تفنيد أكذوبة «الفلسطيني الذي باع أرضه»
منذ ظهور الكيانِ المُحتلّ على الأراضي الفلسطينية، ظهرت أحاديث باطلة تتهم الفلسطينيين بالتفريط في أراضيهم وتسليمها المحتلَّ دون مقاومة، إما بالبيع أو المشاركة، لكن تلك الأقاويل -رغم شيوعها- حملت في طياتها الكثير من الافتراءات. وتِبْيانًا لذلك، سنستعرض في هذا المقال شرح عملية التمدد الصهيوني منذ القرن التاسع عشر حتى ظهور دولة إسرائيل.
بداية تملك اليهود للأراضي
منذ منتصف القرن التاسع عشر كان ثمة خمسمائة يهودي بطول المنطقة الممتدة بين تل القاضي في الشمال وبئر السبع في الجنوب، كانوا يعيشون في حالة فقر، أجبرت تلك الحالة الثريَّ البريطاني ورئيس الجالية اليهودية في لندن السير (موشي مونيفوري) على الذهاب إلي السلطات العثمانية، طالبًا منها تشييد عددٍ من الملاجيء لإغاثة اليهود، فحصل على ترخيص لإقامة 27 كوخًا خارج أسوار القدس القديمة، لتكون تلك الأكواخ نواة لإقامة أول حي سكني يهودي، ويمكّنه من تهجير عدد من يهود اليمن إلى القدس، كما تملّك أرضًا أقام عليها مستوطنة أسماها (موتسا تحتيت) عام 1864.
تصاعدت جهود الأثرياء اليهود لحيازة الأراضي الفلسطينية؛ إذ قام وزير العدل الفرنسي (إسحاق كريمييه) بتأْسيسِ جمعية (التحالف الإسرائيلي العالمي) التي نجحت بدورها في الحصول على «فرمان» من الدولة العثمانية يسمح لها باستئجار 642 فدَّانًا في يافا لمدة 99 عاما؛ لإقامة مدرسة زراعية لليهود تهدف إلى إكسابهم الخبرات الخاصة بإنشاء المستوطنات الزراعية، كما ساهمت عائلة (بيرجمان) الألمانية إذ حازت رخصة البنك الوحيد في فلسطين، الذي مثَّل السلطات العثمانية وبنوكًا لندنية، ما مكّنها من شراء (مزرعة أبو شوشة) التي قُدّرت مساحتها بخمسة آلاف فدان، نظير تسديد ضرائب مستحقة على أربعمائة من أهالي القرية.
تلك التحركات كانت تحت حماية الأنظمة الأوروبية، فكان (فيسكونت بالميرستون) رئيسُ الوزراء البريطاني من أشد المؤيدين لتوطين اليهود في فلسطين، لذا أصدر عام 1839 أوامره إلى أول قنصل بريطاني في القدس (وليام يونغ) بمنح اليهود في فلسطين الحماية لممتلكاتهم وأموالهم.
ونشط قناصل بريطانيا أيضا في مجال بيع الأراضي لليهود، فتدخل القنصل (تمبل مور) لتثبيت ملكية جمعية (مرسلي الكنيسة الإنكليزية في فلسطين)، التي كان من أهدافها معاونة اليهود على شراء الأراضي من مواطني فلسطين.
كما ساهم قناصل فرنسا بشراء أراض بأسمائهم، بحجة أن عددًا من الرعايا الفرنسيين في حاجة إلى أراض لإقامة مصالح اقتصادية وبناء كنائس عليها، ثم انتقلت تلك الأراضي إلى اليهود.
من ذلك ما فعله قنصل فرنسا في يافا (فليير)، عندما اشترى من الفلاحين سُدس قرية (الخضيرة)، وباعها لليهود في عام 1879، وهي الأراضي التي أصبحت بعد ذلك جزءا من مستوطنة (الخضيرة).
تغريب الفلاح عن أرضه
عملية تملُّك اليهود للأراضي مرَّت بعدة مراحل للوصول إلى شكلها النهائي، فقد كانت الفلسطينيون -تحت الحكم العثماني- مجتمعا قرويا، يقوم على الزراعة، وكان توزيع الأراضي بنظام المشاع حيث كانت الأراضي الزراعية داخل كل قرية يمتلكها الفلاحون من كل أبناء القرية، لكن هذا النظام ما لبث أن انتهى وتحول نظام الملكية إلى ملكية فردية مسجَّلة، لتسهيل عملية تحصيل الضريبة من الفلاح، لذا فتح هذا القانون المجال للأجانب للاستثمار في تملك الأراضي، لكنه قيَّد تلك الصلاحيات على اليهود بوضعه شرطًا أن يكون اليهودي من مواطني الدولة العثمانية، لكن مع وصول الانتداب البريطاني تم إلغاء قانون منع اليهود من التملك في فلسطين.
وكانت تلك التحركات محقِّقة تغريبَ الفلاح عن أرضه، فمع القوانين الجديدة للتملُّك عجز عدد كبير من الفلاحين عن تسجيل الأراضي؛ إما لغياب المال اللازم لتلك العملية أو للابتعاد عن التجنيد الإجباري حين يسجل الفلاح اسمه وعائلته، وفي استطلاع أقامته حكومة الانتداب سنة 1923 إلى تفقد أحوال المشاع. وعين المندوب السامي لجنة لدراسة نظام المشاع والسعي لتفكيكه.
كما أرسلت الحكومة عددًا من موظفيها إلى القرى لتزويد المزارعين بالإرشادات بهدف توجيه الفلاحين إلى أضمن الطرق المُتبعة لحل نظام المشاع. وأظهرت تقارير اللجنة أن 56% من قرى البلاد العاملة بنظام المشاع انخفضت إلى 46%.
سهَّلت تلك التعديلات على المستثمرين الأجانب والعرب تملك الأراضي والاستثمار فيها، ولأن المالك جديد ليس بينه وبين الأرض عاطفة أو تعلق كان سهلًا عليه بيع تلك الأراضي لليهود، الذين اشترطوا شراء أراضٍ خالية من الفلاحين بمقابل مادي مغرٍ، حتى عام 1890 كانت حوْزة اليهود من الأرض حوالي 24 ألف فدان لكنها مع عمليات الشراء من المستثمرين العرب بلغت 156 ألف فدان، منهم 12% فقط من صغار الفلاحين.1
حين يكون الفلاح في أمس الحاجة إلى النقد أو العين المساهمة في الزراعة (بذور، ماشية، أدوات) يتوجه له جيش من التجار يجوبون القرى بحجة تقديم الدعم المالي للفلاح مقابل رهن محصوله القادم بفائدة قدرها 3% إلى 5% في الشهر. أو بشراء المحصول كله مقابل نصفِ ثمنِه أو ثلثيْه.
وتتكرر هذه العملية سنويًا دون إعْطاء للفلاح فرصةً لالتقاط الأنفاس، فإضافةً إلى ديونه الأصلية تتراكم عليه ديون جديدة يقدمها هؤلاء بفائدة أعلى؛ تمهيدًا للاستيلاء على أرضه وحقله، فكان الفلاحون يفقدون كل حقوقهم في الأرض غير قادرين على الوفاء بالتزاماتهم الضريبية، أو على إرضاء المتطلبات الجشعة للمرابين.
قوانين الانتداب البريطاني
مهَّدت لذلك عدة تشريعات، منها قانون يُدعى «قانون حماية المزارعين من الطرد» صدر عام 1929، حيث يُمنع المالك عربيًا أو فلسطينيًا مِن طرد الفلاح حتى لو تأخَّر في سداد التزاماته، وهو ما يؤدي إلى تضرر المالك، فيتدخل سمسار الأرض اليهودي الذي يشتري الأرض من المالك. وهذا يُفسر سبب بيع كبار العائلات العربية أجزاء واسعة من أراضيها، كما كان الفلاح يدفع ضريبة جديدة فوق ضريبة العُشر التي ورثها البريطانيون من النظام العثماني، وفي أوقات الأزمات الاقتصادية مثل حقبة الكساد العالمي في نهاية العشرينيات، كان الفلاح يدفع قرابة 60% من دخله لحكومة الانتداب، فضلًا عما دفعه الفلسطينيون أثناء الحرب العالمية الأولى؛ حيث أسفرت عن ضياع قرابة 40% إلى 50% من الأشجار المثمرة، بعد قطعها واستعمالها وقودًا للمجهود الحربي.
حال الفلاح المغلوب على أمره، استغله الانتداب البريطاني، حين ألغى الإنجليز البنك الزراعي العثماني الذي كان يمنح الفلاحين قروضًا ميسرة، واستبدلوه ببنك (باركليز) البريطاني، وذلك الذي عبَّر عنه (جريجوريوس الحجار) أسْقف عكا وحيفا في شهادته أمام اللجنة الملكية التي زارت فلسطين عام 1936 قائلًا: «لا يزال الفلاح العربي مثقلًا بالديون، بخلاف زمن تركيا، لذلك سعيت لدي المندوب السامي البريطاني مرارًا، كي يعيد فتح هذا البنك الزراعي العثماني، لاعتقادي أنه الوسيلة الوحيدة لنشل الفلاح من وهدة الخراب، وإنكم لا تريدون فتح هذا البنك، لكي يزداد الفلاح فقرًا، أو يُضطر إلى بيع أرضه لليهود، إن بنك (باركليز) هو حلقة صهيونية، وُجد ليستولي على الأراضي العربية بطريقة غير شرعية. لأنه يُقرض الفلاحين بفوائد مرتفعة نسبيًا، حتى لا يتمكنوا من رد ديونهم، فيستولي البنك عليها عندئذ بأبخس الأثمان».
ليست تلك الحيلة الوحيدة التي دبَّرتْها بريطانيا لسلب الملكية من العرب، فقد استخدمت حكومة الانتداب مشروعات الامتياز لتمرير أراضي فلسطين لليهود، مثال على ذلك الثري اليهودي (بنحاس روتنبرج) الذي أسَّس شركة برأس مال قدرُه مليون جنيه إسترليني لتوليد الطاقة الكهربائية، فمنحه المندوب السامي البريطاني امتيازيْن: الأول: رخصة لمدة 12 عاما لتزويد يافا بالإنارة والري، والامتياز الثاني: حصوله علي رخصة لمدة 70 سنة لاستغلال مياه نهري الأردن واليرموك، ليحصل بذلك الثري اليهودي على أكثر من 30 ألف فدان باسم المنفعة العامة، كما حصلت شركة البوتاس الفلسطينية على امتياز لمدة 75 سنة، مقابل الحصول على 15 ألف فدان بالإضافة لعمق مجاني من الأراضي تبلغ مساحته خمسة كيلومترات مربعة تبدأ من أقرب نقطة في الحدود الخارجية لخط الامتياز. وعدِّ كل مساحة من اليابسة نتجت عن انحسار مياه البحر الميت من أملاك الشركة، كما أعطى عقد الامتياز حقوقًا للشركة لنزع ملكية أية أرض خارج منطقة الامتياز تراها ضرورية من أجل مشروعها.
ورغم كل ذلك من تدخل القناصل الأوروبيين كغطاء للشراء، ومنظومة التشريعات البريطانية لتفكيك الملكية وإفقار الفلاح وصغار الملاك، وامتيازات استغلال الأرض من حكومة بريطانيا، كان كل ما امتلكه اليهود من أراضي فلسطين لا يزيد عن 6% حسبَ كلام (ديفيد بن جوريون) أول رئيس وزراء صهيوني، أمام لجنة الأمم المتحدة الخاصة بفلسطين (الأونوسكوب)، معظمها من المصادر الأجنبية أو كبار الملاك العرب من غير الفلسطينيين.
المصادر
- كتاب الجذور الاجتماعية للنكبة. د أكرم حجازي
- موسوعة بلادنا فلسطين، مصطفى مراد الدباغ
- كتاب دور القنصليات الأجنبية في الهجرة والاستيطان اليهودي في فلسطين، د نائلة الوعري
- الجذور الاجتماعية للنكبة- أكرم حجازي، صفحة 76 ↩︎