقد الحالیین لا یجعلنا نتجاوز الواقع وننكر هذه الحقیقة، بل یجعلنا نتحرك بكل طاقتنا لانتزاع السلطة منهم انتزاعا ووضعها في ید من یستحقها، وإنما الذي أضافه العلماء استنباطا من الدین هو الشروط التي حددوها لأهل الحل والعقد في المجتمع المستقیم من عدالة وعلم وتخصص واجتهاد وحسن عقل ورأي وتدبیر لیتحقق مقصود الإسلام بهذه السلطة ” سیادة الحق ” وهو الشيء الذي نسعى إلي إیجاده الیوم بثورتنا.