قصَّة سجدة سجدها مصطفى محمود
الأستاذ مصطفى محمود واحد من أكثر الدُّعاة تأثيرًا في المَشهد الإسلاميّ منذ عقود حتى اللحظة. فقد توفَّر للرجُل ما لمْ يتوفَّر لغيره؛ برنامج في التلفاز حمل اسم “العِلم والإيمان” من أشهر البرامج إطلاقًا والذي كان محطّ النَّظر في العالَم العربيّ وما زالتْ حلقاتُه تُشاهَد على موقع “يوتيوب” مُجزَّأةً أو كاملةً. كما كان في أوَّل صفّ المُؤلِّفين المُسلمين مَبيعًا للكُتُب التي أصدر منها أكثر من ثمانين كتابًا، ولا تزال هذه الكُتُب مُنتشرةً ورائجةً بل تتنافس عليها دُور النَّشر في اكتساب الحقوق. كما كان له تأثير مُجتمعيّ من خلال إسهامه في مشروعات خيريَّة منها مُؤسَّسته الخاصَّة التي تضمّ مسجدًا ومشفى وأمورًا أخرى. هذا غير علاقات واسعة للطبيب مع كافَّة أوساط المُجتمع.
تقييم إجماليّ لكتابات مصطفى محمود
تحوَّلتْ على الرجل الكثيرُ من المراحل الفكريَّة من الشُّكوك إلى التديُّن إلى التصوُّف إلى الإغراق فيه. ولا شكَّ أنَّ تقييم إنتاجه لا يمكن إجماله؛ فلا يمكن القول بأنَّه خطأ كليَّةً أو صواب كليَّةً. لكنْ من المُؤكِّد أيضًا أنَّ الرجل لمْ يكن من أهل العِلم، وأنَّ فكره لمْ يكُنْ مُنضبطًا بل كثيرًا ما تسرَّب من حديثه الوهم والظنّ على أنَّه فكر مُنضبط. ولأنَّه لمْ يكُن من أهل العِلم فهناك أوهام بدورها دخلت عليه ورآها حقًّا وهي مَحض وهم. وأغلب إنتاجه يأتي في شكل خواطر مُسترسلة قد لا تتصف بالمنهج اللازم للوصول إلى فكر مُنضبط أو حُكم مُستقصٍ صحيح. لكنَّه ذو موهبة ومهارة في الاقتراب من القارئ ومُلامسته لفكره وشعوره، وهو أيضًا رجل أحسبه على خير وأنَّه أراد الخير.
وبالقطع الخطأ الأكبر في التعامُل مع مصطفى محمود هو التوحيد بين عِظم شُهرته وبين صحَّة مُؤلَّفاته؛ فليس كلُّ مُشتَهَر صحيحًا. وكذلك نوعيَّة القارئين لمُؤلَّفاته -الذين هُم في الغالب شباب أو غير مُحترفي القراءة-، هذه النوعيَّة تُستقطب لمُؤلَّفاته بسبب أسلوبه السلس الشائق المُسترسل، وبسبب بعض الموضوعات التي يقبل القارئ عليها ليعرف عنها أكثر. وفي الأخير فيجب فقط التدقيق عند القراءة -للجميع وليس لشخص دون آخر- فصناعة ذهن نابِه هي إحدى أعظم الفوائد التي يجب أنْ يعمل على اكتسابها وتنميتها كلّ شخص.
لماذا هذه القصَّة؟
وقد اخترت هنا مقالاً من ألطف ما كتب. اسم المقال “وسألتُ نفسي” من كتابه “السؤال الحائر” -وهو من الكتب التي جمعتْ مقالاته-. قد قرأت هذا الكتاب منذ زمن لكنَّ هذا المقال لمْ يبرح ذاكرتي. ولعلَّ السبب في عدم زواله منها هو ما يتمتع به المقال من قوَّة معنويَّة وقوَّة تعبيريَّة.
إنَّ كلمات مصطفى محمود في هذا المقال -والتي صاغها في أربع صفحات فقط- سرعان ما تدخل إلى قلبك وتغلغل فيه، وسرعان ما تحسُّ فيها آمالك الإيمانيَّة التي كانت في خيالك تحضر مرَّةً أخرى، وسرعان ما تتألَّق فيك رُوح الإيمان والسعادة من أثرها، وتشعر بيقين جميل يحلُّ في نفسك فلا يتركك إلا وأنت هادئ النَّفس مُستريح البال.
بل قد يُدفِئُ نفسك ويُهدهِدُها برَوِيَّة وتمهُّل فتجد في نفسك وقر السَّلام معنًى حقيقيًّا لا كلمةً وحسب. إنَّها كلمات تحيي الأمل الإيمانيّ بداخلك وتصوِّر لك حلاوة اليقين بالله. هذا وستذكر في صُحبتها الآية الكريمة (الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللَّهِ ۗ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ) -الرعد 28-.
قصَّة سجدة من عشرين عامًا
سأل مصطفى محمود نفسه عن أسعد لحظة عاشها في حياته. والرجل حياته مليئة بالنجاحات الباهرة والإخفاقات أيضًا، أيْ أنَّها حياة حاشدة باللحظات التي تستحقّ الذِّكر. أهي اللحظة التي رأى فيها أوَّل نشرٍ له -وهي لحظة غامرة بالسعادة يشعر بها كلّ كاتب ويكاد لا ينساها-؟ أهي اللحظة التي تخرَّج فيها في كليَّة الطّبِّ؟ أهي اللحظة التي تقاضى فيها أوَّل ألف جنيه -وهذا مبلغ ضخم ساعتها بلا شكّ-؟ أهي اللحظة التي خرج فيها إلى الدُّنيا العامرة بالمُفاجآت وبدأ رحلاته -وقد سافر طويلاً وكتب عدَّة مُؤلَّفات في رحلاته-؟
ولو لاحظنا سويًّا في محاولات إجاباته سنجد أنَّ جميعها تتعلَّق بـ”أوَّل” مرَّة. وهذا طبيعيّ فللمرَّة الأولى في حياة الإنسان سحر آسر يكاد لا يتصوَّر أيَّ أمر بعدها إلا من خلال نافذة “المرَّة الأولى” والتجربة الأولى التي اطلع منها على الشيء. وسنلاحظ أيضًا أنَّ جميع محاولات إجاباته تتعلَّق بأشياء ماديَّة وهذه بدورها تأتي في ذهن الإنسان أوَّلاً قبل غيرها؛ لشدَّة تأثيرها في الإنسان، ولحضورها في ذهنه دومًا.
لكنَّ صاحب القصَّة أنكر كلَّ محاولات إجابته هذه ورآها غير مُستحقَّة أن تكون لحظة السعادة الغامرة. وعندما أنكر هذه الإجابات السريعة أتته الإجابة الأعمق. يقول: استعرضت كلَّ هذه المَشاهد وقلتُ في سِرِّي: لا ليست هذه، بل هي لحظة أخرى .. ذاتَ مساءٍ من عشرين عامًا سجَدتُ لله سجدةً”. فما كانت هذه السجدة التي استحقَّت هذا الاستيلاء على كيانه؟
وصف مصطفى محمود للسجدة
لا أجد أصدق من كلمات صاحب التجربة للتعبير عنها. يقول في وصفه لتلك السجدة:
فشعرت أنَّ كلَّ شيءٍ في بدني يسجد؛ عظامي تسجد، أحشائي تسجد، عقلي يسجد، ضميري يسجد، رُوحي تسجد.
وهذا يذكِّرنا بوصف الرسول -صلَّى الله عليه وسلَّم- في “صحيح مُسلم” للصلاة بقوله: “الصلاة نور”، وللسجود بقوله “أقربُ مَا يَكونُ العبْدُ مِن ربِّهِ وَهَو ساجدٌ، فَأَكثِرُوا الدُّعاءَ”. فماذا فعل نور القُرب في قلب مصطفى محمود؟
يقول: “حينها سَكَتْ داخلي القلقُ، وكَفَّ الاحتجاجُ .. ورأيتُ الحِكمةَ في الابتلاءِ فارتضيتُه، ورأيتُ كُلَّ فعلِ الله خيرًا، وكُلَّ تصريفِهِ عَدلاً، وكُلَّ قَضائِهِ رَحمةً، وكُلَّ بلائِهِ حُبًّا.. لحظتَها أحسستُ وأنا أسجد أنِّيْ أعود إلى وطني الحقيقيّ الذي جئت منه.. أدركتُ هُوِّيَّتِي وانتسابي؛ وعَرَفْتُ مَن أنا.. وأنَّه لا أنا.. بل هو، ولا غيره”.
هذا ما فعله “نور الصلاة” وأحدثه الاقتراب من ربّ العالَمِين -سبحانه وتعالى-. ولا يحتاج الحديث إلى زيادة؛ فما قاله المُؤلف بكلماته هو وصف بديع واصل بنفسه إلى كلّ قلب. لكنْ هنا ننوِّه إلى آخر جُملة وهي: “وعَرَفْتُ مَن أنا.. وأنه لا أنا.. بل هو، ولا غيره” فإنَّها جُملة لها الكثير من التوجيهات في المعنى -أيْ تحمل الكثير من المعاني- لكنَّ معناها الصالح يدور حول أنَّه لا أنا الإله -القصد هنا هو الإنسان يغترُّ بنفسه فينسى أنَّه عبد- بل الله هو الإله وحده لا شريك له. وأنوِّه إلى أنَّها تشير إلى مذهب تصوُّفيّ فلسفيّ يُدعى “وحدة الوجود” وهذا معنى غير صالح ولا يمتُّ للإسلام بصلة. ولكنْ إذا اقتضى اللفظ معاني فلنحمل الكلام على صالح معانيه.
آثار السجدة على مصطفى محمود
لمْ يتوقَّفْ شعور تلك اللحظة الحاشدة بالمعاني عند هذا الحدّ؛ فشعور القُرب من الخالق أكثر الشعورات إلهامًا واستقرارًا في نفس العبد؛ ولهذا أتتْ الأحاديث الآيات تحثُّ كلَّ مُؤمن على الصلاة وتعدُّها عِماد الدين كلّه، استحقَّتْ عمادة الدين من كونها لُبَّ القُرب والدُّنوّ من “الله” -عزَّ وجلَّ-. ولهذا أمَرَ الرسول بالتقوى فقال في خُطبة الوداع: “اتَّقوا الله، وصَلُّوْا خَمْسَكم” -رواه الترمذيّ-، ولهذا قال عن الصلاة “مَن حافَظَ عليها كانت له نورًا وبُرهانًا ونَجاةً يوم القيامة” -مسند الإمام أحمد-.
وإذا أردنا أنْ نعرف تجربة مُسلم مع سجدة واحدة في الصلاة فلنستمع إلى أخينا مصطفى محمود وهي يصف سجدته بقوله: “انتهى الكِبرُ، وتبخَّر العِنادُ، وسَكَنَ التمرُّدُ، وانجابَتْ غشاواتُ الظُّلمة.. وكأنَّما كنتُ أختنق تحت الماء ثُمَّ أخرجتُ رأسي فجأةً من اللُّجَّة لأرى النورَ وأشاهدَ الدنيا، وآخذَ شهيقًا عميقًا وأتنفَّسَ بحُرِّيَّة وانطلاق.. وأيَّ حُرِّيَّة، وأيَّ انطلاق! يا إلهي.. لكأنَّما كنتُ مُبعَدًا مَنفيًّا مَطرودًا أو سجينًا مُكبَّلًا مُعتقلًا في الأصفاد ثُمَّ فُكَّ سِجني.. وكأنَّما كنتُ أدور كالدَّابة على عينيها حِجاب، ثُمَّ رُفِعَ الحِجاب عنها فأبصرت”.
ثُمَّ أفاض في فكرة الحُرِّيَّة التي تحققها العبادة الحقَّة فقال: “نعمْ.. لحظتَها فقط تحررتُ، نعم.. تلك كانتْ الحُرِّيَّة الحقَّة؛ حينما بلغت غاية العبوديَّة لله، وفكَكْتُ عنْ يديَّ القيود التي تُقيِّدني بالدنيا وآلهتها المُزيَّفة؛ المال والمَجد والشُّهرة والجاه والسُّلطة واللَّذَّة والغَلَبة والقوة”.
وآخر ثمرات تجربته يُلخِّصها في قوله: “شعرتُ أنِّي لمْ أعُد مُحتاجًا لأحدٍ ولا لشيءٍ؛ لأنِّي أصبحتُ في كَنَف مَلِك المُلُوك الذي يملك كلَّ شيء .. كنت كفَرخْ الطَّيْر الذي عاد إلى حُضنِ أمِّهِ .. ولقد عرفت آنذاك أنَّ تلك هي السَّعادة الحقَّة، وتلك هي جنَّة الأرض التي لا يساويها أيُّ كسب ماديٍّ أو مَعنويٍّ”.
هذا هو “خُشُوع الإيمان” الذي يصفه صاحب الكتاب القيِّم “الرُّوْح” “ابن قَيِّم الجَوْزِيَّة” بقوله: “خشوع الإيمان هو خشوع القلب لله بالتعظيم والإجلال والوقار والمَهابة والحياء؛ فينكسر القلب لله كسرةً مُلتَئمةً من الوَجَل والخجل والحُبِّ والحياء … فالخاشع لله عبدٌ قد خمدتْ نيرانُ شهوته وسكَنَ دُخانُها عنْ صدره؛ فانجلى الصَّدرُ وأشرقَ فيه نورُ العظمة فماتتْ شهوات النَّفس، وخمدَتْ الجَوارحُ وتوقَّرَ القلبُ واطمأنَّ إلى اللهِ وذِكره بالسكينة التي نزلت عليه من ربه”.
كيف نصل إلى هذه الدرجة
فهذه هي الصلاة حقًّا، وهذا هو السجود بمعناه الكامل، وهكذا يجب أن نمارس عبادتنا التي “تصِلُنا” بالله -تعالى- بالطريق الذي وصف. وقد أكمل مصطفى محمود ليدلَّ غيره على طريق الوصول إلى هذه الدرجة من التجرُّد والخلوص فقال: “يقول الله -سبحانه وتعالى- لنبيِّه -عليه الصلاة والسلام- (وَاسْجُدْ وَاقْتَرِب) -العَلَق 19-. وما كلُّ ساجدٍ بمُقتربٍ إلا إذا خلع النَّعلَيْنِ؛ فألقى بالدُّنيا وراءَه، ثُمَّ ألقى بنفسه خلفها، ودخل مُسَلِّمَ القلب، عُريانَ المَشاعر، خاشِعَ الفُؤاد، ساجد الأعضاء.. حينئذٍ يكون القُربُ، وتكون السَّجدة”.
ونذكر هنا قوله -تعالى- (فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُن مِّنَ السَّاجِدِينَ)، ثُمَّ الآية التي تليها التي ختمتْ السورة (وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّىٰ يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ) -الحِجر 99،98- والآيتان في طمأنة الرسول -صلَّى الله عليه وسلَّم- بالصلاة والقُرب من الله.
تمنِّي مصطفى محمود تكرار السجدة
لكنَّ هذه اللحظة الفريدة لمْ تعد له بعدها. قد يكون عاش لحظات مُقاربة لكنَّها لمْ تكُن بهذا التألُّق البالغ الذي وصفه. وقد حاول تعليل الأمر من أصل الموضوع فقال:
فما تأتي تلك اللحظاتُ بجهد العبد بل بفضل الرَّبّ… وما نتعرَّف عليه إلا به، وما نعبده لحظةَ تمام العبادة إلا بمَعونته، وما ندخل إليه إلا بإذنه؛ فهو العزيز المَنيع الجِناب الذي لا يُدخَل إليه بالدَّعاوَىْ والأقاويل.
وهذا يُذكِّرنا بالحديث المُتفق عليه الذي فيه: (إذا تقرَّبَ العبدُ إليَّ شِبرًا تقرَّبتُ إليْهِ ذِراعًا، وإذا تقرَّبَ مِنِّي ذِراعًا تقرَّبتُ مِنه باعًا، وإذا أتاني مَشيًا أتيتُه هَرْوَلةً).
وراح يصف حاله في التمنِّي قائلاً: “ولَكَم أتمنى أنْ أعاوِد تلك السجدة، أو تعاودَني تلك السجدة. ويتفضَّل عليَّ الله بالقُرب، ويأذن لي بالعبادة حقَّ العبادة.. وأقول في نفسي أحيانًا: لعلِّيْ لمْ أعُد أخلَعُ النَّعليْنِ كما يجب وكما يليق بجلال المقام الأسمَى، ولعلَّ الدُّنيا عادت فأخذتني في دوامتها، وعاد الحِجاب فانسدَلَ على العينَيْن، وعادتْ البشريَّة فناءَتْ بثِقلِها وكثافتها على النَّفس الكليلة.. ولكنِّيْ لا أكُفُّ عن الأمل، وأسألُ الله أنْ يشفع الأمل بالعمل.. سبحانَهُ وَسِعَتْ رحمتُهُ كُلَّ شيء”.
هذا يا أيُّها القارئ الكريم دعاء أخٍ قد واراه التراب منذ سنوات، وهذه تجربته. وها هو الله -تعالى- يسوق له في قبره مَن يُحيي تجربته وينشرها بين الناس؛ فلعلَّ الله -تعالى- قد أراد له الخير بهذه التذكرة النافعة؛ ولا يعلم أسراره أحدٌ. لكنَّ الذي يهمُّنا هو نصيحة أخينا لنا، ودعوته إيَّانا وقد أمدَّ الله في أعمارنا لنقرأ هذه السطور منه. وطالما قرأنا ووصلتنا التجربة فلا بُدَّ لله -تعالى- من حِكمة في وصولها إلينا. فهيَّا إلى القُرب وإلى حقّ العبادة لله الذي هو أحكم الحاكمين.
مرحبا
اولا الله يبارك باستاذ نجيب الرفاعي اللي مو خلاله انتبهت لوجودك
ثانيا الله يغفر للأستاذ ويكثر من أمثاله
ثالثا الله يبارك بكم
وبالتوفيق ????????