نظرية الأخلاق في كتاب «المقصد الأسنى» للغزالي

من المعلوم باستقْراء النصوص الشرعية، وبمِطالعة كلام العلماء من شتَّى المذاهب والخلفيات الفكرية، أن باب أسماء الله وصفاته يقع في المركز من النموذج المعرفي الإسلامي. وهذا الباب الذي أُقيمت حوله في مسائل الإلهيات كثير من المناقشات والسِّجالات الكلامية، يعد من ناحيةٍ أخرى أساسًا تربويًا عقائديًا أصيلاً. فالحاصل أنه قد أبان عن أولويَّته باسطًا جناحيه على مجالي العقيدة: أعني غرس العقيدة، ودرس العقيدة.

ويأتي كتاب «المقصد الأسنى» للإمام أبي حامد الغزالي (505ه‍) ليبيِّن لنا كيف يُستثمَر هذا الباب ويتم تحويله من معلومات نظرية إلى ممارسات عملية، ومبادئ أخلاقية ملموسة، ويضع لذلك عنوانا هو «التخلق بأخلاق الله تعالى» أو التحلي بمعاني صفاته وأسمائه بقدر ما يُتصوَّر في حق العبد.

جدير بالذكر أن هذه الرسالة التي صنَّفها حجةُ الإسلام الغزالي هي رسالة جامعة في شرح معاني الأسماء الحسنى، وهو يمهِّد لها بعدة مداخل مهمة، فهو أولًا يُعرف إطلاقات: الاسم والمسمى والتسمية، وهل هي راجعة إلى شيء واحد أوْ لا، وبعد هذا التحقيق اللفظي، يطرح سؤالًا آخر وهو هل تتعدد مفهومات الأسماء بتعدد الأسماء؟ أم يجوز أن يشترك أكثرُ من اسم في الدلالة على المعنى الواحد؟ كذلك يتناول الاسم المُشترك الذي يحمل أكثر من معنى. وفي نهاية الكتاب يناقش بعض المسائل من قبيل: ثبوت الأسماء والصفات، هل هو بطريق التوقيف -أي ورود النص الشرعي به- أم بطريق العقل؟ إلى غير ذلك. 

كيف يكون التخلق بأخلاق الله وصفاته في حق الإنسان؟

نظرية الأخلاق في كتاب "المقصد الأسنى" للغزالي

في الفصل الرابع من المقدمات يعالج الإمام الغزالي هذا المطلب، حيث يوضح أن هناك درجات في معرفة الإنسان وإدراكه لأسماء الله عز وجل، وأن مجرد سماع لفظها والتصديق بها: نقصٌ ظاهر بالنسبة إلى من يطلب الترقي في مدارج الكمال، فسماع اللفظ لا يتطلب غير سلامة الحاسة، وفهم دلالة اللفظ ووضعه لا يتطلب غير معرفة اللغة، واعتقاد ثبوت معناه لله لا يتطلب غيرَ فهمِ وتصوُّرِ معنى اللفظ ثم التصديق بهذه النسبة، وهذه رتبة تحصل لكل أحد.

  أما ما تتعلق به الأفضلية حقا فثلاث مراتب، الأولى: هي مشاهدة الإنسان ومكاشفته لآثار هذه الكمالات الإلهية بنفسه وأن لا يكون المعول عليه في معرفته لها التلقين والتقليد. والثانية: أن يستعظم القلب هذه المعاني ويستشرفها بما يجعله يتشوق للاتصاف بقدر ما يمكن له من تلك الصفات، ويتطلب هذا أن يكون القلب منصرفًا عن الشواغل الحسية والاستغراق بالشهوات. والثالثة: هي «السعي في اكتساب الممكن من تلك الصفات والتخلق بها».

ولأول وهْلة قد يستنكر القارئ هذا القدر ولا بأس «فإن هذا كالمُنكر عند الأكثرين إن لم تعرف حقيقته». فما معنى هذا السعي والخالق منزَّه عن أن يشابهه مخلوق أو ينازعه في صفة له؟

يجيب الغزالي -رحمه الله- بأن الموجودات تنقسم إلى الكامل والناقص، فنقص المخلوق ثابت؛ وعليه لا يكون كماله إلا إضافيًا، ولا تجوز مقارنته بالكمال المطلق للخالق. فليس معنى طلبه للقرب والعلو متضمنًا ذلك الوهم؛ فالفارق جوهري، حيث تختلف حقيقة الصفة في الحالتين. 

 «فكون العبد رحيمًا، صبورًا، شكورًا، لا يوجب المماثلة، ككونه سميعًا بصيرًا عالمًا حيًّا فاعلا؛ بل أقول الخاصية الإلهية ليست إلا لله تعالى ولا يعرفها إلا الله ..». فهذه الخاصية الإلهية يمتنِع عند التسليم بها تصور المماثلة في الصفات. 

  ويتضح المقصود أكثر مع التفصيل، حيث إن هناك من معاني الأوصاف ما يُتصوَّر تخلُّق الإنسان على وفقه، وهناك منها ما لا يتصور تخلقه به إلا على سبيل مقابلته بخلق أو معاملة من نوع آخر. فنجد المُصنف بعد بيان كل اسم يُذيل بالتنبيه على مدخل العبد فيه من حيث التخلُق.

 ويعود ليؤكد رفع هذا اللبس الذي قد يُتوهَّم، فيوضح العبارة التي تداولتها الصوفية بأن الأسماء الحسنى: «تصيرُ أوصافًا للعبد السالك»، بأنه «يثبت للعبد من هذه الصفات أمور تناسبها على الجملة وتشاركها في الاسم، ولكن لا تماثلها مماثلة تامة». ثم يأتي على معاني الحلول والاتحاد ليقوِّضها ويبين بطلانها، ويستطرد في رفع الإشكالات التي قد ترد بسبب الاستعمالات المجازية التي قد تُتوهم منها هذه المعاني الباطلة.

  وبقراءة كلام الغزالي رحمه الله، وباعتبار الآثار التي تم تداولها في هذا الباب، يمكننا أن نقدِّر حجم أهمية هذه القضية في التصور الأخلاقي الإسلامي؛ إضافة إلى هذا نجد أيضا -من كبار الفقهاء- العز بن عبد السلام يجدد هذا الطرح فيما بعد، في كتابه: «شجرة المعارف والأحوال» فيتحدث عن: «التخلق بصفات الرحمن حسب الإمكان» وعن كيفية هذا التخلق، وما يصح التخلق به من الصفات وما لا يصح، كيف لا وهو يصور المعرفة بأنها شجرة ثمرتها الأحوال والأقوال والأعمال.

وهذا كله يؤدِّينا إلى أن مفهوم الألوهية بما يستجْمعه من كمالات الأوصاف هو المثال الذي تنْبني على المعرفة المتعلقة به، وبالأخص المعرفة التي تحصل عن مشاهدة تجليات هذه الحكمة الإلهية في مظاهر الخلق والتدبير الإلهيين -وليس مجرد المعرفة التلقينية-: تنبني عليها مبادئ الفضيلة العملية بالنسبة للإنسان، فيتتبع المؤمن هذه الصفات بالمعاملة/الممارسة الأخلاقية العملية التي تليق بالإيمان بها. وهذا يؤدينا أيضا إلى إدراك أولوية التحقق بهذا السلوك الأخلاقي، لأنه يرتبط ارتباطًا وثيقًا بمعرفة الله التي هي أول واجب على المكلف. وهنا نجد القوة الإلزامية التي ترتبط بالمبدأ الأخلاقي.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى