تهديد الشبكات الاجتماعية للبريد الإلكتروني، حقيقة أم وهم؟
بالرغم من أن خدمات البريد الإلكتروني قديمة قِدم الإنترنت في حد ذاته، وبالرغم من أنه يُعتبر أحد أعمدته الأساسية، إلا أنه وفي كل مرة تُبصر شبكة اجتماعية جديدة النور، أو ظهرت تقارير حوى مدى استخدام الشبكات الاجتماعية الحالية إلا وعاد الحديث حول التهديد الذي (سـ)تشكله هذه الأخيرة عليها. هناك من يرى بأن الشبكات الاجتماعية في طريقها إلى التهام حصة كبيرة من «سوق» البريد الإلكتروني، إلا أن هناك من يرى بأن المعركة القائمة (أو التي قامت) ما بين هذين الطرفين قد حُسمت وأن الفائز فيها هو البريد الإلكتروني.
فأما القائلون بتفوق الشبكات الاجتماعية فيرون بأن هذه الشبكات الحديثة أتت لتلبي رغبات وحاجة إلى طرق تواصل جديدة لم تكن متوفرة أو لم تكن إليها حاجة في الأزمنة الماضية، فعلى سبيل المثال يميل المراهقون حاليًا إلى الاعتماد على طرق تواصل جديدة كخدمات الدردشة والتي تتم المحادثات فيها بشكل أبعد ما تكون عن الرسمية التي يمتاز بها البريد الإلكتروني، فلم تعد هناك حاجة لوضع عنوان للرسالة، أو ختمها بإحدى التحيات المُجهزة من قبل، أما الديباجات الطويلة بداية كل رسالة فقد أصبحت جزءًا من الماضي، حيث أن كل ما يكفي للتواصل هو كتابة كلمات قليلة، غالبًا ما تكون بلغة ركيكة لا من حيث المعنى ولا من حيث المبنى («أصوات» يُعبر عنها بلغة توصف بلغة الرسائل القصيرة)، وما يلبث المُرسل إلا لحظات -قد تطول وقد تقصر- حتى يستقبل ردًا على رسالته. بل هناك من أدوات التخاطب والتواصل الاجتماعي الحديثة التي لم تعد يحتاج مستخدمها لكلمات للتواصل باستخداما مثلما هو الحال مع Snapchat مثلا، حيث أن كل ما يحتاجه المُرسل هو التقاط صورة وإرسالها.
أما المستخدمون الأكبر سنًا والذين عاصروا ظهور الشبكات الاجتماعية «الأقدم» فتراهم يعمدون إلى استخدامها للبقاء على اتصال بمعارفهم، فبحكم أن جميع أصدقائك الذين تتواصل معهم بشكل مستمر موجودون في قائمتك «أصدقائك» على فيس بوك، فلم تعد هناك حاجة إلى البريد الإلكتروني للتواصل معهم، فيكفي أن تفتح تطبيق Messenger الخاص بفيس بوك مثلًا لتتواصل مع من أردت، كل هذا بشكل بعيد كل البعد عن «الجدية» التي ترافق البريد الإلكتروني. قد يكون الأمر أكثر جدية على LinkedIn مثلًا بالرغم من أوجه التشابه العديدة مع رسائل فيس بوك.
لكن هل فعلًا يُهدد كل هذا البريد الإلكتروني ومُختلف الخدمات التي تقوم عليه؟ حسب مقال نُشر مؤخرًا على موقع Computer World فإن هذه الفكرة أبعد ما تكون عن الواقعة لعدة أسباب، قد يكون أهمها هو أن البريد الإلكتروني يبقى حجر الزاوية في كل التعاملات التي تتم على الإنترنت، حتى ولو أردت فتح حساب على إحدى هذه الشبكات الاجتماعية فستحتاج إلى عنوان بريد إلكتروني للقيام بذلك (يُمكن استثناء فيس بوك من هذه القاعدة والتي أصبحت تعتمد أيضًا على أرقام الهواتف إلى جانب عناوين البريد الإلكتروني). ولن تحتاج إلى أكثر من بريدك الإلكتروني لتبقى على اطلاع بما يحدث عليها بحكم أن جميع التنبيهات ستصلك إليه.
أضف إلى ذلك بأن البريد الإلكتروني أصبح أكثر اجتماعية على مر السنوات الماضية. فإن كنت من مستخدمي Gmail مثلا فإن -ومن دون شك- تستخدم خدمة الدردشة الفورية Gtalk والتي تُجنبك عناء إرسال رسالة جديدة إن كانت الدردشة الآنية مُمكنة مع من تود إرسال الرسالة إليه. كما أنه يُمكنك قراءتك التعليقات التي وردتك على Google+ (وعلى غيرها من الشبكات الاجتماعية) مباشرة من خلال بريدك الإلكتروني، إضافية إلى إمكانية الرد عليها دون أن تترك شاشة بريدك الإلكتروني. إلى جانب ذلك فأن خدمات Gmail وأخواتها أصبحت مكانا للقيام بالعديد من الوظائف، فتقويمك، وقائمة المهام التي تود القيام بها، إضافة إلى مستنداتك النصية وملاحظاتك كلها أصبحت مربوطة ببريدك الإلكتروني. هذا دون أن ننسى بأن بريدك أصبح يُستعمل أيضًا كأداة لتخزين ملفاتك أيضا. بعبارة أخرى، لم يعد استخدام خدمات البريد الإلكتروني مقتصرًا على هذه الوظيفة القاعدية فحسب، رغم أنه بإمكان هذه الخدمات الإضافية أن تكون مستقلة بذاتها في مواقع جانبية.
أما لو أردنا مقارنة عدد مستخدمي البريد الإلكتروني مقارنة بالشبكات الاجتماعية فإننا نجد بأن مستخدمي الأولى يتجاوز ضعف أكبر شبكة اجتماعية، حيث يتجاوز عدد مستخدميه إلى 2.2 مليار دولار حسب تقرير Pingdom، في حين أنه لم يصل بعد عدد مستخدمي فيس بوك نصف ذلك.
لكن ماذا لو عدنا إلى خدمة البريد الإلكتروني القاعدية فقط، يعني الوظائف التي تتعلق بإرسال واستقبال الرسائل فقط، هل لهذه الخدمات مستقبل إن هي فُصلت عن الخدمات الإضافية التي ربطت بها؟ يبدو بأن أفضل وسيلة للإجابة عن هذا السؤال هي متابعة التوجهات العامة للشركات الناشئة لأن من عادتها التوجه لتطوير تطبيقات متوافقة مع متطلبات العصر، وإن كان ذلك صحيحًا، فإن من متطلبات هذه الفترة هو تحسين خدمات البريد الإلكتروني وليس استبدالها بخدمات أخرى، فيكفي مثلًا أن نلقي نظرة على أكثر التطبيقات شعبية على الهواتف الذكية لنجد بأن تطبيقات البريد الإلكتروني تحتل مراتب مُتقدمة في قائمة التطبيقات الأكثر شعبية، فهذه sparrow قد وقعت في شباك Google بعد فترة ليست بالطويلة من إطلاقها. أما Dropbox فقد اشترت تطبيق MailBox الخاص بالبريد الإلكتروني لتضمه إلى قائمة الخدمات التي توفرها.
أما لو تركنا مجال تطبيقات الهواتف الذكية جانبًا لوجدنا عدة خدمات أخرى تلبي مختلف حاجيات المُستخدمين، فعلى سبيل المثال يُمكن برمجة إرسال رسالة بريد إلكتروني في وقت مُعين عبر خدمة Boomerang أو معرفة متى تم فتح الرسالة التي أرسلتها أو عدد المرات التي تم النقر فيها على الروابط التي احتوتها باستخدام خدمة Banana Tag، ولا يقتصر الأمر على على مثل هذه الخدمات، فيكفيك أن تبحث على Google عن إضافات Gmail أو Outlook لتجد ما يقر عينيك من إضافات تزيد من مردوديتك لدى استخدامك لبريدك الإلكتروني.
يُمكن أيضا أن نستشف حقيقة الإمكانيات الخفية التي لم تكشف عنها بعد خدمات البريد الإلكتروني من خلال متابعة ما تدخله Google من تحسينات على خدمة Gmail خاصة ما تعلق منها بترشيح الرسائل حسب نوعيتها إضافة إلى التحسينات (رغم الانتقادات التي وُجهت إليها) فيما يخص واجهة تحرير الرسائل الجديدة. نفس الأمر نلاحظه على مُعسكر Microsoft والتي أدخلت تحسينات كبيرة على خدمة البريد الإلكتروني خاصتها والتي أعادت تسميتها إلى outlook.com، والتي ربطتها أيضًا بالعديد من الخدمات التي تُقدمها لتضيف إليها مزيدًا من الجاذبية مقارنة بمنافسيها.
خلاصة القول، البريد الإلكتروني ليس أكبر شبكة اجتماعية فحسب، وإنما يُعتبر أحد أعمدة الإنترنت الذي لن تسهل إزاحته أو التهام حصة من سوقه، وهو أمر من شأنه أن يدوم لسنين أطول مما نتصور خاصة في ظل المستقبل الزاهر الذي ينتظره والذي لم يُكشف لنا منه إلى حد الساعة سوى جزء يسير منه. إن كان استخدام الشبكات الاجتماعية في تزايد مستمر فيبقى تهديدها محدودًا نسبيًا، حيث أن تطور هذه الشبكات أقرب ما يكون بتطور دول منفصلة بعضها عن بعض، قد تزداد قوة دولة أو مجموعة دول، لكن سيبقى سكانها في معزل عن سكان دول أخرى ما لم يقوموا بالتواصل فيما بينهم عبر المياه والأجواء الدولية (البريد الإلكتروني).