آيات الله.. ماذا تغرس في القلوب وجدانا وفكرا؟

من نعم الله على هذه الأمة تلك المحطات الموسمية التي يتزود منها الراكب بما يرتوي به طول العام وما يعيد إليه التوجه والقصد، فنحن حينا نستظل برحاب شهر مبارك ثم تهب علينا بعدها نسمات موسم آخر تتضاعف فيه الحسنات ويجرى فيه للمؤمن العابد نهر من الأجور العظيمة التي تغسل ما بنفسه من أدران وتزيح ما التصق بقلبه من صدأ الغفلة وطغيان الآفات المهلكة.

وأبرز ما يميز الشهر المبارك -الذي مضى- أنه شهر الاقتراب من كتاب الله والاغتراف من ينابيعه، وإن المسلم الذي يجعل له وردا من كلام ربه في شهر رمضان ليخرج بزاد يحمله إلى يومه فيعمل فيه بما فتح الله عليه وبما ألهمه من مفاتيح الصلاح والخير.

وإن كان لكل موسم ما يميزه من العمل الصالح المثمر إلا أن كتاب الله يبقى هو مورد الظمآن ودليل المسافر وواحة التلقي والفهم عن الله، وإن تلاوته بفهم وتدبر والقرب منه ليمنح صاحبه نفسا تتزكى وقلبا ينفتح من جديد.

وإنه ليعيد صياغة الأفكار والمفاهيم، ويعيد إلى النفس اتزانها بعدما شردت مع الزبد المتكاثر من حولها، وكادت أن تختنق تحت ركام الغثاء الذي غزا القلوب فأفسدها وحرّف وجهتها.

وإن مما يزيد المسلم ارتباطا بكتاب ربه ويجعل إقباله عليه إقبال المشتاق الظمآن أن يدرك أي مورد هو، وما الذي سيجنيه كلما اقترب منه وتزود به؟ فما الذي يخرج به قارئ القرآن في رمضان وفى أيام العشر وفى كل موسم رباني من موسم الخير إذا تلاه تلاوة فهم ووعى؟ 

دلائل الإيمان وبراهين التوحيد الخالص 

آيات الله وبراهين التوحيد

يمر تالي القرآن على دلائل الإيمان والتوحيد في كل سورة يقرؤها، فما يغادر سورة إلا وتطرق قلبه آيات البرهان الناصع الذي لا تملك معه العقول إنكارا، فتقر بها وتذعن وتذوب خشية وحياء من رب هذا الكون العظيم الذي لا تملك له العقول إدراكا ولا تتسع له فهما، بل يقصر الخيال عن التصور للكون المهيب من عرش وكرسي وسماوات وأراضين وعوالم وأمم وأكوان ومجرات، يدبرها جميعا، ويمسك بها ويقدر أقواتها وحيواتها وذراتها الملك القوي القادر، وتشير آياته إليها إشارات ويفتح لنا في كونه أسرارا يسيرة نرى بها مصداق ما قال سبحانه فيزداد اليقين ونعلم أنه الحق. 

وفي سياق الدلائل المبهرة، نجد تعريف الله بنفسه، الله الذي تعرفه الخلائق جميعا فطرة وحقيقة واقعة وإن أنكرتها نفوس المعرضين كبرا أو جهلا وهوى.

تأتي الآيات كالندى يترقرق حينا فيوقظ القلوب المتعبة ويمسح آثار سِنة الغفلة اليسيرة ويوجهها إلى النهوض بقلب حي يدرك اتساع هذا الكون وعظمة مدبره، وتأتي كالزلزلة في مواضع أُخر تَهز قلوبا طال نومها وتذكرها أن تطالع آثار هذا الملك العظيم، أن تنظر حولها في عجائب صنعه وإحكام تدبيره لتخشع، وأن تنظر في إعجاز كلمات ربها وثقلها لتخضع. 

تخبرنا الآيات عن مُنزّل الآيات، فيقشعر جلد الذي يُلقي سمعه ويشهد قلبه، فهذا الإله الذي تتوالى آياته الحسنى وصفاته وأفعاله في ثنايا الذكر الحكيم يحدثنا ويعلمنا ويزكينا، الرب الذي تعالت قدرته فلا يعجزها شيء وتكاملت عظمته فلا يعزب عنه شيء، وشملت رحمته كل شيء حتى من طغى ومن أعرض، أيليق بنا أن نحيد ولا نحسن التلقي والإصغاء وقبول الأمر؟ 

علوم النفس وفقه الحياة

وبينما يتعرف الإنسان على ربه من كلماته، فإنه يجد أنوارا كاشفة عن حقيقة نفسه كذلك، إن الآيات لا تخاطبه وتدله على مواطن صلاحه فحسب، بل إنها تضع يده على مفاتح تشغيله، إنها تفتح صدره وتشير له إلى كل خصيصة اختص بها، تَسِر إليه بما يجد في نفسه من شعور وما يتجمع في عقله من فكر، وما يدور في الذهن من تساؤل، ثم لا تترك له كل هذا حتى تبين له لم كان هذا وهل فيه من خير، وترشده إلى الأعلى والأولى والأصح.

يخبر القرآن تاليه بما يجب عليه، فإذا حدثته النفس الشرود أن له عذرا وأنه وأنه مثلما يفعل مع الناصح القريب أو البعيد، ومع مربيه أما وأبا كانا أو معلما حريصا، وجد الآيات تصدعه بخبيئة نفسه وتخبره بما يقف حائلا بينه وبين الامتثال.. لن يملك المنصت أن يقول هنا.. أنت لا تعرف أحوالي، أنت تقسو علي، أو أنت لا تفهمني.. فكل ذلك في حق القرآن منفي وغائب، ونفي النقص كمال اختصت به آيات الرحمن التي أنزلها على مواطن الألم ومواطن البعث والإحياء، أنزلها مطابقة لحياة هذا المخلوق، فلا يُشفى إلا بها ولا يزهر ويقف مستقيما إلا بها.

ولقد كانت الآيات في العصور الأولى كافية لأن يعرف الإنسان نفسه بما جبلت عليه من خير وشر، ويعرف ما لها وما عليها، فكان يستقي منها ويتعلم ويعلم، حتى صرنا إلى زمان قل اليقين بكلمات الخالق، فأصبحت معرفتنا بالنفس قائمة على تصورات وأفكار ودراسات وأبحاث يجريها من ألقوا كلام الله وراء ظهورهم، فكان الغالب على نتاجهم معرفة هزيلة لا تسمن من جوع، بل هي قائمة على ساق معوج سرعان ما يتكسر. فإذا عاد المؤمن يقرأ باسم ربه عن نفسه أدرك حقيقتها وغذّاها بما أنزل الله له شفاء وهدى ورحمة. 

دور القرآن في صلاح الأرض

ومما يقدمه القرآن منذ أول آياته، تعريف به، بوظيفته، بقيمته، بسبب نزوله، وبما تضمن من مقاصد وغايات حتى إذا انتبه القارئ وجد أنه في أفياء كتاب الله يجد كل شيء، يجد الهدى الذي يطلب، يجد الشفاء لقلبه والغذاء لروحه، يجد سكينة القلب وزكاة النفس، يجد الأحكام البينة الواضحة في كل شئون الحياة من اعتقاد وعبادة وأخلاق وتربية وتنظيم، مشمولة بمقاصدها التي تحثه على امتثالها والتطلع بشوق إلى ثمارها في صلاح نفسه وبيته ومجتمعه وأمته، بل وعالم الأرض جميعا. وكلما سار المتدبر في أنحاء القرآن، طالعته أوصاف القرآن تخبر عما اختص به وصفا وحكما، فهو النور وهو الكتاب المبين المفصل وهو الهدى والذكرى للمؤمنين، وغير ذلك من الأوصاف التي يتحقق أثرها وتظهر ثمرتها فيمن آمن به وتدبره وعمل بمقتضاه. 

وتذّكر الآيات قارئها أن فيها الكفاية، وأنها ذكر الأمة ومكانتها، فبها لا بغيرها تكون لها الخيرية وتشهد على الأمم.

ولا تكتفي الآيات ببيان ما جاءت به، بل ترسم خطا واصلا بين هذا الكتاب وما سبقه من كتب وشرائع لتقول للقارئ أن كتابك هو الكتاب حقا، جمع الله لك فيه الحق مما أنزل للأمم من قبلك، وجعلك وإياهم على طريق واحد، وفيه أكمل الشرائع، وتمام نعمة الهدى، وخلاصة العدل، ومنهج الحق الذي رضيه الله لعباده، فأي شرف أو عز يتطلع له المؤمن بعد ذلك، أليست تكفيه الآيات التي أنزلها عالم الغيب والشهادة؟ 

سنن الكون والحياة وتاريخ الأمم

تزخر آيات الله بسننه الكونية التي تقدم لمتلقيها أمانا من التردي إلى هاوية اليأس والقنوط وتجعله ينظر إلى سير الأحداث بقلب مبصر يرى فيها تقدير الله وآياته التي لا تتبدل.

وفي الآيات واقع حي خاضته أمم وقرون من قبل، يقرؤه قلب المؤمن، فلا يزيده إلا ثباتا ويقينا، فأي شيء مما مرت به الأمم لم ير مثله في عالم اليوم؟ 

يرى نوحا عليه السلام النبي الأول مذكرا وناصحا أمينا، ويرى ملأً مستكبرين يرون أنفسهم الأعلى قدرا ومكانة فلا يتورعون عن السخرية والاستهزاء والإيذاء، بل يتوارثونها، يحثون عليها ويجعلونها أصلا من أصولهم، ويخلف القوم أقواما، وفيهم الملأ وفيهم عوام يرون الحق فلا يرضون عنه بديلا، حتى يفصل الله بينهم. 

ويُبتلى قوم بالمال والقدرة، ويبتلى آخرون بسلطة يخضعون لها ولا يستجيبون للحق الصريح لما كانوا عليه من فسق وجهل. ومنهم من خالف الفطرة وانحط عن الحيوان البهيم، ومن جعل الإفساد والاعتداء والبطش عنوانا وسمة يُعرف بها، وقد اجتمعوا على رفض النذير والإنكار عليه والتعجب أن يكون لله الحق رسولا يبين لهم ما أراد خالقهم، وأن يكون له أمر وحكم في واقع حياتهم وتفاصيلها. 

أيٌ من ذلك لم تشهده الأرض في تاريخها الذي نقرأ أو واقعها الذي نعيش؟ وفي كل قصة يجد المؤمن عبرة وحكمة ومبدأ وبُشرى وسلوى وفكرة، يأخذ التالي للآيات من قصص الأقوام وأحكام الزمان الجارية ما يفقه به يومه وزمانه، ما يجعله مطمئنا إلى وعد ربه، ما يُعلّمه سُنة ربه، وما يصحح نظرته لما يمر به ولما يجري على الأرض من حوادث يتخبط في فهمها الناس ويختلفون في أثرها، بينما هو يرى السنن واحدة، والبشر على فطرة واحدة، والأفكار وإن تجددت فمبدأها واحد وأصولها النفسية ولوازمها لا تختلف على مر القرون. 

صناعة الوعي والبصيرة

آيات الله وصناعة الوعي

وإذا كان القرآن أساسه الهداية إلى طريق الله والموعظة وبيان ما يجب على العباد، فإن قارئه يجد في خضم ذلك وصفا للطريق المقابل الذي يدعو إليه الشيطان وبيانا لنهايته. وتأخذ الآيات تاليها في صعود وهبوط بين ترغيب وترهيب وتمثيل ووصف ونداء واستنكار واستحضار لمشاهد من عالم الغيب، فلا تغيب عنه تفصيلة مما ينبغي أن يعلمها لينجو ويجنب مزالق الخطر. 

يتعرف المؤمن من خلال كلمات ربه على وليه الحق، ثم يتعرف كذلك على عدوه وكيف ينصب له الشباك ويتتبعه ليأسره أو يضمه إلى جنده وحزبه، ومع رؤية النهاية الحق لكل حزب، يعرف المؤمن أين يقف، وفي أي طريق يجب أن يكون. 

وليس هذا البيان المفصل وحده هو ما يصل لعقله وقلبه، بل يعرفه ربه على حقيقة الألفاظ والمفاهيم والأنفس، يتعلم القارئ المنتبه ما لا يتعلمه من علوم الأرض وفي مدارسها العليا وكبرى جامعاتها، إذ يجد وصفا للنفاق وأهله وما يجرى في نفوس المتصفين به، ويجد تعريفا للفوز والخسارة والإيمان والصبر والحب والخوف والنعيم، وتقدم الآيات وصفا وتعريفات لحقيقة الدنيا ووظيفة المال وموقع الأهل والبنون، ويتبين له معنى السعادة ويعرف أين يجد منازلها ومن يتحصل عليها والأحق وصفا بها، كما يعرف من الأشقياء حقا، وكيف يتجنب طريقتهم.

وهكذا لا تنتهي رحلة القارئ اليقظ المتذكر بآيات ربه حتى يتشكل له وعي جديد، تهذبه الآيات، تصنع له بصرا جديدا وشعورا مختلفا، فإذا استمر في الترحال مع آيات الله، فإنه في كل مرة يترقى في الفهم وفي النظر وفي الشعور بما يجري حوله، بل في تركيبه كإنسان مؤمن له مورد يصلحه ويجدد فيه الحياة.

ولا يحيط بما حوى القرآن كلام بشر، وإنما هذه إضاءة سريعة لمن أحب أن يدخل إلى رياض القرآن، حاملا قلبه وعقله، يلتقط منها المواعظ والآيات ومنطلقات الأفكار والمشاعر ليجدد بها روح الإيمان التي بها يستجيب ويتحرك.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى