أمة الشهادة غائبة، فهل تبعثها البلاءات؟

اليوم تشتعل قضية فلسطين من جديد، تهتز بقايا الإيمان أو آثار الضمير لما ترى من قتل وإبادة وإفساد، فتُحدث في النفوس ما تحدث، وتفور المشاعر وتهتز قناعات أو تتفكر في حالها وواقعها فئات شتى من جسد الأمة المتهالك. ولكن هذه الهبَّة الشعورية، هل ستكمل طريقها لتصنع واقعا عمليا تنفذ من خلاله آيات الله في القلوب والعقول، أم أنها كغيرها ليست سوى يقظة وقتية سرعان ما يعود الجسد المثقل بالدمامل والجراح إلى السكون والنوم على الشوك الذي اعتاده حتى صار لا يحس به؟ 

لقد اعتاد العالم منا تلك الإفاقة اليسيرة في كل جيل منذ بدء قرون الانسلاخ من الهوية ونسيان قيمة الوجود والهوان على النفس والآخرين، ثم ها نحن في جيل ترفٍ وضياع؛ فما عاد يذكر من يكون وإلامَ ينتمي، فجاءته صور فواجع ومآس لم يعهدها أو كان مغيبا عنها، لتقص عليه الحكاية كلها. تزلزت الأرض مرات وانتفض السيل ولم تغب طائرات الموت وقذائف النار عن سماء الشام وأرض الرباط، فهل تعيد تلك الرجفات المتتالية إلى مسلم اليوم ذاكرته المفقودة، فتعود للأمة عافيتها، وتنبعث لدورها من خضم الابتلاءات؟

أمَّتنا، كيف كانت وكيف غابت؟

لقد ابتعث الله هذه الأمة للخليقة لتكون المثال والشاهد على غيرها، تصلح فساد الأرض بما معها من حق، وما أنزل الله لها من شرائع. وقد جعل لها مقومات تحفظ لها دورها وتعينها على أداء ما كُلفت به، وأهمها أن تكون قائمة بالقسط منضبطة بالميزان الذي يصبح لغيرها معيارا تقيس به اعتدال حالها، ولا تكتفي بأن تتطلع إليها الأمم، بل تصير داعية خير لا تترك أمة دون أن ترسل لها رسل التبشير والإنذار، تمدها بما معها من خير وتأمرها أن تأتيه إن أرادت النجاة والحياة الطيبة، وتنكر عليها أن تنحدر في مسالك الضلال، فتَفسد وتُفسد غيرها. 

وقد قامت بوظيفتها في تعريف الناس بربهم، وبتفعيل منهجه في سلوكهم وفي سياستهم ومعاملتهم في زمانها الأول، ثم راحت تفقد من مقوماتها تباعا ما يخل بوظيفتها عبر أزمانها المتتالية حتى صارت اسما دون مسمى، وأصبح وجودها غثائيا لا يغيث ولا يغاث. وحين يغيب الأصل لا بد أن يحضر البديل الزائف، لذلك وقعت الأمة التي تركت موقعها فيما حذرها منه نبيها، فاتبعت سنن من سبقها، ودخلت جحر الضب وراءه بلا روية ولا تمييز. وفي خضم ذلك استمدت ممن يعاديها فكرا مخالفا وعلما زائفا وفهما معوجا، فكان عاقبة الأخذ المتتابع واللهث لدخول الجحر المسموم ذلك الوهن يسري في أنحائها، فيجعلها تخشى وترهب المدافعة، بل تخشى أقل من ذلك بكثير، أن تفقد شيئا مما اعتادته، أو تقدم يسيرا مما تملك. وصارت تنكب النكبة وراء أختها، فلا تكاد يتحرك منها إلا أنحاء متفرقة لا تملك أن تحمل الجسد كاملا فتقيمه وتجعل من نكباتها المتتالية خطا معاكسا يقوي ظهرها ويبعثها من جديد.

لكننا نرى من آثار رحمة الله بهذه الأمة ما يجعلنا نوقن بالحكمة الربانية وبالتدبير الإلهي، فلو شاء الله لترك هذه الأمة على ما هي عليه من نسيان وغفلة تُستدرج ويُملى لها كما يُستدرج من غضب عليهم الله ومكر بهم. لذلك يرسل لها رسل التذكير وآيات الرهبة لكي تخرجها من حيز العالم المشهود ومن غمرات الدنيا إلى حقيقة الغيب الذي تفر منه النفوس، إلى الحق الذي لا يجب أن يغيب، وإلى الغاية التي يجب أن تعمل لها. وإن مما نراه واقعا ونرجو أن تفقهه القلوب والعقول تلك الملامح التي تصنعها أو تشير لها الشدة أو الضغط المولد للبقاء أو الحياة، تخبرنا أن الله يصنع لدينه رجالا، ويحيي في أمة نبيه قلوبا بتدبيره وعلمه، ولعل من أبرز الشواهد التي يمكن أن نرى فيها ذلك ما يلي: 

أمة تجد ميثاقها

يحمل البلاء الأمة على التلفت يمنة ويسرة فلا تجد إلا سهاما تتجمع من كل صوب، فتبحث عن كهف للإيواء، أو حائط صد أو حتى جمر تقبض عليه وتتقد به، فلا تجد إلا كتاب ربها وسنة نبيها، تجد فيه الواقع متمثلا صادقا، كأنه يتنزل اليوم، كأنه يشهد الأحداث ويلقي إليها بأطواق النجاة. فينتبه من كان له أصلٌ يرده، من كان غافيا أو ناسيا، من كان يسأل ولا يعرف، فتأتيه الإجابة يقرأها في القرآن وفي السنة ويجد مصداقها واقعا يتحقق أمام عينه. فإذا ازدادت الفئة المؤمنة يقينا وازدادت فهما وتبصرا، عرفت كيف تحرر قدميها وألقت عجزها وراء ظهرها لتقوم بما توجبه الاستطاعة ويتطلبه واجب الوقت. وتلك الاستجابة الاضطرارية وذلك اللجوء المتكرر لمن بيده وحده كشف الضر والبأساء يجعل لدى أبناء الأمة مخزونا متراكما يعلمها ويذكرها بما يجب عليها وبما ينفع معها. تستعيد الأمة ذاكرة الخذلان وتجارب الفكرة المستعارة والمحاولات المبتورة، لتجد أنه لا مفر من الطريق الأوحد، طريق الاستهداء بما أنزل الله، والاعتصام بحبله الذي يجمع بين أنحاء الجسد المتفرق بنداء الإيمان ويحمله على التخلص مما طبع عليه الآخر من أوهام التفكير وتناقضات الفهم وانعكاس الأوليات. 

تتعلم أصولها وتاريخها

ولقد رأينا كيف جعل البلاء المتطاول ذلك الفرع من أغصان الأمة يقوى ويشتد، جعله قادرا على الفداء ودفع ثمن الغياب القديم، فلا ريب تتفتح في الأفق براعم وفروع أخرى تدرك ما لم تدركه من قبل. ترى العيون المبصرة كيف يقع البلاء إذا أراد الله فلا يرده سواه متى شاء، وتتعلم معه كيف تكون الحياة؛ ما قيمتها وما ثمنها، بل وما معناها. ترجع إلى نفسها حين تدرك ثمن ابتعادها زمنا، كيف شغله غيرها فوضع قوانينه ونظمه وخرائطه وألويته وجعل صوته الأعلى وسوطه الأقوى يلهب به الظهور والأبدان لتسير طائعة في ركبه مرغمة أو راضية. يدرك الصغار قبل الكبار ممن يشهدون تداعي الأمم ووقوع الكوارث أو الآلام الشديدة أننا مختلفون دينا وثقافة وقيما، وأن ما لدينا يؤهلنا لحياة عزيزة تصلح الإنسان والأرض حقيقة وليس إفكا وادعاء. فوحدها قيم السماء من تصنع ثباتا ويقينا وفرحا ببيع النفس لله، ووحدها من تجمع القلوب على كلمة سواء وعلى ترك الحظوظ والتماس الأجر ممن له الأمر وله الملك والتدبير. يبحث الجادون الآن عن أنفسهم ويجدون أن لهم ما يشرفون به وأنهم يملكون العيش بدون البضاعة البديلة، فلديهم أصلٌ يدلهم على ما غاب عنهم ولديهم قدرات يصنعون بها حاجتهم الحقيقية، وبين أيديهم مثال لعطاءات ربانية تضاعف قوتهم إذا ما أخلصوا العمل وقاموا بالواجب المستطاع.

تعرف وجوه عدوها

ومن الآثار التي يمكن للأمة أن تضع عليها الأقدام لتسير إلى استعادة دورها، ظهور وجه العدو سافرا واجتماع أولياء الباطل، ولم يكن اجتماعهم بجديد، فهو إرث متبادل لا يكاد يتوارى حتى يخرج سافرا بين آونة وأخرى. لكن النسيان آفة الإنسان وزاد الآفة قبحا ذلك الانفتاح والغزو الناعم المتمكن في العقود الأخيرة، غزو حمل ألقابا يسيل لها لعاب المهزوم حضاريا، الطاعم من مائدتهم، الشارب الظامئ من بحارهم، فيتلقف الكلمة معجبا، فهذه حرية وهذه إنسانية، وهذا فن وجمال وذاك رقي وتقدير ومساواة وتلك علوم واختراعات، إلى غير ذلك من القائمة التي تطول. ولم يصلنا غزو الأفكار عبر انفتاح بوابات التواصل فحسب، بل فرغت بلاد من أهلها، وفتحت بلاد أخرى أبوابها تستقبله كي تطيل أعمارها وتضع بصمتها الدامغة في القلب والصدر، وليحمل الجميل فيقر لها بالفضل غافلا أو عامدا. وهذا الأثر وإن اختلفت درجاته بين من تلقاه ومن تعرض له راغما أو مضطرا أو موافقا مرحبا، إلا أنه قد خلق في نفوس قطاعٍ من الأمة كبيرٍ أنه لا عدو للأمة إلا نفسها، وأنها مغرمة بنظرية المؤامرة وبإحساس الضحية، وأنه لا ثمة عداء ولا اهتمام من الآخر بنا إلا بقدر المصالح والسياسات. وإن القول كله لم يكن ليكون نافذا قدر ذلك الحقد النافذ والعبارات الصريحة والفعل الواضح الذي لا تأويل معه، أفعال وأقوال تقول بلا مواربة: نحن في صف وأنت في صف أيها المسلم، ولا يحق لك أن تتطلع ولا أن تحاول ولا تعتز وتفخر، بل لا يحق لك أن تصرخ أو تدفع عنك ألما وظلما، يكفيك أن تكون لنا جسرا وأن تسمح لنا بجعل جسدك الكبير سوقا ومعملا.

مع رصد تلك الإفاقات، فإن الواقع الذي تشهده الأمة لا يخلو من المزيد من فسائل الأمل، تلك التي تحتاج أن توجهها كلمات الدعاة وجهود المصلحين، فتجتمع على خطاب متقارب يضع الأولوية للخروج من الجحر الخانق، والاعتزاز بهوية حقيقية غير مختلطة ولا متناقضة، كي لا تجف الثمرات الآنية سريعا كما كان يحدث من قبل، فلقد كان من دعاة الأمس ومعلمي اليوم من يشير بوضوح وصدق إلى موضع الداء ويصف الدواء لكن الأصوات المختلطة كانت أقوى في التأثير وذهاب الجهد.

لذلك فإن الأمل الذي تحيا به القلوب المؤمنة بربها المصدقة لوعده، يحتاج لتحققه في الواقع عملا متتابعا يبدأ بالفهم السديد لسنن الله ووعوده وبشاراته وكذلك وعيده وإنذاراته، وتسير إلى جنبه الحركة التي لا تنظر إلى شرق أو غرب، إنما تتلمس الهدايات القرآنية والآثار النبوية ثم تضيف إليها من دروس التاريخ وعمل الحاضر المتقن ما يجعلها تتبصر وتحسن إلى نفسها وإلى غيرها.

مقالات ذات صلة

‫2 تعليقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى