
إبادة غزة.. التي لا تراها الصحافة الفرنسية
نحن أمام انهيار مستمر في أداء معظم وسائل الإعلام الفرنسية الكبرى، التي ساهمت بشكل كبير، عبر انحيازها وصمتها، في تقبل التبرير للإبادة الجماعية.
تحقيق حصري قامت به مجلة (L’Humanité /لومانيتيه: الإنسانية الفرنسية)، بالتعاون مع منظمة (Tech for Palestine) غير الحكومية، تمكنت من تحليل بيانات 13,394 مقالًا حول تغطية الأحداث في الصحف الفرنسية الكبرى التالية: L’Humanité و Libération و Le Monde و Le Figaro و Le Journal du Dimanche.1
وخلصت الصحيفة بعد هذا التحليل إلى القول: «يمكننا أن نستنتج بأن الصحافة الفرنسية ليس لديها التزام أخلاقي تجاه الفلسطينيين، وعند النظر في تغطية الإعلام الفرنسي للهجوم الإسرائيلي عقب أحداث السابع من أكتوبر، يتضح لنا أمر واحد: أنه على الرغم من الحصيلة البشرية الرهيبة من القتلى والجرحى، فإن قصة الحرب في غزة، التي ترويها العناوين الرئيسية للصحف الفرنسية، تميل إلى إخفاء الضحايا في الجانب الفلسطيني».
يكشف تحقيق الصحيفة الفرنسية حجم الانحياز الإعلامي الفرنسي الواضح في تغطية الحرب على غزة، حيث يتم تهميش معاناة الفلسطينيين وتبني لغة ومفردات تعزز رواية الكيان المحتل، هذا التعامل لا يعكس فقط فشلًا مهنيًا في نقل “صورة متوازنة” عن الأحداث، لكنه يساهم في التلاعب بالرأي العام لصالح المحتل المعتدي، وهذه الجناية على أصحاب الحق والحقيقة، سرعان ما يُفتضح زيفها، كما يقول التحقيق: «عندما يفتح قطاع غزة قريبًا أمام الصحفيين الدوليين، سوف ينكشف للعالم كذب السردية الإعلامية التي رددناها، وذلك عند رؤية حجم الدمار والمعاناة بشكل مباشر».
هذه التغطية الإعلامية المتحيزة والمنحازة للكيان المحتل، تمثل تواطئًا متعمدًا ومشاركة في الإبادة الجماعية في غزة والتي استمرت 15 شهرًا، مثل هذه المواقف يجب أن ترصد وتسجل وتحفر في الذاكرة حتى لا يُنسى أولئك الذين شاركوا في الإبادة بكتم الحقيقة وإخفاء الحقائق وسرد الأكاذيب وترويجها.
نص التحقيق
“قالت الصحفية “أوجيني باستييه” من صحيفة (لو فيغارو): الناس خائفون، وملتزمون بقواعد الصمت، وبغض النظر عن الجدل الذي يغذيه اليمين التقليدي أو اليمين المتطرف، لا يوجد ما يشير إلى أن الصحافة الفرنسية قد تأثرت بمحنة الفلسطينيين منذ 7 أكتوبر 2023.

فمنذ السابع من أكتوبر، اتّسم التعامل مع الهجمات الإسرائيلية القاتلة بنوع من الحذر، وعلى الرغم من حجم الدمار والخسائر الفادحة في الأرواح (46,344 قتيلًا مؤكدًا حتى 3 يناير 2025) ورغم حرص هيئات تحرير الصحف الفرنسية على تغطية الصراع، إلا أنها تجاهلت المتضررين الأساسيين.. الفلسطينيين.
عندما قمنا بتحليل المقالات باستخدام مصطلحي “فلسطينيين” و”فلسطينيات”، وجدنا أنهم يظهرون في أقل من نصف المقالات التي تتناول الحرب الدائرة.
ففي صحف (لوموند) و(لومانيتيه) و(ليبراسيون)، بلغت نسبة المقالات حول الحرب التي تذكر اسم الفلسطينيين: 47% و41% و37% على التوالي، أما بالنسبة لصحيفة (لو فيغارو)، فإن هذه النسبة تنخفض إلى 28%، أو أقل بـ 19 نقطة من (لوموند)، وأقل بـ 13 نقطة من (لومانيتيه)، وأقل بـ 9 نقاط من (ليبراسيون)، ولكن في صحيفة (لو جورنال دو ديمانش) يظهر هذا الإخفاء بشكل أكثر وضوحًا، حيث إن 21% فقط من عناوين المقالات حول الحرب في غزة تذكر (الفلسطينيين).
وعلى العكس من ذلك، فإن (لو جورنال دو ديمانش) يذكر الإسرائيليين في 32% من المقالات، أي ما يقرب من ثلث المقالات، وقبل كل شيء أكثر من (الفلسطينيين) بنحو 11 نقطة، ويمكن ملاحظة نمط مماثل على صفحات (لو فيغارو) و(ليبراسيون) و(لوموند)، حيث بلغت نسبة 33% (بزيادة 5 نقاط عن الفلسطينيين)، و46% (بزيادة 8 نقاط)، و50% (بزيادة 3 نقاط) على التوالي، وفي صحيفة (لوموند) ذُكر الإسرائيليون في 35% من المقالات، أي أقل بـ 6 نقاط من الفلسطينيين.


تقول “ناتالي جودارد” مديرة عمليات منظمة العفو الدولية في فرنسا، في تحليلها: «لدينا انطباع غامض إلى حد ما، كما لو كانت هناك كتلة من البشر غير مرئية لنا، فبالإضافة إلى إخفاء المجزرة بحق الشعب الفلسطيني، يثير هذا الأمر ملاحظات أخرى حول السرد الإعلامي لحقيقة ما يجري في غزة».
وتقول “بولين بيرينو” الصحفية في “أكرميد” وهي جمعية متخصصة في نقد وسائل الإعلام: «بشكل واعٍ أو غير واعٍ، فإن هذه النقطة العمياء في لغة الخطاب الذي يستبعد الفلسطينيين، تسير بالتوازي مع عمليات الاستبعاد وتدمير، الهوية الوطنية الفلسطينية التي تنفذها دولة إسرائيل منذ عقود».
كما أن هناك عملية أخرى طويلة الأمد تنفذها الدولة الإسرائيلية، والتي مرت دون أن يتم تسليط الضوء عليها، وهي (الاستيطان في الأراضي المحتلة)، ففي حين أن مصطلح “الاستيطان” يظهر في 10% من مقالات (لومانيتيه)، و7% من مقالات (لوموند)، فإنه يظهر في 4% فقط من صفحات (لو جورنال دو ديمانش)، و2% من صفحات (ليبراسيون) و(لو فيغارو).
يقول “دومينيك فيدال” الصحفي والمؤرخ: «من حيث النسبة، فإن مقارنة ما يتم كتابته عن الحرب الآن، بما كان يُكتب عن هذه القضية في السابق… سنرى أننا بعيدون جدًا».
إلا أن الحرب على غزة لم توقف الاستيطان، بل على العكس تمامًا، فقد تم تسجيل 1746 هجومًا من المستوطنين بين 7 أكتوبر و3 يناير، وبتشجيع من الخطاب العنصري للوزيرين الإسرائيليين اليمينيين المتطرفين: “بتسلئيل سموتريش” و”إيتامار بن غفير” قد أودت هذه الهجمات بحياة 791 فلسطينيًا.
تشويه الصورة بشكل أفضل!!
أما بالنسبة لـ (الإبادة الجماعية)، التي تعترف بها الآن منظمات مثل (منظمة العفو الدولية) ومنظمة (أطباء بلا حدود) و(هيومن رايتس ووتش)، فإن عدم اهتمام وسائل الإعلام بها أصبح أكثر وضوحًا، وإذا نظرنا فقط إلى المقالات المنشورة منذ 26 يناير 2024، وهو التاريخ الذي حذرت فيه (محكمة العدل الدولية) من خطر الإبادة الجماعية في غزة، نكتشف أن ثلاث من الصحف الفرنسية الخمس التي تم تحليلها استخدمت المصطلح في أقل من 10% من مقالاتها عن الصراع، فتبلغ النسبة 6% في صحيفة (لو فيغارو) و7% في صحيفة (ليبراسيون) و8% في صحيفة (لو جورنال دو ديمانش)، بينما تتجاوز هذه النسبة 10% في صحيفتي (لومانيتيه) و(لوموند)، إلا أنها تظل منخفضة، ففي (لومانيتيه)، وصلت النسبة إلى 18%، أي ثلاثة أضعاف (لو فيغارو)، أما في النسخة المسائية من (لوموند)، فكانت النسبة 11%.
تقول “بولين بيرينو”: «من الواضح أنه قبل تاريخ 26 يناير، لم يُدرج مصطلح (الإبادة الجماعية) في الأجندة الإعلامية للصحف الفرنسية، على الرغم من أن المصطلح قد تم استخدامه بسرعة من قبل بعض الباحثين والمفكرين والمحامين، وكذلك من قبل الفلسطينيين أنفسهم، ورغم تكرار المصطلح في بعض الصحافة الفرنسية، إلا إن هذا لا يعني أن التغطية الإعلامية كانت على مستوى حدث تاريخي كهذا».
يمكننا أن نربط جزءًا كبيرًا من هذه الحالات بحملة التشويه والتغاضي شبه المتعمد لأولئك الذين يذكرون (الإبادة الجماعية)، وهذه الحملة تم تنفيذها بشكل رئيسي في وسائل الإعلام السمعية والبصرية، ولكنها كانت موجودة أيضًا في الصحافة من خلال المقالات الافتتاحية والتحليلات.
لقد عانت (منظمة العفو الدولية) من عواقب هذا الاستبعاد، حتى قبل نشر تقريرها عن الإبادة الجماعية، الذي تم الإعلان عنه في 4 ديسمبر 2024، تقول “ناتالي جودارد” مديرة عمليات منظمة العفو الدولية في فرنسا: «بعد 7 أكتوبر، حاولنا التعامل مع الأمور بالحقائق والتحليل القانوني، في وقت كانت فيه العاطفة والاستقطاب هي اللغة السائدة على كل شيء آخر، لقد تعرضنا لهجمات شديدة ومنظمة للغاية ومتكررة، وتم انتقادنا بسبب استخدامنا للمصطلح، وتم تضخيم الأمر من خلال مئات المشاركات على وسائل التواصل الاجتماعي».
المعايير المزدوجة

بالإضافة إلى إخفائها للحقائق، تطبق الصحافة الفرنسية معايير مزدوجة على الفلسطينيين، فبينما تتصدر أخبار الوفيات الإسرائيلية الصفحات الأولى، فإن الوفيات الفلسطينية غالبًا ما تُختصر في بضعة أسطر، أو في تحقيقات صحفية محدودة.
كما هو الحال مع عمل وكالة “مجلة 972” الاستقصائية الإسرائيلية الفلسطينية، التي كشفت في أبريل 2024، عن الاستخدام المنهجي للذكاء الاصطناعي من قبل الجيش في عمليات القصف، الذي يتسبب في عمليات قتل عشوائية للفلسطينيين، فبدلاً من أن نذكر الوصف الصحيح (القتل العشوائي)، فإننا نتحدث عن “إعدام مستهدف”، وهو المصطلح الذي يستخدمه الإسرائيليون، وهذا النوع من المفردات والتعابير يُعد امتدادًا للدعاية الإسرائيلية، وهو ما يتناقض تمامًا مع الحقيقة ومع ما يدركه القراء عن الصراع.
تقول “بولين بيرينو”: «استخدام مثل هذه المفردات غير الصحيحة، يراد منه التقليل من حدة العنف الإسرائيلي، دون أن يبدو الأمر كذلك، لأننا نتبنى المفردات العسكرية لأحد الأطراف في الصراع».
وعندما يتم التوصل إلى اتفاق لوقف إطلاق النار بين حماس وإسرائيل، وعندما يتمكن الصحفيون من جميع أنحاء العالم من دخول المنطقة ومتابعة حجم الدمار والمجازر والحرمان، فسندرك حينها فداحة عدم استخدامنا للكلمات الحقيقية.
اختيار الكلمات.. صراع داخل الصراع
بينما تستمر الحرب في غزة منذ أكثر من عام، تُمنع الصحافة الأجنبية من دخول القطاع الفلسطيني، ولتغطية الأحداث بعيدًا عن الميدان، تعتمد وسائل الإعلام على المصدر الرئيسي للمعلومات وهو (الجيش الإسرائيلي)!! إلى درجة أنها تعيد استخدام مصطلحاته، وبالتالي إخفاء حقيقة العنف.
هل يمكن (إخفاء) سقوط ما بين 400 إلى 500 قنبلة كل يوم على قطاع صغير مساحته 360 كم2؟
وفقًا لزملائنا في الصحافة الفرنسية، نعم.. هذا ممكن!!
هذا التعتيم على القصف المنهجي الذي يتعرض له سكان غزة لم يتضاءل مع مرور الوقت أو ظهور الأدلة، بل على العكس من ذلك، فإن استخدام مصطلح (الضربات الدقيقة) ومشتقاته قد احتل تدريجيًا الصدارة في أعمدة صحفنا.
تقول “بولين بيرينو”: «إن (الضربات) تشير إلى (القصف) الذي يقوم به حلفاء فرنسا، لكن في الحقيقة والواقع، فإن الحلفاء لا (يضربون)، بل (يقصفون)».2
وتتابع قائلة: «وراء هذا المصطلح نجد مصطلح (الأضرار الجانبية) سيئ السمعة الذي لا يزال مستخدمًا، هذا المصطلح الذي استحدثه الجيش الأمريكي خلال حرب الخليج الأولى، وقد أصبح هذا المصطلح (الملطف للقصف والأضرار المصاحبة له) منتشرًا في الصحافة الفرنسية منذ بدء التدخل العسكري الإسرائيلي في غزة.
وإذا قمنا بتحليل الكلمات التي استخدمتها الصحافة الفرنسية لتغطية الحرب، نجد أن جميع الصحف التي قمنا بتحليلها، باستثناء صحيفة (لومانيتيه) تميل إلى استخدام مصطلح (الضربات) أكثر من (القصف)، وفي بعض الأحيان بنسب كبيرة.
ففي المقالات المنشورة في صحيفة (لو فيغارو) استُخدمت كلمة (ضربات) في المتوسط 0.54 مرة في كل مقال، مقارنة بـ 0.19 مرة لكلمة (قصف)، أي أكثر بثلاث مرات تقريبًا، وتوجد النسب نفسها في صفحات (ليبراسيون) و(لو جورنال دو ديمانش).
وهو ما يكشف عن خيار تحريري متعمد للغاية، يميل إلى تبرئة القوات المسلحة الإسرائيلية، التي يقال إنها تدمر القطاع الفلسطيني وتقتل سكانه.. عن غير قصد!!
لذلك بينما يمثل السابع من أكتوبر، في الصحافة الفرنسية، رعبًا مطلقًا بسبب مقتل المدنيين الإسرائيليين، نرى تبرير قصف المستشفيات في غزة المليئة بالنساء والأطفال بحجة اختباء أعضاء من حماس فيها.
صناعة التبرير للإبادة

ويمكن تفسير هذا التحيز على وجه الخصوص من خلال التركيز على هجمات السابع من أكتوبر، وكأنّ الزمن توقف عند تلك اللحظة، ولم يحدث بعد ذلك أي شيء أكثر فظاعة منه، وباستثناء كلمة “الإنسانية”، نجد مصطلحي “السابع” و”أكتوبر” تحتلان الصدارة في الروابط الأكثر شيوعًا مع كلمة “مجزرة” في جميع الصحف التي تم تحليلها.
ففي صحيفة (لوموند)، يرتبط مصطلح “مجزرة” غالبًا بكلمة “يهود” في قائمة الروابط العشر الأكثر استخدامًا، بينما يرتبط بمصطلح “معادٍ للسامية” في صحيفتي (لوفيغارو) و(لو جورنال دو ديمانش).
ويلاحظ “دومينيك فيدال” المتخصص في الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، أن رواية ما حدث في 7 أكتوبر وفقط، تهيمن بشكل شبه كامل على الخطاب الإعلامي الفرنسي، رغم أن علامات العنف الأعمى من الجانب الإسرائيلي كانت واضحة للجميع منذ يوم 8 أكتوبر 2023، ففي 9 أكتوبر مثلا، قال وزير الدفاع الإسرائيلي “يوآف غالانت”: «نحن نحارب حيوانات بشرية»، مؤكدًا أنه لن تكون هناك كهرباء، ولا طعام، ولا ماء في غزة.
في ختام التحليل تقول “بولين بيرينو”: «نحن أمام انهيار مستمر في أداء معظم وسائل الإعلام الفرنسية المهيمنة، التي ساهمت بشكل كبير، عبر تحيزاتها وصمتها، في تبرير القبول بالإبادة الجماعية في غزة».فقصف المدارس والمستشفيات، وتجويع السكان، ومنع المساعدات الإنسانية، وتعذيب الأسرى، واستخدام الفلسطينيين كدروع بشرية… لم تستطع أي من هذه الجرائم الكبرى في إثارة مشاعر إعلامية تقترب من تلك التي أثيرت حول يوم واحد فقط وهو السابع من أكتوبر“.
الهوامش
- أسماء ومعاني الصحف الفرنسية التي تمت تغطيتها في التحقيق: (L’Humanité /لومانيتيه: الإنسانية)،(Libération/ليبراسيون: الحرية)، (Le Monde/لو موند: العالم)، (Le Figaro/لو فيغارو)، (Le Journal du Dimanche/لو جورنال دو ديمانش: صحيفة الأحد) ↩︎
- الفرق بين (ضربات) و(قصف): الفرق بين استخدام كلمة “الضربات” بدلًا من “القصف” تكمن في الدلالة والانطباع الذي تتركه الكلمة لدى القارئ، فالاختيار بين الكلمتين ليس مجرد مسألة لغوية، بل يحمل أبعادًا من حيث التأثير الإعلامي والسياسي، واختيار الصحافة الفرنسية لمصطلح “الضربات” بدلًا من “القصف” يهدف إلى تخفيف حدة الوصف، مما يجعل الهجوم يبدو أكثر دقة وأقل تدميرًا.
في المقابل، مصطلح “القصف” يعكس واقعًا أكثر قسوة، حيث يُظهر الدمار الشامل وآثار العنف على المدنيين، هذا الاختيار ليس بريئًا، بل يعكس تحيزًا تحريريًا وسياسيًا يسهم في تقديم الرواية الإسرائيلية بشكل يبرر أفعالها، ويؤثر على فهم الجمهور لطبيعة وحقيقة الصراع. ↩︎