المسار المضطرب للمحكمة الجنائية الدولية.. أهواء شخصية وضغوطات سياسية

في زيارة تاريخية حافلة بالجدل إلى إسرائيل والأراضي الفلسطينية المحتلة، وجد المُدّعي العام للمحكمة الجنائية الدولية، (كريم خان)، نفسه في مواجهة انتقادات متصاعدة من الفلسطينيين والمراقبين الدوليين، الذين يشككون في حياد المحكمة ونزاهتها. جاءت الزيارة بناءً على طلب عائلات الرهائن الإسرائيليين المحتجزين لدى حركة حماس، مما جعلها الأولى من نوعها التي يقوم بها مدعٍ عام للمحكمة الجنائية الدولية إلى إسرائيل، وسلطت الأضواء على ادعاءات بأن جهود التحقيق التي تقودها المحكمة قد تحمل أجندات سياسية خفية.

خلال الزيارة التي استغرقت ثلاثة أيام، قام (خان) بجولة في المناطق الإسرائيلية التي تأثرت بهجمات السابع من أكتوبر، حيث استمع إلى شهادات من الناجين وعبّر عن تعاطفه، مؤكدًا على أن هؤلاء الأفراد لا يحتاجون إلى «التعاطف فحسب، بل إلى العمل». وقد أشار في ملاحظاته إلى مشاهد من الوحشية بدت مُتقصّدة، وخلص إلى أن هذه الجرائم ترقى، على الأرجح، إلى انتهاكات خطيرة للقانون الدولي، مؤكدًا عزمه على مقاضاة المسؤولين عنها. 

كريم خان رئيس المحكمة الجنائية الدولية في فلسطين المحتلة

وبعد عودته، أصدر (خان) بيانًا علنيًا وصف فيه هجمات السابع من أكتوبر بأنها جرائم تهز ضمير الإنسانية، مؤكدًا على التزام المحكمة بتقديم مرتكبي هذه الفظائع إلى العدالة. كما تهرب من المسؤولية المُناطة به كمدعٍ عام للمحكمة الجنائية الدولية بوصفه الزيارة بأنها ليست ذات طابع تحقيق رسمي، الأمر الذي عمّق من خيبة الأمل لدى الفلسطينيين. فبدلاً من الإشارة إلى تحقيق كامل في الانتهاكات المزعومة في الضفة الغربية وغزة، أبرز (خان) تعقيدات القتال في المناطق المكتظة بالسكان في غزة، مشددًا على أهمية «الامتثال لقوانين الحرب» وضرورة إجراء تحقيقات مستقلة في الانتهاكات الموثوقة. ومع ذلك، تجنّب المدعي العام اتخاذ موقف حازم من القصف الإسرائيلي ودعا إسرائيل إلى التزام ما أسماه «التمييز والاحتياط والتناسب» في عملياتها العسكرية، في حين أن رد فعله على هجمات حماس كان سريعًا، ووصفها، في تناقض صارخ، بالجرائم الدولية الخطيرة.

ومع أن هذه الزيارة فتحت فصلًا جديدًا في تعامل المحكمة الجنائية الدولية مع إسرائيل، إلا أنها أثارت مخاوف عميقة لدى الفلسطينيين حول احتمالات التحيز والتفريق بين الضحية والجلاد. فمع تركيز (خان) الحصري على شهادات الإسرائيليين، رفضت جماعات حقوق الإنسان الفلسطينية الاجتماع معه، مشيرة إلى أن تصرفاته تعكس انحيازًا لصالح رواية إسرائيل للأحداث. إذ أكد رئيس الهيئة الفلسطينية المستقلة لحقوق الإنسان على هذا الإحساس بقوله: «إن الطريقة التي تم التعامل بها مع هذه الزيارة تُظهر أن السيد (خان) لا يقوم بعمله بشكل مستقل ومهني».

وقد خيّب (خان) الآمال الفلسطينية بإحجامه عن زيارة المواقع الفلسطينية الحساسة أو الالتقاء بالعائلات والضحايا الفلسطينيين. وخلال اجتماع قصير في رام الله، عبّر الممثلون الفلسطينيون عن استيائهم مما اعتبروه نهجًا غير متوازن في الحكم بين الأطراف المَعنية. 

ويشير الفلسطينيون منذ زمن إلى أن النظام القضائي الإسرائيلي غالبًا ما يَغُض الطرف عن محاسبة قادته العسكريين والسياسيين على جرائم الحرب المزعومة، حيث تُواجه الشكاوى الفلسطينية ضد الجنود الإسرائيليين احتمالية نجاح تقل عن واحد في المئة، حسب المنظمة الإسرائيلية لحقوق الإنسان. وهذه المرة، كانت المحكمة الجنائية الدولية تمثل بارقة أمل لمحاسبتهم، قبل انطفائها.

وعلى الرغم من أن السلطة الفلسطينية قد وسعت نطاق صلاحيات المحكمة ليشمل التحقيق في الجرائم التي تعود إلى عام 2014م، إلا أن خيبة الأمل تزداد بسبب عدم صدور أي مذكرات اعتقال بحق مسؤولين إسرائيليين حتى الآن. 

كريم خان مع محمود عباس

فقد عبّرت الفلسطينية (إيمان نافع)، عن استيائها من أن (خان) قضى معظم الاجتماع في الحديث ولم يعطِ فرصةً كافيةً للضحايا الفلسطينيين لمشاركة قصصهم. بدت زيارة (خان) لـ(إيمان)، التي يمضي زوجها الأسير أطول محكومية في إسرائيل، وكأنها حلقة أخرى من الدبلوماسية الرمزية الخالية من أي التزام جاد بمتابعة التحقيقات والنظر فيها.

لم تكن التساؤلات حول نزاهة المحكمة الجنائية الدولية جديدة، بيد أن هذه الزيارة الأخيرة أثارت قلقًا إضافيًا حول مدى تأثّر عملية صنع القرار في المحكمة بالقوى السياسية العالمية. وقد أشار المراقبون إلى قرارات سابقة لـ(خان)، مثل: إيقاف التحقيقات المتعلقة بالقوات الأمريكية في أفغانستان والتركيز فقط على أنشطة طالبان وتنظيم داعش في خُراسان، كأمثلة على هذا النهج الانتقائي. 

ووفقًا للمنتقدين، فإن تراجع (خان) عن التحقيق مع القوات الأمريكية جاء بعد عقوبات فرضتها واشنطن على سلفه بسبب متابعة تلك التحقيقات. ففي هذا الصدد، أشارت باحثة قانونية فلسطينية إلى أن النظام القانوني الدولي أصبح متهاوٍ برمته، معربة عن قلقها من أنّ تَعامل المحكمة مع المسؤولين الإسرائيليين يبدو فاترًا مقارنة بالسرعة التي أصدرت فيها لوائح الاتهام بحق قادة دول أخرى. ففي مارس الماضي، أصدر (خان) مذكرة اعتقال بحق الرئيس الروسي (فلاديمير بوتين) بتهمة ارتكاب جرائم حرب في أوكرانيا، وهو ما فسره البعض بأنه انعكاس للنفوذ الغربي.

أما في زيارته الأخيرة، فقد اعتبر مراقبون آخرون أن التردد في التحقيق بعمق في الإجراءات الإسرائيلية يُبرز ازدواجية معايير المحكمة. ووصفوها بأنها مؤسسة تتحرك وِفق المصالح السياسية للدول الغربية القوية، لا وِفق المبادئ القانونية الصارمة، وهذا الموقف يعمّق الشكوك حول قدرة المحكمة على محاسبة القوات الإسرائيلية على جرائمها المتكررة.

خلاصة الأمر أن (خان) عُرف عنه سابقًا تمسكه بموقف الحياد في النزاعات وتعهده المستمر بإجراء تحقيقات عادلة، أما اليوم فيُعرف عنه التقلب المستمر في الآراء وِفق الأهواء الشخصية، إذ رغم موقفه المؤيد نسبيًا لإسرائيل وتردده في اتخاذ إجراءات ضد المسؤولين الإسرائيليين، إلا أن ما حصل مؤخرًا أثار زوبعة إعلامية حوله مجددًا. حيث بدا أكثر صرامة مع المسؤولين الإسرائيليين وخصوصًا (نتنياهو) و(غالانت) في أعقاب اتهامات بالتحرش الجنسي وجهت له مؤخرًا. ويرى البعض أن هذا التحوّل ربما يعكس محاولة منه للفت الأنظار بعيدًا عن شؤونه الشخصية وكسب التأييد والتعاطف. وقد أثار هذا التغيير مرة أخرى موجة من الشكوك في أوساط منتقديه، إذ يؤكد هذا التغيير في آرائه على أن الأولويات القانونية في المحكمة تتشكل عادةً بفعل الضغوط الخارجية أكثر من التزامها النزيه بمسار العدالة وتحقيقها.

هذا المقال جَمَع مقتطفات من أربعة مقالات مختلفة كلها عن موضوع واحد وجعلهم في مقال واحد وهي الموجودة في المراجع، والآراء الواردة أعلاه تعبّر عن كُتّاب المقالات الأصلية ولا تُعبّر بالضرورة عن تبيان.

المراجع

A Mess at the International Criminal Court

Who is ICC chief prosecutor Karim Khan, and why is he out to get Israel?

‘Alarming’: Palestinians accuse ICC prosecutor of bias after Israel visit.

ICC chief prosecutor meets with Oct. 7 survivors in Israel, PA president.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى